Pages

Wednesday, January 18, 2012

نسيان بأمر عسكرى

نسيان بأمر عسكرى

بعد أن قضت عطلتها الأسبوعية مع العائلة ، انسدلت أستار المساء ، وكان عليها العودة إلى منزلها ..
أقبل الليل ، وما ادراكم ما الليل؟ ولا كيف ينقضى ويمر عليها ؟ فهى تكره الليل بشدة ، تحصى دقائقه دقيقة بدقيقة ، وتظل متربصة تنتظر الصباح .
سأحكى لكم تفاصيل إحدى لياليها ....
بدأت ليلتها منذ أن وقفت أمام باب منزلها ، وتهيأت لفتحه ، اخرجت سلسة مفاتيح من حقيبة سودا معلقة على كتفها ، ادارت المفتاح فى ثقب الباب حتى انفتح ..
دخلت المنزل ، واشعلت كل الأضواء فهى تخشى الظلمة بشدة ..
نظرت فى كل أرجاء المنزل فلم تجد زوجها ، وحبيب قبلها ، وتوأم روحها ، ورفيق دربها موجودًا ..فشعرت بفراغ كبير .. كانت تشعر بأن المنزل كبير جدًا وفارغ ..رغم أنها تشعر بأنه صغير جدًا وضيق عندما يكونان معًا ، ويملأنه ضحكًا ، ولعبًا ، وفرحًا ..ودائمًا تفكر فى طريقة تتدبر بها أمر الحصول على منزل أكبر ..
كانت قد اشعلت كل الأضواء ... لكنها شعرت أن المنزل كئيب ومظلم ... رغم أنها تشعر بشعاع الأمل والبهجة يضئ كل أركانه عندما يكونان معًا ..
المنزل الذى يمتلئ بالسعادة والفرح عندما يكونان معًا ... بدونه خاويًا ... كئيبًا ..
المنزل الذى يمتلئ بالرقص واللعب والمرح عندما يكونان معًا ... بدونه عاجزًا .. صامتًا .. هرمًا..
المنزل الذى يفيض بالدفء فى أقسى ليالى الشتاء برودة .. بدونه يبدو باردًا يفيض صقيعًا فى أشد ليالى الصيف حرارة ..جدرانه باردة .. صلبة .. قاسية ... 
دخلت حجرة نومها لتبدل ملابسها .. وجدت ثيابه وحاجياته مبعثرة فى كل أرجاء الحجرة ، اشتاقت إلى الشجار معه بشأن حاجياته ..
قالت فى نفسها : لو عاد لن اتشاجر معه ثانية .. سألملم حاجياته فى هدوء .. سأتركه يتصرف على سجيته دون أن أحاول ضبط أفعاله وتصرفاته الطفولية .. كم أعشق طفولته ؟؟ كم أعشق همجيته البريئة ؟؟ كم أعشق حاجياته المبعثرة تمامًا كماأعشق أحلامه وأمانيه وأيامه المبعثرة ؟
بدلت ملابسها .. ارتدت بيجامتها زهرية اللون .. اختارتها من بين كل ملابسها آملة فى أن يعود فيجدها مرتدية هديته الأخيرة لها ..
وقفت تتأمل نفسها فى المرآة .. 
شعرت بذراعيه يلتفان حول خصرها من الخلف .. شعرت بدفء ضمته لها .. سمعت صوته يهمس فى أذنيها : أنتى زهرتى ..التفت خلفها فلم تجده ..
توضأت وتأهبت لأداء صلاة العشاء ..
وقفت فى وضع الأداء منتظرة حضوره حتى يصليا معًا كما اعتادا ...
انتظرت طويلًا ... لكنه لم يأت ..
لم تجد بُدًا من أداء صلاتها بإنفراد ... انهت الصلاة ...
فكرت فى تناول العشاء .. قررت أن تطهو البيض المفضل لديها ..
دخلت المطبخ ... حاولت كثيرًا أن تطهوه بحرفية كما يصنعه لها دائمًا ... لكنها لم تستطع ... المهم أنها طهته ..لا تهم الحرفية كثيرًا ستأكله على أى حال ..
وضعته على المائدة ، وجلست لتتناوله ...
وضعت لقمة فى فمها ... إنه سئ كالعادة .. فهى لا تجيد طهو البيض .. كان هو دائمًا من يطهوه .. فكرت بالتوقف عن تناول البيض تمامًا حتى يعود ، ويطهوه بنفسه ..
قررت أن تمتنع عن العشاء هذه الليلة ، وعلى أية حال فهى لم تكن جائعة .. ولم تكن لديها رغبة فى تناول الطعام أصلًا..
فكرت فى مشاهدة فيلم يساعدها على قضاء ليلتها ..
حاولت البحث عن فيلم ممتع حتى وجدته .. إنه فيلم " الرجل الذى فقد عقله " ، إنها تحب هذا الفيلم كثيرًا .. شاهدته عشرات المرات ولا تمل منه ، إنه يضحكها كثيرًا ..
جلست تشاهده .. لكنها هذه المرة لم تضحك .. ربما لأنها شاهدته كثيرًا، لكنها كانت دائمًا تشاهده ولا تتوقف عن الضحك ، ربما لأن أحدهم كان يجلس بجوارها على الأريكة أمام التلفاز .. ربما .. ربما ..
قررت التوقف عن مشاهدة التلفاز ..
نظرت إلى الساعة المعلقة على الحائط على يمين الأريكة التى تجلس عليها ، فوجدتها العاشرة ..
سألت نفسها إن كانت هذه الساعة تعمل أم أنها توقفت عن العمل ، فلابد أن الساعة قد تجاوزت العاشرة بساعات .. نظرت إلى شاشة هاتفها النقال .. فوجدتها العاشرة أيضًا ..
لم تجد حلًا لمحاربة الملل سوى النوم ، فبالنوم وحده تستطيع هزيمة الوقت ..
امسكت بجهاز التحكم ، وهمت أن تطفئ التلفاز .. لكن سرعان ما تراجعت .. قررت أن تتركه يعمل ليتردد صوته معها فى جدران المنزل ..
اتجهت إلى سريرها .. تمددت عليه ..
شعرت ببرودة شديدة .. 
ظلت تتقلب فى أوضاع كثيرة عدة دقائق ..
ثم قررت أن تنهض وتتناول كوبًا من الشاى يساعدها على الشعور بالدفء ..
اتجهت إلى المطبخ ، احضرت الكوب ، وضعت الشاى ، ثم قامت بصب الماء المغلى عليه ..
اصطحبت الكوب معها ، وخرجت إلى حجرة الجلوس لتتناوله ..
جلست على الأريكة ، تنظر إلى التلفاز بنظرة زائغة ..حتى سمعت صوت زوجها يأتيها من جهة اليسار ، يؤنبها قائلًا : لا تتناولى الشاى ليلًا ، حتى تستطيعى النوم بسهولة ..
التفت .. فلم تجده ..
جلست تراقب عقارب الساعة التى لا تتحرك ..
وبعد أن بأت كل محاولاتها السلمية للنوم .. قررت أن تتناول قرصًا منومًا كالعادة ..
فهذه الأقراص هى سلاحها الوحيد فى مواجهة الوقت ، الوحدة ، والملل ..
وضعت رأسها على وسادتها تنتظر الغفوة ... وهى تتسأل فى نفسها : هل سأستطيع يومًا النوم على هذا السرير بمفردى دون تناول الأقراص المنومة .؟؟؟
هل سأعتاد يومًا الصلاة بمفردى ؟؟
هل سأعتاد يومًا إعداد البيض بنفسى ؟؟ 
هل سأعتاد يومًا مشاهدة الأفلام بمفردى ؟؟
هل سأعتاد فقدان كلمات الغزل ؟؟؟
هل سأعتاد هذه الوحدة الإجبارية يومًا ؟؟ أم  سيرحم ضعفى وحاجتى إليه ويعود ؟؟
لو عاد لن اغضبه مرة ثانية ، لن افعل شيئًا يكرهه لمجرد معاندته وإثارته واختبار صبره علىً وحبه لى ، لن أرهقه بمتطلبات لا فائدة منها ، لن أزعجه بأمور تافهة ، لن اجبره على فعل شيئًا لا يحبه لمجرد إرضائى ...ظلت تحدث نفسها بلو ولو ولو حتى غفت تمامًا ..
....فى اليوم التالى ..
استيقظت على صوت خطواته ، وتحركاته الحذرة مخافة إيقاظها ..
قامت من سريرها ، مشت على أطراف اصابعها ، بحثت عنه .. فوجدته فى المطبخ .. يعد قهوته الصباحية ..
هذه المرة لم تكن تتخيل .. كانت حقيقة ...
راقبته من بعيد .. لم ترد إعلامه بإستيقاظها حتى ترى كيف سيتصرف معها ؟؟ كيف سيبرر غيابه ؟؟؟ كيف سيمحو ألم كل الأيام والليالى الماضية ..
ظلت تراقبه من بعيد ، حتى انهى إعداد قهوته ، واصطحب فنجانه ، واتجه إلى الشرفة لتناوله ..
دخلت حجرتها مرة ثانية ..
اخرجت فستانًا أبيضًا رقيقًا من خزانتها .. ارتدته ...اسدلت شعرها الاسود الحريرى ..
اتجهت إلى الشرفة ، لتفاجئه بأنه سامحته ، كل ما مضى ليس هامًا ، المهم أنه عاد ، المهم أنه عاد وكل شئ يمكن إصلاحه ..
كانت تمشى فى الطريق من غرفتها إلى الشرفة ، مشية متمايلة تفيض بالدلال ...
قبل أن تدخل الشرفة ..
رسمت على وجهها ابتسامة ساحرة .. قالت فى نفسها : سأدخل عليه مبتسمة ، وارتمى فى أحضانه ، ونتجاوز كل هذا الغيب ، سيحتضننى بقوة ، وسأنظر فى عينيه ، فأراهما لامعتان ، ينظران إلى بشوق ولهفة كما أحب دائمًا ..
دخلت الشرفة ، وعلى وججها ابتسامة تخجل الشمس من إشراقتها ، ينسدل على ظهرها شعر أسود لامع حريرى يخجل من نعومته موج البحر ..
كانت تتأهب للإرتماء فى أحضانه ، عندما وجدت الشرفة خالية ، وهو ليس موجودًا ...
ازداد خفقان قلبها بشكل مفزع ، وانطلقت نحو الباب مسرعة ، تحاول اللحاق به ، كانت تهبط السلم بسرعة مخيفة كمن يجرى من بين أنياب ليث قبل أن يلتهمه ..
حتى وصلت إلى شقة والدته الموجودة بالدور السفلى ، كان الباب مفتوحًا ، فدخلت مباشرة ..
خاف الجميع من طريقة دخولها عليهم ،، وازداد خوفهم عندما رأوها تلهث وتلتقط أنفاسها بصعوبة بالغة ،، بينما الجميع توقف متربصًا لسماع مبررهذا التصرف ، كانت تمشط أرجاء المنزل بنظرة متلهفة ..
نظرت فى كل أرجاء المنزل فلم تجده ... وقفت فى وسط الصالة تملأوها خيبة الرجاء ...
نظرت إلى الأرض بضع ثوان ، ثم رفعت رأسها تسأل الحضور عنه : هل جاء ؟؟
كان أبيه وأمه وأخيه وأخته موجودون جميعًا ...
نظروا إليها بنظرة تملأؤها الدهشة ، وسألوها : من أين يأتى ؟؟ وكيف يأتى ؟؟ وهل لازالت تمتلك الأمل فى عودته بعد مرور 259 يومًا على غيابه دون أى خبر ؟؟
بينما يحاول الجميع إقناعها بأن ما رأته كان خيالًا ، علا صراخ والدته قائلة : كفى عن ذلك .. ارحمى حالك ، وارحمينا معك ..
جلست على الأرض فى منتصف الصالة ، رفعت ركبتيها حتى ألصقتهما بمنبت عنقها ، ثم لفت ذراعيها فوقها حتى خبأت وجهها تمامًا.. ظلت كذلك للحظات .. ساد فيها صمت مريب أرجاء المكان ..
ثم رفعت رأسها قائلة بنبرة هادئة مستنكرة تملأوها الخيبة : المفروض انسى ؟؟
كيف لى أن انسى ، انسى أننا كنا معًا سبع سنوات ، انسى أننا حلمنا معًا بأن يولد أبنائنا فى عالم سعيد تملأه الحرية ، محكوم بالعدل ، تسوده مشاعر الإنسانية الخالصة ، كل خطئنا أننا حلمنا بعالم سعيد ، كنا أغبياء إلى حد أننا تجرأنا على الحلم بعالم سعيد ، أننا خرجنا معًا نطالب بتحقيق هذا العالم على أرض الواقع ، أننا نزلنا فى صباح هذا اليوم معًا .
كانت تملأنا مشاعر الرفض لكل ماهو سئ ، خرجنا معًا ، مشينا بأيدى متشابكة نهتف فى صوت واحد بحنجرة واحدة باسم الحرية .
كانت أيدينا متشابكة .. حتى اجبرتنا الفوضى والدمار على فك هذا التشابك .. 
فى لحظةٍ ما نظرت حولى فلم يكن موجودًا ..فى ليلة لم تفوح فيها سوى رائحة الموت .. لم يرو فيها الأرض سوى دماءً طاهرة .. لم يعلو فيها صوت فوق صوت الرصاص .. بينما الجميع ينطلقون إلى منازلهم وإلى الأختباء من قسوة الرصاص مشيت امشط أرصفة القاهرة بحثًا عنه ..لكننى لم أجده ..
كان الموت يشيتهينا فى هذا اليوم شهوة فاضحة ... لكنه لم يشتهينى للأسف من بين كل من نال منهم ..
هل تعتقدون أننى توقفت عن البكاء لأننى اقتنعت أنه لا يجدى ؟؟ أنتم مخطئون تمامًا ...
لقد توقفت عن البكاء لأن دموعى جفت ، لم أعد امتلك دمعًا أكثر ، كلما طلبت من عيناى أن يجودا بالدمع ، ليساعدانى على تخفيف الحمل قلبى ، أبيا ، وأجابا بالرفض ، لقد نفذ رصيد الدمع ، لم أعد املك دمع العين ، لا أملك سوى دمع القلب ..وقليل من رصيد الصبر.
من يطلب منى النسيان عليه أن يرشدنى إلى طريقة لتحقيقه ..
يخبرنى كيف انسى لمسة يديه الأخيرة حين احتضن يدى بين يديه ليطمئننى ، ليطرح عنى الخوف ...
يخبرنى كيف انسى صوته وهو يؤكد لى أننا سنعود إلى منزلنا سالمين ..
يخبرنى كيف انسى أنفاسه التى كانت تدفئنى فى يوم قاسى البرودة ..
يخبرنى كيف انسى أننا نزلنا معًا ، وعدت وحدى ..
أنا لا استطيع أن انسى ، بإراداتى لا استطيع النسيان ، أنا اخترت بإرادتى أن ارفض النسيان .. 
من كان يريدنى أن انسى ،، فعليه إصدار قرار عسكرى يأمر بالنسيان .. فى بلد لا تلتقط فيه الأنفاس إلا بأمر عسكرى ..
لا استطيع أن انسى سوى بأمر عسكرى ...
أو ربما يومًا يضحك لى القدر ويعود حبيبى بأمر عسكرى ... 

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.