إننا عبر صورة الجسد لا نملك سوى ضعفنا
(رولان بارت)
لم يعد الحظر على إنتاج الأعمال التشكيلية التي تتناول تابو الجنس من قبل الفنانين التشكيليين المنتمين للعالم الثالث الإسلامي ينفع في زمننا هذا. وان كانت هناك شواهد كثيرة خلّفها لنا الإرث الثقافي الإسلامي، تجاوزت هذا التابو. إلا أن هذه الشواهد بقيت مطمورة في الذاكرة التي أريد لها
الضمور في العصور اللاحقة وحتى القريبة، عن جهل وتجهيل، وسوء نية الأزمنة المريضة. ومعلوم لدينا أن العديد من مجتهدي الدين الإسلامي في العصر الوسيط قد أرّخوا للجنس بتفاصيل مسهبة، تناولت الناحية الفسيولوجية والوظيفية وما رافقها من حالات وجدانية تندرج ما بين الغرام والعشق والهيام والوجد، والفراق والهجر. ثقافة جنسية أقصت تابو الحياء المفتعل، تنويرا للذات عن بعض مفاعيل خبايا الجسد والوجدان المتأصلة في الذات البشرية. هذا إن لم نستشهد بالكثرة من النصوص الأدبية التي تناولت هذا الجانب الجسدي. بل حتى من سيرة الخلفاء أولياء الأمر في تلك الحقب الزمنية، وانفتاحهم على الثقافة المدينية بأوج أبهتها الدنيوية.
اعتقد أن الأدب الجنسي للعصور الإسلامية بقي طي الإدراج لاحقا، وليتناول شفاها تبصرا، أو تندرا. لكنّ كتباً أدبية مثل (ألف ليلة وليلة) كانت تبيحه في بعض من فصولها القصصية، ولتبقيه في المتناول. أما أن يتحول في زمننا الراهن إلى مواضيع شائكة تلاحقها ثقافات محلية متخلفة، أو سياسات ثقافية هامشية. فهذا أمر جديد، أبصرنا به واقع الانفتاح الثقافي العالمي في مجال الحريات الإنسانية. لقد انكشفت آفاق هذا الموضوع الغريزي وليتعدى كل حظر سواء من قبل بعض الفئات المجتمعية أو الدينية، او الدينية السياسية، الشرقية. ليس لمجرد التحدي. بل لكشف ممارسات مجتمعية ونخبوية غير سوية، توظف ارث المحظور بأبشع صوره لصالح منافعها الخاصة، منافع مبطنة بتبريرات تعداها الزمن.
منذ رسوم الكهوف والجسد حاضر. لكنه في العصر الزراعي اللاحق حقق حضورا جنسيا أكثر وضوحا (تماثيل الآلهة الأم، أو الأم). وفي عصور الرخاء النسبي الأحدث (عصور الحضارات) اكتسب قداسته المعبدية. وكان في أعلى وضوح قسماته في الحضارتين الفرعونية واليونانية ولم يعد للحياء وهو جزء من طقوس متأخرة، أن يحد من طغيان صوره. ثم ورثت الثقافة المسيحية هذا الطقس الأنثوي، اعلاء لشأن الجسد الذي خلقه الله في أحسن تقويم. واكتظت رسوم عصر النهضة بالأجساد النسوية الرائعة. ولم يعد عري الجسد خرقا للمحظور. كما لم تكن حضارات الأطراف الإسلامية ببعيدة كليا عن ذلك. إذ لم يكن مجتهدو الدين الإسلامي الوحيدين الذين خلفوا لنا بحوثا تناولت الجنس من جميع نواحيه. الشعراء تناولوه أيضا بقصائد لا تزال درراً في نصوصها. وكانت بلاطات الخلفاء لا تخلو مسامراتها من ملح بإيحاءات جنسية، مثلما لم تخل فضاءات قاعاتها من صدى أغاني الجواري والقيان الغزلية. ولم تكن أردية النساء كما هي بمواصفات الإسلام المتشدد الآن. هذا ما تخبرنا به رسوم تلك الحقب الإسلامية. من بغداد والشام حتى بلاد فارس والتتر والأناضول والهند والصين.
التابو الجنسي ملغوم بشروطه الإجرائية التي تفكك أو تحجم منظومة التفكير والإيعاز. وله ضوابطه الإجرائية المتلبسة بإشكالية مظهرية الجسد. وما يهمنا، بالنسبة للأعمال الفنية التشكيلية، هو هذه المظهرية التي شغلت حيزا كبيرا في أعمال الفن التشكيلي قديمه وجديده حتى أيامنا هذه التي شهدت انفجارا في تأويل المفاهيم و وليّها أو اشتقاقاتها لتناسب حراك العصر في توافقاته وتصادماته الفكرية والسلوكية. وما أجج من حدة هذه الصراعات التي كانت مسبباتها دفينة احياز ذهنيات مناطقية متباعدة. هو هذا الحراك العولمي المعلوماتي العنكبوتي الذي تسللت مجساته إلى كل الزوايا التي كانت مطمورة تحت ركام مخلفات عصور تجازوها الزمن.
أكثر الأعمال إثارة والتي تناولت (الجنس) جسدا قابلا على الإفصاح عن متناقضات الحالة الذهنية والسياسية الدينية، أو الدين ألسياسيي. هي أعمال الفنانين التشكيليين الإيرانيين، القاطنين إيران أو الأكثرية المهاجرة منهم. واهم ما تطرقوا إليه هو: أولا الفصل الحاد ما بين الجنسين. هذا الفصل غير المبرر إلا في عقول الملالي وتابعي تهويماتهم الفقهية التي يستمدون سلطتهم الدنيوية منها. وثانيا ظاهرة البغاء المقنع والصريح في مجتمعهم المحلي (*) الحاضر. وان تناول بعض الفنانين هذه المواضيع بشفافية وحرفية فنية عالية. فان البعض الآخر لعب على الإثارة وكسب تعاطف الآخر بشكل يدعو إلى الرثاء أحيانا، أو لمجرد تحقيق مصالح شخصية. لكن كلا الفريقين أنتجا أعمالا غزيرة تثير الانتباه وتدعونا لملاحظة هذه الظاهرة الفنية ودراسة مسببات نشأتها بهذا الزخم.
أشهر من اشتغل على ثيمة (العزل الجنسي) هي الفنانة الإيرانية الأمريكية (شيرين نشأت) التي اشتغلت مجموعة صور فوتوغرافية وظفت فيها الجسد نصوصا متسربلة على القسمات والأكف والبدن، نصوص التابو الديني ونقيضه المدني. كما أخرجت مجموعة أفلام فيدويوية أظهرت فيها مجاميع عزل الجنسين ومجالاتها المدنية والدينية واحياز فواجعها المتستر عليها. لقد اشتغلت غالبية أعمالها بشفافية وشعرية عالية واستحقت عليها التقدير. الفنانة الثانية (شادرين) هي الأخرى تناولت هذا الموضوع، لكن من منطقة القهر المنزلي. فالأنثى عندها قطعة مستهلكة من أدوات المنزل محجوزة ضمن زواياه الخدمية وجاهزة لاستهلاك الرجل وتلبية رغباته. قطعة مكنية منزلية وأداة ترفيهية.
من محاضرة للباحثة العراقية المغتربة(أمل بورتر) المعنونة(الواسطي والحرية في التعبير التشكيلي)، نقتطف منها هذا المقطع:
(لم تقف العوائق الدينية أمام الوسطي ورسم المرأة كما الرجل بكل وعي وحرية... وعن المرأة التي ترعى الجمال ـ في إشارة إلى أحد رسوماته ـ حيث نجد تكورات جسمها تبدو واضحة: ورك كبير وعجز كبيرة ويد رشيقة وخدود ملونة و زلف اسود يظهر بوضوح وعيون مكحلة كما وان الأكمام واسعة عريضة لا أعتقد بأنها تخفي الكثير).
لو تصفحنا غالبية المخطوطات والمنمنمات الأدبية الإسلامية لاكتشفنا الكثير من العوالم الفردوسية من قصص وقصائد العشق والغرام. الكثير من الأجساد النسائية الممشوقة القد والضفائر المجدولة زهورا. والأزياء الموردة المبهجة للنفس، والنفائس من الملامح الصبوحة. ولم يكن ظهور المحبين والعاشقين ووضعيات الهيام محظورة بفرمان. فللجسد أيضا طقوسه الربيعية، وفرحة انعتاقه. ومن أفضل من الفن ليسجل آثاره العطرة. وان خلق جسد الأنثى كالزهرة العطرة. ألا يجدر بنا رعاية عطره، لا قتل يفاعته وطمر ملامحه. وان كنا أجساداً نتبادل طقس الربيع، ألا يجدر بنا العناية بثناياه من اجل ديمومة بهجتنا، لا تكدير أنفسنا، وتقصير أعمارنا؟ ألا يمكن لنا احترام خلقتنا، لا طمرها وطمس ألوانها، كما هو حادث في عموم مناطقنا وفي الذروة من مكتسبات البشرية الحضارية ووضوح صورها وصورنا؟ ألا يجدر بنا مراجعة ولو حتى ارثنا الجمالي والذوقي ومعاينة شواهده المصورة والمدونة؟!
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.