رأس الحكمة
من قرية ساحلية منزوية وبعيدة عن العمران على ساحل البحر المتوسط، إلى استراحة ملكيّة ورئاسية منسية، قبل أن تطفو على السطح باعتبارها أكبر صفقة استثمارية في تاريخ مصر .
"رأس الحكمة" تخفي بين الرمال الذهبية الصفراء والمياه الصافية الزرقاء تاريخا طويلا يمتد لآلاف الأعوام، ما بين قرية أثريّة لم يبق منها سوى أطلال ومحطة فارقة على طريق ألغام الحرب العالمية الثانية، إلى وجهة سياحية واستثمارية تنقذ الاقتصاد المصري من عثرته .
رأس الحكمة
ظهرت "رأس الحكمة" كمدينة ساحلية مرفأية رومانية قديمة تسمى "ليومي أكتي" ومعناها "القمة البيضاء"، ويعد المؤرخ والجغرافي والفيلسوف اليوناني إسترابون (63 ق. م 24 م) أول من حدد الموقع الجغرافي للمدينة في موسوعته الجغرافية الضخمة "الجغرافيا في سبعة عشر كتابا"، حيث ذكر أن المنطقة كانت فيما مضى ميناء لتصدير الغلال والحبوب في زمن الإمبراطورية الرومانية وخصوصا القمح، فضلا عن الزيتون والنبيذ، حيث انتشرت العصّارات بكثافة هناك.
يذكر "إسترابون" أن المنطقة الممتدة إلى الشرق من "ليومي أكتي" لا تنتج نبيذا جيدا؛ لأن جرار النبيذ فيها تحتوي على مياه بحر أكثر من النبيذ، ويطلق على نبيذها اسم "النبيذ الليبي"، الذي هو أقرب ما يكون للجعة، وكان يحتسيه معظم السكندريين في العصر الروماني، ولكن نبيذ منطقة "انتيفيرا" -مارينا العلمين حاليا- والتي تبعد 6 كيلوات مترات عن العلمين "كان الأسوأ".
مع انتشار المسيحية في الإمبراطورية الرومانية خلال عصر عهد قسطنطين الأول، انتشرت الكنائس في ربوع الإمبراطورية، وخصوصا مصر التي احتضنت وآوت العائلة المقدسة، وشهدت "ليومي أكتي - رأس الحكمة" بناء العديد من الكنائس، واكتسب هذا الرأس البحري اسمه من تلك الكنائس فعرف بعد الفتح الإسلامي باسم "رأس الكنائس" أو "رأس كناليس".
الملك فاروق في مطروح
بمرور الوقت وتوالي الأزمان، باتت المدينة عبارة عن ربوة عالية تشرف على الشواطئ الزرقاء الصافية على البحر المتوسط، كما أصبحت الكنائس مجرد أطلال توحي بالطابع الديني لها، لكن زيارة ملكية قام بها الملك فاروق الأول (1936 1952م) غيّرت واقع المدينة الساحلية للأبد.
تفاصيل المشهد يرويه كريم ثابت، المستشار الصحفي للملك فاروق من خلال مذكراته “فاروق كما عرفته”، حيث يقول: “وفي ذات يوم نشر فاروق أمامي خريطة كبيرة للصحراء الغربية، وأشار إلى ربوة تشرف على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مرسى مطروح ، وقال لي (هذه ربوة لاحظت جمال موقعها الطبيعي وأنا أحلّق بالطائرة فوق الصحراء الغربية، وقد قررت أن أبني عليها استراحة صغيرة لأستجم فيها من وقت لآخر!)، وقال لي (إن اسم ذلك المكان كان رأس الكنائس فغيّره وجعله رأس الحكمة!!)”، ويستطرد ثابت في مذكراته “أن المكان كان رائعا بالفعل، لكنه لا يتسع سوى للملك وحده لانقطاعه عن العمران”.
تغيير اسم المدينة الجغرافي
يظل السؤال، متى قام فاروق ببناء هذه الاستراحة الملكية، ومتى قام بتغيير واقع تلك المدينة الساحلية الصغيرة؟، الإجابة نجدها في موسوعة "القاموس الجغرافي للبلاد المصرية من عد قدماء المصريين إلى سنة 1945م" لمحمد بك رمزي؛ حيث قال ما نصه، "الكنائس، هي نجع واقع بشاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأقرب محطة له هي محطة أبي حجاج الواقعة على السكة الحديدية، الموصلة من الإسكندرية إلى مرسى مطروح ، وتقع هذه المحطة على بعد 238 كيلومترا من مدينة الإسكندرية، وبين محطة أبي حجاج ورأس الكناس طريق غير ممهد طوله 1 كيلو متر، وفي سنة 1941 صدر قرار بتسميتها رأس الحكمة".
استراحة الملك فاروق في رأس الحكمة
بنى الملك فاروق استراحته الملكية في تاريخ لاحق بعد عام 1941 م عقب قراره بتغيير اسم المدينة من "رأس الكنائس" إلى "رأس الحكمة"، وأمام الاستراحة خصص شاطئا محاطا بالصخور على شكل جزيرة ليكون مصيفا للعائلة الملكية، وأطلق عليه أهالي المنطقة اسم "حمام الأميرات"؛ لأن أميرات الأسرة المالكة كن يقمن بالاستحمام فيه.
ظلت هذه الاستراحة الملكية بعيدة عن الأعين حتى 23 يوليو 1952 م، تم مصادرة القصور والاستراحات الملكية، أزيح الستار عنها، وخصصت مجلة المصور تقريرا عنها نشر في سبتمبر عام 1952م، حيث أشارت المجلة أنها عبارة عن فيلا أنيقة أقامها فاروق في "رأس الحكمة" على الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح ، وأحاطها بجنة من أشجار الفستق والبندق واللوز والجوز، وتمتد عبر مئات الأفدنة، وحول الفيلا هناك مبنى آخر خصص لرجال الحاشية، وجراچات للسيارات الملكية التي كان يستقلها الملك وضيوفه، وقد وجدت سيارتان كبيرتان، إحداهما تسير على الماء كما تسير على اليابسة، فيما كانت الأخرى صالحة لتسلق المرتفعات.
وذكرت "المصور" في تقريرها، أن الاستراحة مزودة بمولد كهرباء وخزان مياه وبرج للحمام، وفيها غرفة خاصة للزهور.
بعد إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، أصبحت استراحة رأس الحكمة استراحة رئاسية يرتادها الرؤساء، واستقبل فيها الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، والزعيم الليبي معمر القذافي، وغيرهما من الضيوف، كما كان يرتادها الرئيسان السادات ومبارك خلال فترة حكميهما.
هكذا كان ماضي "رأس الحكمة" منذ أن كانت مدينة رومانية قديمة تضم عشرات الكنائس، فيما يرسم حجم الاستثمار شكل تلك المدينة الذكية في المستقبل.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.