Free Web Submission http://addurl.nu FreeWebSubmission.com Software Directory www britain directory com education Visit Timeshares Earn free bitcoin http://www.visitorsdetails.com CAPTAIN TAREK DREAM: تقرير حصرى: "التجليات الروحية في الإسلام - نصوص صوفية عبر التاريخ " الجزء الثالث

Monday, February 3, 2014

تقرير حصرى: "التجليات الروحية في الإسلام - نصوص صوفية عبر التاريخ " الجزء الثالث

Photo: ‎“يا أخي أنت مجرد فكر 
وما بقي منك عظام وجلد” 

مولانا  جلال الدين الرومي‎

عاش الحكيم الترمذى فى القرن الثالث الهجرى، وتوفى بحسب أشهر الأقوال، سنة ٣٢٠ هجرية، بعدما ترك مجموعة من المؤلفات التى تفصح عناوينها عن موضوعاتها: ختم الأولياء، علم الأولياء، إثبات علل الشريعة، الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللُّبّ.. كما ترك الحكيم الترمذى (أسئلة) ليجيب عنها الصوفيةُ من بعده! فظلت قرابة أربعة قرون من الزمان، حتى أجاب عنها شيخ الصوفية الأكبر: ابن عربى.

وللحكيم الترمذى نصٌّ أدبىٌّ نادر، كاد يضيع تماماً مثلما ضاع كثيرٌ من متون تراثنا القديم، لولا مخطوطةٌ واحدة منه، بقيتْ محفوظة لما يقرب من تسعمائة عام (مؤرَّخة بسنة ٥٤٣ هجرية) وهى اليوم موجودة فى مكتبة «إسماعيل صائب» بأنقرة .. وعنوانها: رسالة بدو شأن أبى عبدالله محمد الحكيم الترمذى.

■ ■ ■

ورسالة: بدو شأن (أى: ظهور أمر) الحكيم الترمذى، نشرها قبل سنوات بعيدة د. عثمان يحيى، كملحق لتحقيقه الممتاز لكتاب (ختم الأولياء) وهو أشهر مؤلفات الحكيم الترمذى. غير أن المحقِّق لم ينتبه إلى الأهمية الأدبية لرسالة (بدو الشأن) ولم يلفت نظره تفرُّد هذا النص البديع. بل نراه يشتكى فى تقديمه للنص من أنه : وجيزٌ جداً، مقتضبٌ جداً، يعجُّ بالرؤى والأحلام، ولا ينقع غُلة الصادى تماماً.. (يقصد: لا يروى الظمأ!).
Photo: ‎وذلك الدعاء الذي لم يبح به لساني، والمقسوم للروح المكتوم فيها.

من ديوان شمس التبربزي لجلال الدين الرومي‎
وهكذا لم يعرف المحقق الكبير، رحمه الله، ولم يعرف معاصرونا أيضاً، خطورة «بدو الشأن» كنصٍّ فريد فى بابه، لا نكاد نجد له مثيلاً فى الأدب العربى، بل العالمى .. فالأدب الإنسانى عرف عدداً محدوداً من نصوص (السيرة الذاتية) التى تتماس مع ما يسمِّيه البعض (أدب الاعترافات) وهو ما نراه فى مؤلفات مثل: المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال، للإمام أبى حامد الغزالى - الاعترافات، للقديس أوغسطين- اعترافات جان جاك روسو.. وهى المؤلفات المفعمة بالنـزعة الإنسانية، وبالجرأة على حكاية وقائع الحياة بصدق.
Photo: ‎كما ترى، فإن حب الله محيط لا نهاية له، ويحاول البشر أن ينهلوا منه أكبر قدر من الماء، لكن في نهاية المطاف، يعتمد مقدار الماء الذي يحصل عليه كل منّا على حجم الكون الذي يستخدمه، وفي حين يوجد لدى البعض براميل، ولدى البعض دلاء، فإن لدى البعض الآخر طاسات فقط".

شمس التبربزي محدثاً مولانا جلال الدين الرومي‎
ولكن «بدو الشأن» تمتاز من هذه الأعمال التى حكت حيوات أصحابها، بأنها أكثر جرأة ومغامرة فى الكتابة، لأن الحكيم الترمذى يحكى فيها سيرته، مازجاً بين وقائع حياته والرؤى التى كان يراها، أو تراه فيها زوجته. وهو ما أعطى فى النهاية نصاً أدبياً بديعاً، لم نعرف له مثيلاً أو مشابهاً.. فلنقترب من «بدو الشأن» لنتعرف إلى هذا النصّ النادر، من خلال الفقرات التاليات التى أضفتُ إليها بعض الكلمات الشارحة بين قوسين، وضبطتُ مفرداتها حسبما يناسب القارئ فى أيامنا هذه:
Photo: ‎فالحب لا يمكن تفسيره ولا يمكن إلا معايشته واختباره
ومع أن الحب لا يمكن تفسير فهو يفسر كل شئ

شمس التبريزي‎
كان بدو شأنى، أن الله تبارك اسمه، قيض لى شيخى رحمة الله عليه، لـمَّا بلغت من السن ثمانيا، يحملنى على تعلم العلم ويعلِّمنى ويحثنى عليه، حتى صار ذلك لى عادةً وعوضاً عن اللعب فى وقت صباى. فجمع لى فى حداثتى علم الآثار (الحديث النبوى) وعلم الرأى. حتى إذا قارب سنى سبعاً وعشرين أو نحوه، وقع علىَّ حرصُ الخروج إلى بيت الله الحرام، فتهيأ لى الخروج.
Photo: ‎بعض الناس يتغذون عبى تعاسات الآخرين، ولا يحبّون رؤية أن ينخفض عدد البؤساء على وجه الأرض".‎
فوقفت بالعراق طالباً للحديث، وخرجت إلى البصرة، فخرجت منها إلى مكة فى رجب، فقدمت مكة فى بقية شعبان. فرزق الله المقام بها، إلى وقت الحج. وفتح لى باب الدعاء، عند الملتزم، فى كل ليلة سحراً. ووقع على قلبى تصحيح التوبة، والخروج مما دَقَّ وجَلَّ. وحججتُ، فرجعت وقد أصبتُ قلبى.
Photo: ‎“لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟” 
مولانا جلال الدين الرومي‎
ووقع علىَّ حُبُّ الخلوة فى المنـزل، والخروج إلى الصحراء. فكنتُ أطوف فى الخرابات والنواويس (المقابر) وطلبت أصحاب صدقٍ يعينوننى على ذلك، فعزّ علىَّ، فاعتصمتُ بهذه الخرابات والخلوات. فبينما أنا على هذه الحال، إذ رأيت فيما يرى النائم، كأنى أرى رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل المسجد الجامع فى كورتنا (بلدتنا) فأدخل على أثره فألزم اقتفاء أثره.
Photo: ‎ألا يقول الله{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }
فالله لا يقبع بعيداً فى السموات العالية ، بل يقبع فى داخل كل منا لذلك فهو لا يتخلى عنا ، فكيف له أن يتخلى عن نفسه؟ 
شمس التبربزي‎
فما زال يمشى حتى دخل المقصورة، وأنا على أثره، ومن القرب منه حتى كأنى أكاد ألتزق بظهره، واضعاً خُطاى على ذلك الموضع الذى يخطو عليه، حتى دخلت المقصورة. فرقى المنبر فرقيتُ على أثره، كلما رقى درجةً رقيتُ على أثره. حتى إذا استوى على أعلاها درجة، قعد عليها، فقعدت عند الدرجة الثانية من مجلسه عند قدميه، ويمينى إلى وجهه ووجهى إلى الأبواب التى تلى السوق، وشمالى إلى الناس. فانتبهت من منامى وأنا على تلك الحال.
Photo: ‎ولقد شهدت جماله في ذاتي             لما صفت وتصقلت مرآتي
وتزينت بجماله وجلاله                    وكماله ووصاله خلواتي
أنواره قد أوقدت مصباحي               فتلألأت من ضوئه مشكاتي

من قصيدة شمس التبربزي لمولانا جلال الدين الرومي‎
ثم من بعد ذلك بمدةٍ يسيرة، بينا أنا ذات ليلة أصلِّى، ثقلتُ فوضعتُ رأسى فى مُصلاَّى جنب فراشى، إذ رأيت صحراء عظيمة، لا أدرى فى أى مكان هى، فأرى مجلساً عظيماً، وصدراً مهيئاً لذلك المجلس، فكأنه يقال لى: إنه يذهب بك إلى ربك! فادخلْ تلك الحجب، فلا أرى شخصاً ولا صورة. إلا أنه وقع فى قلبى أنى لما دخلت، وقع علىَّ الفزع فى ذلك الحجاب. فأيقنتُ فى منامى بالوقوف بين يديه (تعالى) فما لبثتُ أن رأيتُ نفسى خارجاً من الحجب، وبالقرب من باب الحجاب واقفاً، وأنا أقول: «عفا عنى!» وأجد نَفَسى قد سَكَنَ من الفزع.
Photo: ‎منتشيا بالرقص تذهب
انت ياروحي من الارواح
فلا تذهب بدوني .
ضاحكا مع احبائك
تدخل البستان
فلا تذهب بدوني .


جلال الدين الرومي‎
فدام لى شأن رياضة النفس، من تجنب الشهوات، وقعود فى البيت على عزلة من الخلق، وطول نجوى من الدعاء. فانفتح له شىء بعد شىء، ووجدت فى قلبى قوة وانتباهاً. وطلبت من يعيننى، فكان يكون لنا اجتماع بالليالى، نتناظر ونتذاكر وندعو ونتضرع بالأسحار.
Photo: ‎امض ، و لتفتح عين الروح ، و انظر الي من سلبت قلوبهم ، قوم كأنهم القلوب عاليها سافلها ، و قوم كأنهم الأرواح لا قدم لهم و لا رؤوس

من ديوان شمس التبربزي 
لمولانا جلال الدين الرومي‎
فأصابتنى غموم من طريق البهتان والسعايات (الدسائس) وحُمل ذلك على غير محمله. وكثرت القالة (الدعاوى) وهان ذلك كله علىّ. وسُلِّط علىَّ أشباهٌ ممن ينتحلون العلم، يؤذوننى ويرموننى بالهوى والبدعة ويبهتون. وأنا فى طريقى، ليلاً ونهاراً، دؤوباً دؤوباً.
Photo: ‎منتشيا بالرقص تذهب
انت ياروحي من الارواح
فلا تذهب بدوني .
ضاحكا مع احبائك
تدخل البستان
فلا تذهب بدوني .


جلال الدين الرومي‎
حتى اشتد البلاء، وصار الأمر إلى أن سعى بى (أبلغ عنى) وإلى بلخ (بلدة بأفغانستان) وورد البلاء من عنده. إذ رُفع إليه أن هنا مَنْ يتكلم فى الحب، ويفسد الناس، ويبتدع، ويدَّعى النبوة! وتقوَّلوا علىَّ ما لم يخطر قطُّ ببالى، حتى سرتُ إلى «بلخ» وكُتب علىَّ قباله (فى مجلس الأمير) ألاَّ أتكلم فى الحب!

وكان ذلك من الله، تبارك اسمه، سبباً فى تطهيرى. فإن الغموم تطهر القلب. وذكرتُ قول داود، عليه السلام أنه قال: يا رب أمرتنى أن أُطَهِّر بدنى بالصوم والصلاة، فبمَ أُطَهِّر قلبى؟ قال: بالغموم والهموم يا داود!
Photo: ‎ان أخذت.. وان عفوت.. فماذا ينقص من ملكك، فالعشاق هنا كالكلأ.. الصحارئ بهم تمتلئ

ديوان شمس التبريزي - لجلال الدين الرومي‎
فتواترت علىَّ الغموم، حتى وجدتُ سبيلاً إلى تذليل نفسى. وهاجت بالبلاد فتنةٌ وانتقاضُ أمرٍ، حتى هرب جميع من كانوا يؤذوننى، ويشنِّعون علىَّ فى البلاد. وابتلوا بالفتنة، ووقعوا فى الغربة، وخلت البلاد منهم. فبينما أنا كذلك، إذ قالت لى أهلى (زوجتى) إنى رأيت فى المنام كأن قائماً فى الهواء، خارجاً من الدار، فى السكة، فى صورة رجل شاب، جعد، عليه ثيابٌ بياض، له نعلان. وينادينى فى الهواء: أين زوجك؟ قلت: خرج. قال: قولى له إن الأمير يأمرك أن تعدل.
Photo: ‎فهنا قد يحترق العشاق كالعود اليابس، وذلك المعشوق الذي ندر مثله هو الذي يشعل النار

ديوان شمس التربيزي - جلال الدين الرومي‎
فلم يأت (يمرُّ) على هذا مدة، حتى اجتمع الناس ببابى، من مشايخ البلد، من غير أن أشعر بهم، وقرعوا الباب فخرجت إليهم. فكلمونى فى القعود لهم (التدريس) فما زالوا يكلموننى فى ذلك حتى أجبتهم إلى القعود. فذكرتُ لهم من الكلام شيئاً، كأنه يُغترف من البحر. فأُخذت منى القلوب مأخذاً. واجتمع الناس، فلم تحتمل دارى ذلك، وامتلأت السكة والمسجد.

وذهبت الأكاذيب والأقاويل الباطلة، ووقع الناس فى التوبة، وظهرت التلامذة. وأقبلت الرياسة والفتن، بلوى من الله لعبده.

ورجع أولئك الأشكال (الحاسدون) إلى البلاد، بعد ما قويتُ وكثرتْ التلامذةُ عندى وأخذتْ القلوبَ مواعظى. وتبين لهم أن هذا كان منهم بغياً وحسداً، فلم ينفذ لهم بعد ذلك قولٌ، وقبل ذلك، كانوا صيروا السلطان والبلاد علىَّ، بحالٍ (بحيث) لا أجترئ أن أطلع رأسى، فأبى الله إلا أن يبطل كيدهم.
Photo: ‎استمع إلى هذا الناى يأخذ فى الشكاية ، ومن الفرقات يمضى فى الحكاية .
منذ أن كان من الغاب اقتلاعى ، ضج الرجال والنساء فى صوت إلتياعى‎
وتتابعت علىَّ الرؤى من أهلى (زوجتى) كل ذلك بقرب الصبح. ترى الرؤيا بعد الرؤيا، كأنها رسالة. ولم يكن يُحتاج إلى عبارتها (تفسيرها) لبيانها ووضوح تأويلها. وكان فيما رأت، أن قالت:

رأيتُ حوضاً كبيراً فى موضعٍ لا أعرفه. وما الحوض صافياً كما العين. فيظهر على ذلك الحوض فى الماء عناقيد عنب، بيض كلها. وأنا وأختى قعودٌ على رأس ذلك الحوض، نأخذ من ذلك العنب فنأكله، وأقدامنا متدلية فى الحوض، موضوعة على ظهر الماء، لا ترسبُ ولا تغيب.

فأقولُ لأختى الصغرى: نحن نأكل من هذا العنب كما ترين، فمن يرسل هذا إلينا؟ فإذا برجل مقبل، جَعْد، قد تَعَمَّم بعمامة بيضاء، وقد أرخى شعره من خلف العمامة، وعليه ثياب بياض. فيقول لى (لزوجة الحكيم) بمعزل منهما: قولى لمحمد بن علىّ، أن لا يقرأ «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة» حتى يُتم الآية.
Photo: ‎اختر الحب ،الحب ! فمن دون حياة الحب العذبة , تمسي الحياة عبئاً ثقيلاً 

مولانا جلال الدين الرومي‎
لا يوزن بهذا الميزان دقيقٌ ولا خبز، وإنما يوزن بهذا كلام هذا، ويشير إلى لسانه. ويوزن بهذا هذا وهذا، ويشير إلى يديه وقدميه. أنت لا تعلمين أن لفضول الكلام سُكراً، كسكر الخمر إذا شرب! فأقول له: أحب أن تقول لى من أنتم؟

فيقول: أنا من الملائكة، ونحن نسيح فى الأرض، وننـزل بيت المقدس. ورأيت بيده اليمنى آساً أخضر رطباً، وبيده الأخرى رياحين. فهو يكلمنى وذاك بيده. فيقول: نحن نسيح فى الأرض، فنذهب إلى العُبَّاد. فنضع هذه الرياحين على قلوب العُبَّاد حتى يقوموا بهذا إلى عبادة الله، وبهذا الآس على قلوب الصدّيقين والموقنين، حتى يعلموا الصدق بهذا. فقولى لمحمد بن علىّ: ألا ترضى أن يكون لك هذان؟
Photo: ‎فهب البصر نوراً آخر غير نور الشمس والقمر، يامن صار نورك أعظم من نور الشمس والقمر‎
يشير إلى الآس وإلى الرياحين. ثم قال: إن الله قادر على أن يرفع للمتقين تقواهم، إلى موضع لا يحتاجون فيه إلى أن يتقوا. ولكن جعل هذا عليهم، حتى يعلموا التقوى. قولى له: طَهِّر بيتك. فأقول: إن لى أولاداً صغاراً، ولا أضبط تطهير بيتى. فيقول لى: ليس من البول أعنى، إنما أعنى من هذا. ويشير إلى لسانه.

فأقول له: فَلِمَ لا تقول له أنت بنفسك؟ قال: أنا لا أقول له هذا، لأنه ليس بكبير من الأمور، وليس بقليل، هذا من الناس قليلٌ ومنه كبير.

ثم رأت مرة أخرى، كأنها فى البيت الكبير الذى فى دارنا. وفيه سُرر مُنجَّدةٌ بالإبريسم (الحرير) وأحد السرر (الأسرَّة) إلى جانب المسجد الذى فى البيت. فإذا شجرة تطلع بجنب السرير، فى قبلة المسجد. فطلعت قامة رجل، فإذا هى كخشبة يابسة، وعليها أغصانٌ كأغصان النخل، كالأوتاد امتدت هذه الشجرة طولاً فى السماء، قدر ثلاث قامات.
Photo: ‎فالأحبة طالبون الحبيب، والروح باحثة عن الأحبة ان الروح ذرة وهو كعطارد، والروح ثمرةو هو بستان، والروح قطرة وهو محيط، والروح حبة وهو منجم.‎
وتبعتها الأغصان حتى بدت وسطها، فبدت من هذه الأغصان عناقيد رطب. فأقول فى منامى: هذه الشجرة لى، وليس لأحدٍ مثل هذه الشجرة. فأدنو منها، فيجيئنى كلام من أصلها، ولا أرى أحداً. فأنظر إلى أصل الشجرة، فإذا هو قد نبت فى الصخرة.

وهى صخرةٌ كبيرة، قد أخذت قدر نصف البيت. وإذا الشجرةُ قد نبتتْ من وسط الصخرة، وإلى جانبها صخرةٌ كبيرةٌ منفردةٌ كحوضٍ، وإذا عين تنبع من أصل هذه الشجرة وتُستنقع فى الصخرة المنقورة، وذلك الماء صافٍ يشبه ماء القِضبان فى صفائه. فأسمع قائلاً من قرب الشجرة، يقول لى: أتضمنين أن تحفظى هذه الشجرة فتصير خضراء كلها؟ فأقول: أحفظها.
Photo: ‎يقول مولانا جلال الدين الرومي في أولي قصائده تلك الأبيات:
 ولقد تجمعت ظلال الألطاف مع شمس الفضل ومن كمال عشقه صار اجتماع الأضواء جائزا وعندما اختطف ريح الصبا النقاب من وجهه انمحي خيال الجميع وصار هباء منثورا لكنهم في المحو.. صار وجود كل منهم مائة وجود، فقد بدا لي المحو وجودا والوجود محوا ويقول في مقطوعة أخري بعنوان »حسناء جنت«: ولا تغتر بعقلك فكم من أستاذ فذ.. كان عمادا للعالم أصبح أكثر حنينا من الجذع الحنان وأنا الذي هجرت الروح، وكالورد مزقت الأكمام، ومن هنا فقد صار عقلي غريبا عن روحي وهذه القطرات من الألباب غلبت لبحر اللب، وذرات هذا الفتات من الروح استهلك في الأحبة فلأصمت ولآمر، ولأخف هذا الشمع، هذا الشمع الذي في نوره يتحول الشمس والقمر إلي فراشتين.‎
ثم رأتْ مرةً أخرى، كأنها نائمةٌ معى على السطح. قالت: فأسمع حديثاً من البستان، وأقول: هؤلاء أضيافنا تركناهم (لابد أن) أذهب، فأطعمهم. قالت: فأصير إلى جانب السطح لأنزل، فينحط جانب السطح فيلزق بالأرض، فاستوى على الأرض. فإذا رجلان قاعدان فى هيبة، فأدنو فأعتذر إليهما، فيبتسمان.

فيقول أحدهما: قولى لصاحبك (الحكيم الترمذى) ما اشتغالك بهذا (الحشائش) عليكَ بتقوية الضعفاء وأن تكون ظهراً لهم! وقولى له: أنت وتدٌ من أوتاد الأرض، تمسك طائفةً من الأرض. فأقول: من أنت؟ فيقول: محمد.. وقولى له إنك (إذ) تقول، يا ملك يا قدوس ارحمنا، فتقدَّس أنت، فإن كل أرضٍ تقدِّس عليها، تشتد وتقوى. وكل أرض لا تقدِّس عليها، تضعف وتهون. وقولى له: أعطيناك معمورة (والبيت المعمور) فأحسن إليهما. وانتبهتْ.

***

.. ويمتد بنا هذا النصُّ الأدبى النادر الذى لا يزال طويلاً متصلاً، فيفصح عن المزيد من سيرة حياة الحكيم الترمذى، الظاهرة والباطنة (البرَّانيَّة، والجوَّانيَّة) وفى بقية أصله المنشور، المنسى، رؤىً كثيرةٌ وبدائع .. فمن أراد المزيد، فليقرأه كاملاً.

فصوص النصوص الصوفية (3/7): حفيف أجنحة جبرائيل

السيرة الذاتية البديعة، التى كتبها عن نفسه "الحكيم الترمذى" مازجاً بين سرد وقائع حياته، وحكاية الأحلام (الرؤى) التى رآها أو رأته زوجته فيها .. واليوم، نتوقف عند نصٍّ أدبى فريد، هو (رؤيا) قدَّمها لنا السهروردى فى قصته الشائقة المشوِّقة التى جعلها بعنوان "حفيف أجنحة جبرائيل" لأنها تفسِّر الاعتقاد الصوفى، الإشراقى، القائل بأن جميع ما فى الوجود، هو صوت جناحىْ الملاك جبرائيل .. مَنْ هو السهروردى؟

هناك مجموعة من المشاهير فى تراثنا، يحملون هذا اللقب الذى هو "نسبة" إلى بلدة سُهْرَوَرْد الواقعة ببلاد فارس (إيران الحالية) .. وأشهر هؤلاء اثنان، كلاهما يحمل الكنية ذاتها، واللقب، ويفرِّق بينهما المؤرِّخون بذكر أهم مؤلفات كُلٍّ منهما، فيقولون، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب عوارف المعارف، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب حكمة الإشراق .. ومقصودنا منهما فى هذه المقالة، الثانى، وهو الملقب أيضاً بشيخ الإشراق، مع أنه قُتل فى شبابه (فى سن السادسة والثلاثين) لكنه يُعرف بشيخ الإشراق، لأنه مؤسس الاتجاه الصوفى الشهير، المعروف باسم (الإشراقية) لأنه يقوم على فكرة رئيسة، هى أن الوجود عبارة عن مراتب نورانية متتالية، أعلاها ومنشؤها هو نور الله .

وللسهروردى الإشراقى (المقتول بقلعة حلب، سنة 587 هجرية) مؤلفات كثيرة بالعربية والفارسية، منها كتبٌ مثل: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، اللمحات فى الحقائق. ومنها قصص قصيرة، بديعة اللغة والأفكار، مثل قصة (الغربة الغربية) التى نشرتها فى كتابى: حىّ بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها .. وقصة: صفير العنقاء (صفير سيمرغ) التى كتبها بالفارسية. والقصة التى سنتعرف إليها بعد قليل (حفيف أجنحة جبرائيل) وهى نصٌّ أدبى نادر كتبه السهروردى بالفارسية أولاً، ولا نعرف إن كان قد ترجمه للعربية بنفسه، أو أن غيره قام بذلك. ونصُّ القصة الذى سنراه بعد قليل، بعد عمل الضبط المناسب له، نشره د. عبد الرحمن بدوى فى كتابه: شخصيات قَلِقَة فى الإسلام، اعتماداً على النسخة التى وجدها المستشرق الفرنسى، المتصوف (لوى ماسينيون) بين كتب وأوراق المستشرق الألمانى الشهير (باول كراوس) الذى انتحر بالقاهرة عام 1944، لأسبابٍ غامضة، مازالت مجهولة !

وقد جعل كراوس عنوان القصة، بالعربية: أصوات أجنحة جبرائيل! وقد رأيتُ هنا، أن كلمة (حفيف) أدقُّ وأقربُ إلى مقصود السهروردى بالعنوان الفارسى (آواز بر جبرائيل) ناهيك عن أنها أصح لغوياً. لأن هذه القصة الرمزية، تخبرنا بأن ظهور (الموجودات) نابع من حفيف أجنحة جبرائيل، التى تشبه أشجاراً ضخاماً تتولد الموجودات من حركتها.

.. وأرجو من القارئ أن يصبر على النص التالى، الذى سنقدم منه فقرات مطولات، باعتباره أنموذجاً لفصوص النصوص الإبداعية التى كتبها المتصوفة. ولسوف نلحق النصوص ببعض التعليقات الشارحة، التى من شأنها إضاءة النص إذا قُرئ ثانية، بعد قراءة الشروحات الموجزة .. قال شيخ الإشراق :

* * *

لـمَّا انطلقتُ من حُجرة النساء، وتخلصتُ من بعض قيود ولفائف الأطفال. كان ذلك فى ليلةٍ، انجاب فيها الغَسَقُ الشُّهَبىُّ الشكل، مستطيراً عن قبة الفلك اللازوردى، وتبددتْ الظُلمةُ التى هى أخت العدم، على أطراف العالم السفلى.

وبعد أن أمسيتُ فى غاية القنوط من هجمات النوم، أخذتُ شمعاً فى يدى، متضجراً، وقصدت إلى رجال قصر أمى. وطوَّفتُ فى ذلك الليل ، حتى مطلع الفجر. وعندئذ، سنح لى هَوَسُ دخولِ دهليز أبى. وكان لذلك الدهليز، بابان: أحدهما إلى المدينة، والآخر إلى الصحراء والبساتين. قُمْتُ، فأغلقتُ الباب الذى يؤدى إلى المدينة، إغلاقاً محكما، وبعد رتجه، قصدتُ إلى الفتق الذى يؤدى إلى الصحراء. وعندما رفعتُ الترس، نظرتُ، وإذ عشرةُ شيوخٍ، حسان السيماء، قد اصطفوا هناك صفاً صفاً.

وقد أعجبتنى هيئتهم وجلالتهم وهيبتهم وعظمتهم وسناهم، وظهرتْ فىَّ حيرةٌ عظيمة من جمالهم وروعتهم، حتى انقطعتْ عنى مُكْنةُ نطقى. وفى وَجَلٍ عظيمٍ، وفى غايةٍ من الارتجاف، قَدَّمْتُ رجلا وأخَّرتُ أخرى. وعندئذ قلت لنفسى: لنتشجعْ، ولنكنْ مستعدين لخدمتهم، وليكن ما يكون.
سرتُ رويداً إلى الأمام، للسلام على الشيخ الذى وقف فى طرف الصف، غير أنه بسبب غاية حسن خُلُقه، سبقنى بالسلام، وتبسَّم فى وجهى تبسُّماً لطيفاً، حتى تجلَّى شكلُ نواجذه أمام حدقتى. ورغم مكارم أخلاقه وشِيَمه بقيتْ مهابته تغلب على نفسى. فسألته: من أين أقبل هؤلاء السادة، إن جاز لى السؤال؟ فأجابنى الشيخُ الذى على طرف الصف، قائلاً: إننا جماعة متجردون، وقد وصلنا إليك من كجا آباد.

لم أفهم مقاله، فسألته: فى أى إقليم توجد تلك المدينة ؟ فقال: فى إقليم لا تجد السبَّابة إليه متجهاً. وإذ ذاك علمت أنه شيخٌ مطَّلع. قلت: أخبرنى بفضلكم، ما الذى يشغلكم أكثر أوقاتكم؟ قال: إن حرفتنا الخياطة، وكل واحدٍ منا يحفظ كلام الرب عن سلطانه، وإننا لسائحون. سألته ولماذا يلازم الصمت هؤلاء الشيوخ، الذين يقفون على رأسك؟ فأجاب: لأن أمثالكم ليسوا أهلا لمحاورتهم، أنا لسانهم، وأما هم فلا يكلمون أشباهك.
.. قلتُ: أتسبحون الله عزَّ وجلَّ؟ قال: الاستغراق فى المشاهدة يشغلنا عن التسبيح، وإن كان هناك تسبيح، فإنه ليس بواسطة الألسن والجوارح، ولا بحركةٍ واهتزازٍ وما إليه . قلت: هل تعلمنى علم الخياطة؟ فتبسَّم وقال: للأسف، ليس لأشباهك ولنظرائك قِبَلٌ بهذا، فإن ذلك العلم غير ميسَّر لنوعك، وذلك أن خياطتنا لا تتعلق بعمليةٍ وقَصْدٍ وآلةٍ، لكنى سأعرفك من علم الخياطة ، قَدْر ما يمكِّنك من تصليح خرقتك الخشنة المرقعة.

وقد علمنى ذلك القدر من العلم .. ثم قلت: علِّمنى الآن كلام الله. قال: إن المسافة عظيمة، وما دُمتَ فى هذه القرية، فلا يمكنك أن تتعلم كثيراً من كلام الله تعالى، ولكنى أعلِّمك قَدْر ما أنت ميسَّر له! وأحضر لوحاً وعلَّمنى حروف هجاء عجيبة، حتى إننى استطعت أن أفهم بواسطة الهجاء، معنى كل سورة من السور.

ثم قال: الذى لا يفهم هذا الهجاء، لا يصل إلى معرفة سُوَر كلام الله، على ما ينبغى؛ وأما الذى اطَّلع على أحوال ذلك الهجاء، فقد يظهر فيه رسوخٌ ومتانة.

وعندئذ تعلَّمتُ علم الأبجد. وبعد إتمام دراستى إياه، نقشتُ حروفه على اللوح، على قدر ما كان فى مرتقى قدرتى، ومَسْرَى طاقتى. وعندئذ ظهرت لى من عجائب معانى كلام الرب، عزَّ سلطانه، ما لا يدخل تحت حصر البيان، وحَدِّه. وكلما طرأت لى مشكلة، عرضتها على شيخى وهو يزيح إشكالها.

ثم دار حديثنا حول نفث الروح، وقد أشار الشيخُ إلى أن الروح يشتق من روح القدس. وعندما سُئل عن نسبة ما بينهما، أجاب قائلاً: إن كل ما يتحرك فى أربعة أرباع العالم السفلى، يشتق من أجنحة جبرائيل.

ولما باحثت الشيخ فى كيفية هذا النظام، قال: اعلمْ أن للحق سبحانه وتعالى، عدة كلمات كبرى، تنبعث من كلماته النورانية، أى من شعاع سيماء وجهه الكريم. وبعضها فوق بعض.. وآخر تلك الكلمات: جبرائيل عليه السلام. وأرواح الآدميين تنبعث من تلك الكلمة الأخيرة.. الآدميون نوعٌ واحد، ومن له روحٌ فله كلمةٌ. ومن آخر الكلمات الكبرى، تظهر كلماتٌ صغرى من غير حَدٍّ، على ما أشير إليه فى الكتاب الربانى بقوله ما نفدت كلمات الله وقال لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربى .

أما الكلمات الكبرى، فهى التى قيل عنها فى الكتاب الإلهى فالسابقات سبقا وأما قوله فالمدبرات أمرا فهم الملائكة، محركو الأفلاك، وهى الكلمات الوسطى. وكذلك، فإن قوله تعالى وإنا لنحنُ الصَّافون إشارة إلى الكلمات الكبرى، وقوله إنا لنحن المسَبِّحون إشارة إلى الكلمات الوسطى. ولأجل هذا تقدَّمت عبارة الصافون فى كل مكان من القرآن المجيد، إذ قال: والصَّافَّاتِ صَفَّا، فالزاجرات زجراً وفى هذا غورٌ بعيد، لا يليق استيعابه بهذا المحل! وقد تُستعمل "الكلمة" فى القرآن أيضاً، بمعنى السر.

قلت للحكيم : أخبرنى الآن عن جناح جبرائيل. قال: اعلمْ أن لجبرائيل جناحين، أحدهما عن يمينٍ وهو نورٌ محض، وهذا الجناح ينضاف مجرد وجوده إلى الحق. وأما الجناح الأيسر، فتمتد عليه بقعةٌ سوداء، كأنها الكَلَفُ الذى يظهر فى وجه القمر، أو كأنها تذكرنا بالألوان التى على قدم الطاووس. وفى هذا إمكان وجوده، الذى ينصرف جانبٌ منه إلى العدم. فإذا نظرت ما لجبرائيل من الوجود بجود الحق، فإنه يوصف بوجوب الوجود. وإذا نظرت إليه بقدر استحقاق ذاته، فإنه يوصف بالعدم.. فهذان المعنيان، ممثلان فى جناحى جبرائل: الأيمن إضافته إلى الحلق، والأيسر استحقاقه فى ذات نفسه. كما قال الحق سبحانه وتعالى وجاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع .. وإذا وقع من أوج القدس شعاع، ينشأ منه نَفْسٌ يسمونها كلمةٌ صغرى. ألا ترى أن هذا، ما قاله الحق تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا فللكافرين أيضا كلمة . غير أن تلك الكلمة ، صدىً ممزوجٌ بحسب ما عليه أنفسهم.

ومن الجناح الأيسر، الذى يمتد عليه قَدْرٌ من الظلمة، يهبط ظِلٌّ هو عالم الزور والغرور. ويشير إلى شعاع الجناح الأيسر، ما ورد فى القرآن الكريم وجعل الظلمات والنور فإن تلك الظلمة، التى نُسبت إلى فعل جعل أصبحت عالم الغرور . وأما ذلك النور الذى ورد ذكره بعد الظلمة، فهو شعاع الجناح الأيمن .. وبهذا المعنى قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب إذ أن الكلمة أيضاً من شعاعه. وكذلك قوله مَثَلاً، كلِمَةً طَيِّبَةً فهى كلمة شريفة نورانية، من بين الكلمات الصغرى.

وإن لم تكن تلك الكلمة الصغرى فى غاية الشرف، فكيف استطاعت أن تصعد إلى حضرة الحق تعالى. وأما أن الكلمة، والروح، تدلان على معنى واحد؛ فإن علامة ذلك إليه يصعد الكلم الطيب وكذلك تعرج الملائكة والروح إليه فإن عبارة إليه ترجع فى الحالتين إلى الحق جلَّتْ قدرته. وعلى هذا المعنى، تدل أيضا النفس المطمئنة إذ قال ارجعى إلى ربك وعالم الغرور، ليس إلا صدىً وظلاً لجناح جبرائيل، أعنى لجناحه الأيسر. بينما تصدر الأنفس المضيئة، من الجناح الأيمن .

قلت للشيخ: فما هى، فى آخر أمرها، صورة جناح جبرائيل؟ فأجاب: يا عاقل، كل هذه الأشياء ليست إلا رموزا، إن عَلِمْتَها على ظاهر معناها، كانت تخيلات لا حاصل لها.

قلت: وأين القرية التى قال الحق تعالى عنها: أخرجنا من هذه القرية الظالِمِ أهلُها قال: ذلك عالم الغرور، الذى هو أليق محلٍّ للكلمة الصغرى. ثم إن الكلمة الصغرى أيضا قرية، لأن الله تعالى قال تلك القرى نقصُّ عليك من أنبائها وفيها قائم وحصيد فهى كلمات الحق تعالى، كبيرة كانت أو صغيرة .

.. وعندما ارتفع على قصر أبى، فجر النهار. أُغلق الباب الخارجى وفُتح باب المدينة، وذهب التجار إلى أشغالهم، وتغيَّبتْ عنى جماعةُ هؤلاء الشيوخ، وبقيتُ فى حسرةٍ متشوقاً إلى صحبتهم، عاضا أناملى، وصارخا: ياويلى، إظهاراً لعظمة حيرتى.. ولكن لا فائدة بعد.

* * *
قال الناسخ: هنا تنتهى قصة حفيف جناح جبرائيل عليه السلام .. ومن أفشى لطائف أسرار ذلك الشيخ العظيم الشأن، إلى العوام وإلى غير أهلها، ستنفصل نفسه عن بدنه، وسيصبح فضيحة الرجال. وربنا مشكور ومحمود، والصلاة على محمد، وآله، وسلم تسليماً.

* * *
قبل تقديم الإشارة الشارحة لهذا النص العجيب، لابد من لفت الأنظار إلى أن لهذه القصة ديباجة (مقدمة) احتوت على قصة أخرى، ملخصها أن أحد المنكرين على الصوفية، اعترض على أقوالهم واعتبرها هذياناً.. يقول السهروردى فى ديباجة القصة: حدث فى يوم من الأيام، فى محفل ناس قد أصاب بصرهم الرمدُ، أن رجلا سخر بمناصب سادات الطريقة وأئمتها. ولقصر نظره، تكلَّم من غير روية فى مشايخ السلف. ولأجل تقوية رأيه المنكر، استهزأ بمصطلحات المتأخرين، حتى بلغت جسارته أن أورد حكاية عن الأستاذ أبى علىّ الفارمذى، رحمه الله، قائلاً: إنه سُئِلَ لِمَ سَمَّى ذوو الخرقة الزرقاء بعض الأصوات أصوات أجنحة جبرائيل؟ فأجاب: اعلم أن أكثر الأشياء التى تشاهدها حواسك، تنبعث من أجنحة جبرائيل! وقال للسائل: إنك أنت أحد أصوات أجنحة جبرائيل.. وقد أبى ذلك الخصم المتعسف، أن يعترف بمثل هذا الكلام قائلاً: ماذا يمكن أن يكون معنى هذه الكلمة إلا هذيانا مزخرفاً؟ ولما بلغ تجاسره إلى هذا الحد، شمرتُ عن ساعد الجد، لأزجره ..

وهكذا كان ذلك، هو السبب فى تأليف السهروردى لهذه القصة الرمزية التى ابتدأها بانطلاق الروح من أسر الطبيعة (حجرة النساء) وارتقائها عن أحكام المحسوس (قيود ولفائف الأطفال) بملازمة الرياضات الصوفية والمجاهدات (الشموع) التى تكشف ظلام الوجود الحسى.

والجسم الإنسانى هو المقصود بقوله "قصر أمى" لأنه صنعة الطبيعة، أما العالم العلوى (الروحانى) فهو مقصوده بقوله "قصر أبى" .. والشيوخ المتجرِّدون، هم العقول السماوية التى لا اتصال بينها وبين العقل الإنسانى، إلا من خلال حلقة واحدة، هى (العقل الفعَّال) الذى يمثل سقف العقل الإنسانى، وقاعدة العقول السماوية العلوية. وجبريل فى النص، هو المعادل الموضوعى لروح القدس! ونتاج حفيف جناحيه، هى الموجودات الكلية والأنواع، والموجودات الجزئية والشخوص.. ولن أزيد هنا فى بيان (دلالات) هذا النص الرمزى، لأن المراد من إيراد ما قدَّمناه، ليس التعرُّف إلى (أفكار) السهروردى الإشراقية، وإنما الاقتراب من نصٍّ تراثىٍّ فريدٍ، مهجورٍ، والتعرف إليه أسلوبياً.. وفنياً.. وأدبياً.

فصوص النصوص الصوفية (٤-٧) براكين الرفاعى.. ووصاياه

لم تكن (الطرق الصوفية) بالمعنى الذى نعرفه اليوم، معروفةً فى مصر حتى القرن السابع الهجرى.. ومع ذلك، فما كادت شرارة هذه «الجماعات الروحية» تنقدح فى وادى النيل ودلتاه، حتى انتشرت تقاليد (الطرق) فى ديارنا، وتعمَّقتْ فى الوجدان المصرى العام.

ومن العجيب، والمدهش، أن معظم الطرق الصوفية التى استقرت بمصر طيلة القرون الثمانية الماضية، ترجع أصولها إلى المغرب والأندلس! سواءٌ كانت قد وفدت من هناك مباشرةً، أو على نحوٍ غير مباشر. فمن الطريق المباشر (المغاربى- المصرى) جاءت الطريقة الشاذلية، مع شيخها أبى الحسن الشاذلى، الذى استكمل مساره الروحىّ زوجُ ابنته: أبوالعباس المرسى «شيخ الإسكندرية» ثم توالت أجيالُ الشاذلية حتى يومنا هذا.

ومن الطريق غير المباشر (المغرب، العراق، مصر) وفدت الرفاعية والدسوقية والأحمدية.. فمن المغرب إلى العراق هاجر والد الشيخ أحمد الرفاعى، فنشأ ابنه هناك بمنطقة تسمى «البطائح» ونبغ فى مساره الروحىّ حتى صار عَلَماً من أعلام التصوف.

ومن العراق إلى مصر، أوفد الرفاعى تلميذه الشهير (الواسطىّ) الذى سكن الإسكندرية، ونشر بها طريقة الرفاعية. وبعد وفاته، أرسل مشايخ الرفاعية من العراق، صوفياً نابهاً منهم، هو (السيد البدوى) ليخلف الواسطى. وكانت ابنة الواسطىّ قد تزوجت بمصر، وأنجبت طفلاً سوف يصير بعد حينٍ شيخاً مشهوراً بمصر، هو: إبراهيم الدسوقى.

ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الواسطىّ (نزيل الإسكندرية) كان هو الذى نصح (الشاذلى) بلقاء الشيخ عبد السلام بن مشيش المغربى، الذى تتلمذ له أبوالحسن الشاذلى، وأخذ عنه الطريق الصوفى. وابن مشيش هو تلميذ (أبى مدين التلمسانى) الذى كان له تلميذٌ آخر مشهور هو: محيى الدين ابن عربى، الشيخ الأكبر!

إذن، باستثناء الطريقة القادرية (أتباع سيدى عبدالقادر الجيلانى) والطريقة المولوية (أتباع مولانا جلال الدين الرومى) فإن أصول الطرق الصوفية المصرية، جميعها، مغاربية! أى أندلسية ومغربية.. وهو ما يفسِّر لنا اعتقاد أهل القرى المصرية، خاصةً فى الصعيد، بأن (الولىّ) لابد أن يكون مغربياً، ليكون باهر الكرامات.

■ ■ ■

ومع أن أهل بلادنا يربطون، من الوهلة الأولى، بين الرفاعية وصيادى الثعابين! فإن طريقة (الرفاعى) لم تكن تعرف هذا الأمر، إلا من حيث سُكناها بمنطقة البطائح الواقعة بجنوب العراق، بين واسط والبصرة.

وهى منطقة تكثر فيها الثعابين، فكان الناس هناك من قبل «الرفاعى» ومن بعده، يعرفون كيف يتعاملون معها. فلما جاء أتباع الطريقة الرفاعية، توارثوا ما كان متوارَثاً فى النواحى التى جاءوا منها. فظنَّ المصريون من يومها، أن هناك ارتباطاً بين الرفاعية وصيد الثعابين.. لكننا هنا، على كل حال، لسنا بصدد التأريخ للطرق الصوفية، أو بيان أصولها التاريخية، أو رَدّ الاعتقادات الشعبية المتعلقة بها.

وإنما مرادنا، لفتُ الأنظار إلى فصوص النصوص التى كتبها الصوفية، أو تحدثوا بها، ومن هذه النصوص (الفصوص) مجالس الشيخ أحمد الرفاعى، المتوفى سنة ٥٧٨ هجرية، عن ست وستين سنة، إذ كان مولده سنة ٥١٢ هجرية، بقرية (أم عبيدة) بجنوب العراق. وهى القرية التى عاش فيها، ومات، ودُفن فى قبة مشهورة صارت من بعده مركزاً للطريقة الرفاعية.

وقد جُمعت مجالس الرفاعى ووصاياه فى عدة مجاميع مخطوطة، ونُشر بعضها من دون تحقيق. وفى مكتبة الإسكندرية اليوم، مخطوطة أصلية شهيرة تضم مجالس الرفاعى (كانت أصلاً ضمن مجموعة بلدية الإسكندرية) عنوانها: كتاب البراكين! وهو عنوان لافت للنظر، وينطبق معناه على محتواه. لأن معظم كلام الإمام الرفاعى، فى مجالسه وفى وصاياه: متدفقٌ، حارٌّ، حارقٌّ. كأنه الحمم الملتهبة، التى تقذفها البراكين.

ومع ذلك، فإن معظم المخطوطات الأخرى التى ضمَّت مجالس الرفاعى ووصاياه، تحمل عنوان (كتاب البراهين) لا البراكين. وهو ما يتوافق من ناحية أخرى، مع عنوان كتابه الوحيد المحقَّق، المتداوَل: البرهان المؤيد.

وكان الرفاعى يبدأ عباراته دوماً، بقوله (أَيْ) التى تعنى (أيها) فى حالة المنادى القريب. فيقول: أَيْ سادة، أيْ أحبَّة، أيْ غلام، أَيْ أخى.. إلخ. وهو فى كلامه بليغٌ، صادقٌ، يصدق عليه ما قاله الصوفية من أن: كل كلام يخرج، وعليه رائحة القلب الذى منه خرج.

فلنقترب فيما يلى، من بعض كلام الرفاعى:

■ ■ ■

أَيْ سادة، الزهدُ أول قدم القاصدين إلى الله عزَّ وجلَّ. وأساسه التقوى، وهى خوفُ الله ورأسُ الحكمة. وجماعُ كل ذلك، حُسن متابعة إمام الأرواح والأشباح، السيد المكرَّم رسول الله. وأولُ طريق المتابعة، حُسنُ القدوة، عملا بحديث «إنما الأعمال بالنيَّات» ألا ترون أن رسول الله، قال لرجلٍ يريد الجهاد فى سبيل الله، وهو يبتغى عرض الدنيا؛ إنه: لا أجرَ له!

أَيْ أخى، أنت أحسن منى. رحمتك ذِلَّةُ التلقِّى، وأنا أخذتنى سكرةُ التعليم.. أى أخى، إن أنا غلبتُ نفسيَ المسكينة، وقلتُ لها: علَّمكِ الله وأوجب عليكِ تعليم الإخوان، لأن كاتم العلم يُلجم بلجام من نار.. قِفى عند حدِّكِ، فربما كان فيهم من هو عند الله أجلُّ منك، ولكن أخفاه عنك (الله) ليختبرك! وبعد ذلك، سكنتْ ثائرتها الكاذبة، وعرفتْ قدرها، فلها الحظ الأوفر. وكذلك أنتَ.. أى أخى إن غلبتَ نفسك وألزمتها التعلُّم، وذبحت الهوى بسكين الاقتداء، وأخذتَ الحكمة غاضَّاً طرفك عن شرفك وعلمك وحسبك وأبيك ومالك وحالك، فقد فزتَ فوزا عظيما.

أى سادة، أنا لستُ بشيخ. لستُ بمقدَّمٍ على هذا الجمع. لست بواعظٍ. لست بمعلِّم. حُشِرْتُ مع فرعون وهامان، إن خَطَرَ لى، أنى شيخٌ على أحدٍ من خلق الله. إلا أن يتغمدنى الله برحمته، فأكون كآحاد المسلمين.. كل الفقراء (الصوفية) ورجال هذه الطائفة، خيرٌ منى. أنا أحيمد (تصغير اسمه: أحمد) اللا شىء. أنا لا شىء اللا شىء.. الحقُّ يُقال، الصوفى مَنْ صفَّى سِرَّه من كدورات الأكوان، وما رأى لنفسه على غيره مزية. هكذا كَتَبَ الله وحَكَمَ، وهذا واللهِ خُلُق عبيده، الذين طهَّرهم من رؤية غيره.

أى أخى، أنت غيرٌ، ونفسك غيرٌ، وغيرك غيرٌ. كُلُّ ما أدركه بصرك، واختلج بشكله وكيفيته سرُّك، فهو غيرٌ. ربُّنا لا تكيِّفه الأفكار، ولا تدركه الأبصار.. إيش تريد يا صوفى، يا فقيه، يا من جمع بين الشأنين؟ تريد أن تَسُبَّ العباد وتبغى عليهم، وأن تعلو وتغلو! ما هذه واللهِ طريقة نبيِّك، ولا سُنة وليِّك.

كان (النبى) إذا نهى عن خُلُق لم يُسَمِّ فاعلَه، ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو: ما بال الرجل يقول كذا.. وما أغلظ رسول الله فى مواعظه بشتمٍ وَسبٍّ، ولا صرَّح باسم أحد، ولا طار، ولا تسلَّط بقوة المعجزة على الطباع (ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضُّوا من حولك).. فإذا وعظتم الناس، إياكم والتصريح. وخذوا بالتلويح. فإن هناك رائحةَ السُّنة، وشَمَّة النفحة النبوية، وبها واللهِ يُصلح الله القلوب. أفلا نقول للذى يعجبه علوُّه على الناس، ويحبُّ انقياد الرقاب إليه: خَلِّ عنك يا مسكين! انقادتْ لك الرقاب وما انقادتْ لك القلوب، متى سقطتَ من حالك تقلبتْ عنك القلوبُ، وداستْك الأقدام، وبَقِيْتَ أَسْوَدَ الوجه.

أى سادة، تفرَّقتْ الطوائف شيعاً، وأحيمد (أحمد الرفاعى) بقى مع أهل الذُّلِّ والانكسار والمسكنة والاضطرار.. ينقلون عن الحلاج أنه قال «أنا الحق».. أخطأ بوهمه! لو كان على الحق، ما قال «أنا الحق». يذكرون له شعراً يوهم الوحدة (أى: الله والعالم شىء واحدٌ) كُلُّ ذلك ومثله، باطلٌ. ما أراه رجلاً واصلاً أبداً. ما أراه شَرِبَ. ما أراه حَضَر. ما أراه سمع إلا رنةً أو طنيناً، فأخذه الوهمُ من حالٍ إلى حال. من ازداد قرباً ولم يزدد خوفاً، فهو ممكورٌ به. إياكم والقول بهذه الأقاويل، إن هى إلا أباطيل. درج السلفُ على الحدود، بلا تجاوز. بالله عليكم، هل يتجاوز الحدَّ إلا الجاهل؟ هل يدوس عنوةً فى الجبِّ، إلا الأعمى؟ ما هذا التطاول. وذلك المتطاول، ساقطٌ (متأثِّرٌ) بالجوع، ساقط بالعطش، ساقطٌ بالنوم، ساقطٌ (متأثِّرٌ) بالوجع، ساقطٌ بالفاقة، ساقط بالهِرم، ساقطٌ بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت (لمن الملك اليوم)؟ العبد متى تجاوز حدَّه مع إخوانه، يُعَدُّ فى الحضرة ناقصاً.

التجاوزُ عَلَمُ نقصٍ، ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالدعوى، يشهد عليه بالغفلة، يشهد عليه بالزهو، يشهد عليه بالحجاب.. الولايةُ ليست بفرعونيةٍ ولا بنمرودية! قال فرعون (أنا ربكم الأعلى) وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء: «لست بملك ولا جبار، أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد».

أى سادة، ما قلتُ لكم إلا ما فعلتُه وتخلَّقتُ به. فلا حجةً لكم علىَّ. إذا رأيتم واعظاً أو قاصَّاً أو مدرِّساً، فخذوا منه كلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام أئمة الدين الذين يحكمون عدلا ويقولون حقاً، واطَّرحوا ما زاد. وإن أتى (الواعظ) بما لم يأتِ به رسول الله، فاضربوا به وجهه. الحذرَ، الحذرَ، من مخالفة أمر النبى العظيم. قال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره، أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم). كان العراق أخَّاذةَ المشايخ، وغيبةَ العارفين. مات القوم. (فخلف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات).

أى إخوانى، لا تخجلونى غداً بين يدى العزيز سبحانه، وقد سبقكم أصحابُ الأعمال المرضيات.. عليكم بالأدب، فإن الأدب باب الأَرَب. اللهم اجعلنا ممن ركَّبْتَ على جوارحهم من المراقبة، غلاظَ القيود. وأقمتَ على سرائرهم من المشاهدة، دقائقَ الشهود. فهجم عليهم أنسُ الرقيب، مع القيام والقعود (الصلاة) فنكَّسوا رؤوسَهم وجباهَهم للسجود، وفرشوا لفرط ذلهِّم على بابك، نواعمَ الخدود. فأعطيتهم برحمتك، غايةَ المقصود.

صحِّح اللهم فيك مرامنا، ولا تجعل فى غيرك اهتمامنا، وأَذْهِبْ من الشر ما خلفنا وأمامنا.. اللهم إنى أسألك، بالألف المعطوف، وبالنقطة التى هى مبتدأ الحروف. بباء البهاء. بتاء التأليف. بثاء الثناء. بجيم الجلالة. بحاء الحياة. بخاء الخوف. بدال الدلالة. بذال الذكر. براء الربوبية. بزاى الزلفى. بسين السناء. بشين الشكر. بصاد الصفاء. بضاد الضمير. بطاء الطاعة. بظاء الظُّلمة. بعين العناية. بغين الغناء. بفاء الوفاء. بقاف القدرة. بكاف الكفاية. بلام اللطف. بميم الأمر. بنون النهى. بهاء الألوهية. بواو الولاء. بياء اليقين. بألف لام «لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك».

■ ■ ■

وقال رضى الله عنه سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، قبل وفاته بأيام قلائل، ويقال إنه آخر مجالسه المباركة:

الحمد لله حَمْدَ المعتصمين بحبله.. أَىْ رجال الحضرة، طالما خفقتْ فى مجالسنا أعلامُ الإرشاد، تحت ظلال قوله تعالى (الذين إن مكنَّاهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).. وإنى لأقول كما قال خليل الله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إنى ذاهب إلى ربى سيهدين، رَبِّ هَبْ لى من الصالحين) أستودعكم الله، وأسأل الله أن يفتق رتق قلوبكم، بمفتاح الفضل والحكمة.

فتظهر بكم صولةُ النيابة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأمة، ويجدِّد الله بكم أمر دين أمته. فتحسن بكم سياسةُ القلوب، وتضىء بالاقتباس من أنوار فتوحاتكم الصدورُ والأفئدة، ويُصلح الله بكم الشؤون (إنا لله وإنا إليه راجعون) خذوا، أَيْ خاصة، أسرارَ الحكم الخاصة. هذا إنسان الحال: بسم الله. بسم الله معراج القلوب ينصب، فتصعد عليه أجسامُ الهمم، فتنحدر صاعدة إلى بحبوحة التعيين الأول، فترقى إلى مقام الصديقية، وتتسلق ذروة (مقعد صدق عند مليك مقتدر) فتحدق بصر البصيرة، فتفكُّ مغالق النشأة الأولى..

فيندلع لسانُ صبح النشر من كَفِّ طىِّ الأمر، فتتكلم ذراتُ أحكام أنواع الحقائق بما فيها، فيُرسم فى ألواح الهمم. فإذا شَبَّتْ نارُ موسى الحيرة، ناداه البارى المقيم (اخلع نعليك إنك بالوادى المقدس) فتنطمسُ الحيرةُ وتنجلى الحريةُ، وتسقط القيود، وتبدو المكنونات. ويقول رهطُ سحرةِ الأهواء (آمنَّا برب العالمين) ويقول داعى الكرم المرسل من حضرة الأمن (لا تخفْ إنى لا يخاف لدىَّ المرسلون) ويبتهج وُرَّاثُ أولئك الأملاك، فيترنَّم قائلهم، منصرفاً عن الأكوان، تالياً فى حضرة السؤدد الأبدى (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا).

وعلى نمط سرير الإضافة من معنى الأسرار، فى راقية نغمة (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) تظهرُ المظاهرُ، كُلٌّ بنسبة ما استجمعه من نقود الوراثة (ثوابُ الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يُلقَّاها إلا الصابرون) أصحاب القلوب الطائرة بأجنحة الصفا، إلى حضرة المراقبة، المؤمنون بآياته سبحانه (الذين إذا ذُكِّروا بها خَرُّوا سُجَّداً وسبَّحوا بحمد ربهم) (وأولئك هم المفلحون) رضى عنهم ورضوا عنه.

مهلا، أَيْ سارح بفيفاء الاستبشار. لو كنتَ من أهل مرتبة الكمال الذين وصفناهم، لكان لقلبك معراجٌ يوصلك إلى الاطلاع على الحقائق المغيبة عن غيرك، فتشهد أساليب مضامين ماخُطَّ فى صحف الأزل، فتمتلئ عينك، وترجع القهقرى منـزوياً عن صفوف الحادثات، اكتفاءً بما فَاضَ إليك فى كشفك الأول، فتنقطع عن ملاصقات كونيتك، وكونيات الذرات، تحت لواء (واعبدْ ربك حتى يأتيك اليقين).

قام من أصحاب نيابة الجامعة (يقصد وارثى النبوة، بحكم الحديث الشريف: العلماء ورثةُ الأنبياء) رجالٌ صدقوا. منهم أناسٌ من الفاطميين (آل البيت) ومنهم أناسٌ من غير الفواطم. وذلك فَضْلُ (يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).. فمن أقطابِ الخلعة، من غير الفاطميين، سيدى شيخ الخرقة «معروف الكرخى» كان نائب النظر. ومنهم سيدى «السَّرِىُّ السَّقَطىُّ» كان نائب العزم. ومنهم سيدى «الجنيد البغدادى» كان نائب اللسان القائم. ومنهم «سيدى الشبلى» كان نائب الهمة. ومنهم سيدى «سهل التُّسْترى» كان نائب القلب.

ومن أقطاب الخلعة الكاملة، من الذين لهم النسبة الفاطمية من الأمهات: سيدى «طلحة السنبكى» كان نائب القدرة. ومنهم سيدى وتاجى «منصور البطائحى» كان نائب البرهان وهامة التوبة الجامعة.

هذه زلازلُ الجلال، تفعل فى أرض المحجوبين فوق ما يفعله اضطرابُ العروق الأرضية، يوم يسوقها بمصادمة طبائعها سائقُ القدر، ليخيف أقواماً، ويعتبر بقدرته تعالى آخرون.. رجال النوبة الجامعة على وتيرة السكون يهتزون، فترى قلوب أهل الحجاب راجفة، لما يدخلها من صدمة جلالهم (فاعتبروا يا أولى الأبصار).

ويسكب الله فى بعض الأزمنة، قدرة المناسبات البشرية، من هيكل الحسن المعنوى فى الخَلْق، فيشكو المظلومُ ظالمه.. وفى بعض الأزمنة، يهب الله قدرة المناسبات البشرية، فتنعطف قلوب النوع للنوع، بالرأفة والتناصر والتوادّ. ونتيجةُ هذا الوهب، صلاحُ حال الزمان وأهله (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهَبْ لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب).

أَىْ خاصَّة، أَىْ عامَّة. فاض بحر الكرم.. (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).. أنا مأوى المنقطعين. أنا مأوى كل شاة عرجاء، انقطعت فى الطريق. أنا شيخُ العواجز. أنا شيخُ مَنْ لا شيخ له، فلا يتشيَّخ الشيطانُ على رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. عَهْداً منى بالنيابة عن النبى.. عهداً عاماً إلى يوم القيامة.. هاتِ يا منشد الفتح. وقُل كيف شئت. مجلس مأتم، ومجلس فرح (يولج الليل فى النهار) (ألا إلى الله تصير الأمور) (وكفى بالله ولياً)فعليكم بتقوى الله. ولا تخرجوا من ساحة التوحيد. ربنا الله لا شريك له، نعم الولى، 

فصوص النصوص الصوفية (٥-٧) لمعاتُ العشقِ عند روزبهان ونجم الدين كُبرى

لم يمرّ أمامى اسم الصوفى البديع، العارم (روزبهان) خلال السنوات الطوال، التى عكفتُ فيها على دراسة تاريخ التصوف، وتحقيق نصوصه المخطوطة.. حتى أخذتنى خُطاى نحو تلميذه (نجم الدين كُبرى) شيخ الطريقة الكبروية، الذى نال الشهادة سنة ٦١٨ هجرية، يوم خرج إلى صحراء خوارزم، ليحارب «وحدَه» جيشَ التتار المرعب! لكى يعلِّمنا كيف نموت ميتةً مجيدة، مادمنا ميتين على كل حال .

وكان لاشتغالى وانشغالى بالشيخ نجم الدين، ومن ثَمَّ بشيخه (روزبهان المصرى) قصةٌ قديمة مشوقةٌ، رويتها فى مقدمة كتاب «فوائح الجمال وفواتح الجلال» الصادرة طبعته الأولى بمطلع التسعينيات، وطبعته الأخيرة بمطلع العام الماضى.. والقصة ملخصها ما يلى:

بدأتْ معرفتى بنجم الدين كُبْرى على مقاعد الدرس، ففى السنة الثانية من دراستى الفلسفة بآداب الإسكندرية، كنا ندرس فخر الدين الرازى (الفقيه المتكلم المفسِّر، المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية) وبينما نحن فى خضم المباحث الكلامية والفقهية العويصة، التى يثيرها الفخر الرازى بطريقته الجافة المعقدة.

أطَلَّتْ علينا فى الكتاب المقرَّر، قصةُ لقائه بالشيخ نجم الدين، والحوار الذى دار بينهما فكان كأنه النسمة الباردة فى صحراء درس الرازى.. ثم انطوت صفحاتُ الأيام، ولم أستزد من معرفتى بهذا الشيخ الذى فاض حواره مع الرازى دفئاً وصِدْقاً.

ومرت السنون، حتى جلستُ يوماً مع الصديق الروائى (جمال الغيطانى) وسألنى عن نجم الدين الكُبْرى، فأجبته بأنه واحدٌ من كبار صوفية الفرس! ولم أزد على ذلك.. قال لى إنه يودُّ معرفة المزيد عنه. ولما سألته عن الباعث، أخبرنى بأنه كان يزور الاتحاد السوفيتى (الذى كان وقتها قائماً) فنظَّموا له رحلةً جنوبية فى تلك «الجمهوريات» التى صارت تُعرف اليوم بالإسلامية، وسلكوا به فى صحراء مترامية، حتى مضت الساعات على الطريق الذى يشقُّ الرمال، وعلى مرمى البصر، رأى مسجداً.. نزل عنده، فوجده وحيداً متفرداً، ولما اقترب ، قرأ بالعربية على بابه: «هذا مقام الشيخ نجم الدين الكُبْرى، قدَّس الله روحه» وعلى جدار المقام، مكتوبٌ:

كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلىَ الصَّفَا أَنِيسٌ، وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ

■ ■ ■

وحين حكى لى جمال الغيطانى ما رآه، شعرتُ بالشخص الذى كتب هذا البيت الشعرى فوق مرقد الشيخ، وكأنه قد أراد أن يقول متحسِّراً، ما معناه أن ما جرى سابقاً قد انطمس، فلم يعد أحدٌ يذكره!.. ولما ذاكرتُ، أردتُ أن أتذكر الشيخ نجم الدين، وشيوخه، وأذكِّر الناس بآثاره المطوية ونصوصه المخطوطة.. خاصةً، أننا لا نعرف الكثير عن معظم الشعراء والصوفية (الفُرس) ولا يوجد فى المكتبة العربية كتابٌ واحد عن نجم الدين كبرى.. ففتشتُ عن كتابه (فوائح الجمال) وأصدرته محقَّقاً، وصدَّرتُه بعبارة الشيخ نجم الدين «الطرق إلى الله، على عدد أنفاس البشر».. وبدأتُ دراستى عنه، بقولى:

للصوفية الفرس مكانتهم المتميزة فى تاريخ التصوف عند المسلمين، فقد شاركوا الصوفية العرب فى كتابة التاريخ الصوفى، بحيث يستحيل الفصل بين الفريقين. خاصةً أن كليْهما شرب من نبعٍ واحدٍ، هو الوحى المحمدى، وانتسب لثقافة بعينها هى الثقافة العربية الإسلامية. إلا أن الصوفية من ذوى الأصول الفارسية، لهم ذوقٌ روحىٌّ خاص! وقد اختصوا دوماً، بروحٍ مميَّزة عن روح الصوفية العرب. ففى شعر الصوفية الفرس، نرى تلك الروح المتأجِّجة، فى مقابل الروح الرصينة لدى شعراء الصوفية العرب.

وحين نقارن بين شعر جلال الدين الرومى «أعظم شعراء الصوفية الفرس» وشعر عمر بن الفارض، أشهر شعراء الصوفية العرب. نرى أشعار ابن الفارض الموشاة بفنون البلاغة، المزينة بجرس الجناس التام والناقص، الرافلة فى ألوان التشبيه والاستعارة. بينما يتدفَّق شعر الرومى عارماً، دافئاً، متألماً، ناحتاً لفظه وجماليات تعبيره، من حرارة القلب والتهاب الروح.. وحين ننظر فى شعر فريد الدين العطَّار، مقارَناً بأشعار ابن عربى (الشيخ الأكبر) نرى خيال العطَّار المحلِّق، فى مقابل رسوخ ابن عربى وصرامة منطقه.

وفى النثر الصوفى، حين نقارن بين كتابات شهاب الدين السهروردى، وهو فارسى الأصل، وكتابات الصوفى العربى، أندلسى الأصل: محمد عبد الحق بن سبعين. نرى السهروردى يكتب بيدٍ ساحرة، فيأتى فى قَصَصِه الصوفى بصور خيالية هائلة، ويرمز للمعنى البعيد باللفظ العجيب. بينما يوجز ابن سبعين ويحدُّ العبارة، ويقدُّ كلامه من الصخر المتين.

وفى طبيعة الحياة الروحية، كان الصوفية الفُرس أكثر اشتعالاً من نظرائهم العرب، وأشد احتراقاً. حتى إننى فكَّرت فى عمل كتاب عن قَتْلَى الصوفية وشهدائهم، أعنى أولئك الذين تدفَّقت رحلتهم الروحية، حتى انتهت بواقعة موتٍ عارم، أخَّاذ. فوجدتهم كلهم، من ذوى الأصول الفارسية: الحسين بن منصور الحلاج، أبو الحسين النورى، عماد الدين النسيمى، عين القضاة الهمذانى، شهاب الدين السهروردى، مجد الدين البغدادى الخوارزمى، نجم الدين كُبْرى.

■ ■ ■

كان مولد الشيخ نجم الدين كبرى، سنة ٥٤٠ هجرية ببلدة خيوق (خيوة) الواقعة فى منطقة خوارزم، الواقعة اليوم بدولة أوزبكستان (أرض الأوزبك) بوسط آسيا. ونشأ الشيخ بخوارزم وحصَّل العلوم الأولى هناك. وكان فى صغره شديداً على الخصوم فى الجدل والمناظرات، حتى لقَّبوه (الطامة الكبرى) ثم حُذفت الكلمة الأولى تأدُّباً معه، بعدما أصبح شيخاً صوفياً، وبقيت الثانية. فصار اسمه المشهور به، هو : نجم الدين كُبرى.

وجاء نجم الدين من خوارزم إلى مصر، ليلتقى بشيخه الذى تعلَّم منه التصوف والعشق، وهو الشيخ روزبهان (أبو محمد روزبهان بن أبى نصر الشيرازى، المصرى، المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية) الذى كان بدوره قد جاء من شيراز إلى مصر، وظلَّ بها زمناً حتى عُرف بين معاصريه بالمصرى. ثم عاد إلى بلاده، وبقى هناك يعظ الناس خمسين سنة. حتى اعتُبر، واعتُبر قبره بعد وفاته، من مقدَّسات شيراز.. ولذلك يقول سعدى الشيرازى، فى ديوانه الشهير (بالفارسية) ما ترجمته: أستحلفك اللهم بسيرة الشيخ الأكبر وفكره/ وبحق روزبهان وبحق الصلوات الخمس/ أن تحفظ هذه المدينة العامرة بالرجال الصالحين/ من أيدى الكافرين والظالمين والغمَّازين.

■ ■ ■

وللصوفية عموماً، مسلكٌ فى (العشق) عجيب.. والعشق عندهم يعلو المحبة، ويأتى بعدها فى سُلَّم المقامات العارجة إلى الحضرة الإلهية. ومع أننا فى هذه السباعية، نُعنى أساساً باللغة الصوفية وبأساليب التعبير الصوفى، العربى، إلا أن الأحوال والحقائق (المعبَّر عنها) تظل واحدة عند الصوفية ، سواء كانوا عرباً أو أتراكاً أو فُرساً.

ومن هذا الباب، ندخل أولاً إلى الصورة الصوفية للعشق، وملامحها ولمعاتها، حسبما صوَّرها باللغة العربية، نجم الدين كُبرى فى كتابه (فوائح الجمال) ثم نقدِّم بعدها، بعضاً من عبارات روزبهان، أو بالأحرى إلماحاته وإشاراته العشقية الواردة فى كتابه (عبهر العاشقين) الذى كتبه أصلاً بالفارسية، وترجمه لنا د.قاسم غنى فى كتابه: تاريخ التصوف عند الفرس.. قال الشيخان:

■ ■ ■

وظهور الآيات فى عالم الشهادة والغيب، يُورث الإيمان والإيقان والعِرْفان. وبالعرفان تظهر الآلاءُ والنِّعم. وذلك يُورث المحبة. والمحبة تُورث الفناء، بل هو حقيقة المحبة وحاصلها. والفناءُ فناءان. فناءٌ عن الصفات فى صفات الحقَّ، وذلك هو الفناء فى «الفردانية»؛ وفناءٌ عن صفاته فى ذاته، وذلك هو الفناء فى «الوحدانية».. وإذا تجلَّت الذات (الإلهية) تجلَّت الهيبة، فيندك السَّيَّار (الصوفى) ويندق، ويكاد يقرب من الموت. ويسمع حينئذٍ :أحَدٌ، أحَد! وإذا فنى فى ذاته، بقى به (بالله) ويحيا به.

وقد يغيب السَّيَّار، فيرفعه الحقُّ إليه. فيجد ذَوْقَ الربوبية فى نفسه، وهذا الذوق يكون كطرفة العين. وهذا أسنى المقامات والكرامات، أن يذيقه الله عَزّ اسمه، ذلك الذوق. فإن السَّيَّار لايزال مع الحق سبحانه، فى عتابٍ وجدالٍ، يقول: ما الذى أوجب أن تكون رَبَّا وأكون مربوبًا؟ وتكون خالقاً وأكون مخلوقاً؟ وتكون قديمًا وأكون محدثاً؟! فيذيقه الله هذا المذاق، فيستريح من ذلك التحيُّر والعتاب.

والعارفُ واقفٌ، والمتحيِّرُ يسير.. بل العارف المطلق هو الله، وغيره مُتَعارِفٌ. ولا مقام يُنال، إلا وبعده أسنى منه. وهذا ميدانٌ فسيحٌ، لا يُدرك حَدُّه إلا بعد الهلاك، والرجوع إليه. ولا يُدرك الهلاك إلا بعد ركوب هولٍ عظيم، هو بذل الروح. كما فعل الحسين (الحلاج) فى قوله: أنا الحق! والهلاك والفناء واحدٌ، يقول (الحلاج) فى مناجاته: نَاسُوتِيَّتى اسْتُهْلِكَتْ فِى لاَهُوتِيَّتك، فَبِحَقِّ نَاسُوتِيَّتى عَلَى لاَهُوتيَّتكَ، أَنْ تَغْفِرَ لِمَنْ ابْتَغَى قَتْلِى ! والاستهلاكُ أثرُ المحبة. فأولُ المحبة طلبُ المحبوب للنفس، ثُمَّ بذلُ النفس له، ثُمَّ نسيانُ الإثنينية، ثُمَّ الفناءُ فى الوحدانية.

والعشقُ نارٌ تحرق الحشا والكبد، وتطيشُ العقل، وتُعمى البصر، وتُذهب السمع، وتُهوِّن ركوب الأهوال، وتُضيِّق الحَلْق حتى لا يعبر إلاَّ النَّفَس، وتُجمِّع الهِمَّة على المعشوق، وتُسىء الظن بالمحبوب من الغَيرة.. وتزيد، فيذهبُ النظامُ، ويدومُ الهيامُ، ويطيبُ الموتُ، ويُورَّثُ النسيانُ. ويطفئها الوصلُ، ويقلِّلها العتابُ.. ونهاياتُ المحبة بداياتُ العشق. المحبةُ للقلب، والعشقُ للروح. والسِّرُّ يجمع الأحباب، والهمةُ أثرُ الجمع.. قيل: ما نهايةُ هذا الأمر؟ قال: الرجوع إلى البداية !

وبدايةُ هذا الأمر، طلبُ الجنس للجنس، وهو نورٌ ولُطْفٌ منه. وذلك يُورث التمنِّىَ بالشهوة، والإرادةَ بالفؤاد، والمحبةَ بالقلب، والعشقَ بالروح، والوصلَ بالسِّرِّ، والتصرُّف بالهمة، والصفاءَ فى الصُّفَّة، والفناءَ فى الذات..

هكذا تحدَّث الشيخ نجم الدين كبرى.

■ ■ ■

وتحدَّث الشيخ روزبهان المصرى، فى العشق.. فقال:

العشقُ محمودٌ على أية حالٍ، سواء كان فى مقام العشق للطبيعيات، أو للروحانيات. لأن العشق الطبيعى، هو منهاج العشق الربانى. ولا يُستطاع حَمْلُ أثقال العشق الإلهى، إلا على مثل هذا المركب. كما لا يُستطاع احتساء روائق صفاء الجمال الإلهى، إلا فى أقداح أفراح الصور الحسية فالعشقُ الطبيعىُّ والعشقُ الروحانى والعشق الإلهى، جواهرُ ثلاثٌ، مستمرةٌ دوماً فى الحركة.

ولما أراد تعالى، أن يفتح كنـز الذات بمفتاح الصفات، تجلَّى على أرواح العارفين بجمال العشق، وظهر بصفاتٍ خاصة. وأثَّرت الصفاتُ فيهم، والصفةُ قائمة بالذات، فأصبحت صفتهم قائمة من أثر ذلك. (ولكن) لا يوجد من «الحلول» شىءٌ فى هذا العالم، (لأن) العبدَ عبدٌ، والرَّبَّ ربٌّ.

وأصلُ العشق قديمٌ، وعُشَّاقُ الحق قدماءُ. العشقُ لبلابُ الأرض القديمة، الذى التفَّ حول روح العاشق.. العشقُ سيفٌ يقطع رأس الحدوث (المحدودية الإنسانية) من العاشق، وهو ذروةُ قاعدة الصفات (الإلهية) فما وصلتها روحُ العاشق إلا واستسلمت للعشق. وكل من صار معشوقاً للحق، وعاشقاً للحق، لا يستطيع النـزول من تلك الذروة، ويصير فى العشق متَّحِداً بالعشق. وإذا اتَّحد العاشقُ والمعشوقُ، صارا بلونٍ واحد. وعندئذٍ يصبح العاشقُ، حاكماً فى إقليم الحق.

العشقُ كمالٌ من كمال الحق. فإذا اتصل العاشق، تحوَّل من الحدوث المحض. يصبح باطنه ربانيَّا، ولا يتغير من حوادث الدهور، وصروف الزمان، وتأثير المكان. فإذا بلغ عين الكمال، تزول ستائر الربوبية.. وليس فى العشق مقصودٌ (مطلب) فالعشق مع المقصود، ليس بموجود. العشقُ والمقصود، كُفْرٌ.

وليس للصورة مكانٌ فى العشق، لأن العقل والنفس ليسا معاً فى طريق العشق. فالعشق، هو الطائرُ الصاهرُ للروح.. الأمرُ والنهى، منسوخان فى طريق العشق.. والكُفر والدين حُجبا عن سراى العشق.. والآفاقُ محترقةٌ بإشراق العشق.. والكونُ مضمحلٌّ تحت حافر فرس العشق.

وجوهرةُ العشق عُجنت من الأزل.. وكُلُّ مَنْ ظهر له طريقُ العشق، يخطف جوهر أوصافه من هذه التربة.. وليس فى العشق مجوسيةٌ ولا كُفر، ولا شراسةٌ ولا بلاهة. وصِفَةُ العُشَّاق كمالُ الحيرة، والخضوعُ صِفَةُ المتيَّمين.. الجنة مأوى الزاهدين، والحضرة مَثْوى العاشقين! ليس فى العشق فجاجة، وليس فى طريقه عجزٌ ولا ضعف.

وكلُّ ما قلناه، ليس من صفة العشق والعاشق (لأن اللغة لا تقدر على بيانه) ونهايةُ العشق، بدايةُ المعرفة. والعشق فى المعرفة، مبنىٌّ على الكمال. وإذا اتحد العاشقُ بالمعشوق، بلغ مقام التوحيد. وإذا تحيَّر فى المعرفة، فقد أحرز مقام المعرفة.. وحيث إنهم (العشاق) بلغوا ذلك الحدَّ، فقد صار قلبهم ربانيًّا، وقولهم أزليًّا.. كما قال أبو سعيد الخرَّاز، رحمة الله عليه: للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة، وأنباءً عجيبة، يتكلمون فيها بلسان الأبدية، ويخبرون عنها بعبارات الأزلية.

فصوص النصوص الصوفية (٦-٧) .. بابُ الأسرار.. وما لا يُعَوَّلُ عليه

لا يمكن الكلام عن بدائع الأدب الصوفى، كما لا يجوز استعراض النصوص «الفصوص» التى تلألأتْ فى كتابات الأولياء، من دون التوقُّف طويلاً عند أعمال شيخ الصوفية الأكبر (ابن عربى) الذى بلغت مؤلفاته المئات، من الكتب الطوال، والرسائل القصار، والأشعار. ولذلك، فسوف نُلقى فى هذه المقالة بعض الضوء، على اثنين من مؤلفاته البراقة بفصوص النصوص.. لكن دعونا أولاً نتعرف إلى ابن عربى.

يعدُّ الشيخ الأكبر، محيى الدين محمد بن على الطائى الحاتمى المرسى (المتوفى ٦٣٨ هجرية) هو أشهر صوفية الإسلام على الإطلاق. وقد عُرف بـ«ابن عربى» فى حياته وبعد مماته، واشتهر فى تاريخ التصوف بلقب «الشيخ الأكبر» تقديراً لمكانته الروحية المتميزة.. كان مولده سنة ٥٦٠ هجرية فى بلدة (مُرْسية) بالأندلس، وهى البلدة التى يُنسب إليها، فيقال له (المرسى) مثلما ينسب شيخ الإسكندرية الشهير: أبوالعباس.

وكانت نشأةُ ابن عربى، وسنواتُ شبابه المبكر، فى المدن الأندلسية (الإسبانية/ البرتغالية) الشهيرة، التى لا تزال إلى اليوم تعبق بالرحيق العربى الإسلامى: مرسية، إشبيلية، لشبونة، قرطبة.. وقد ارتحل عن الأفق الأندلسى فى وقتٍ مبكر من حياته، فنـزل المغرب والتقى هناك بشيخه «أبى مدين الغوث» الذى كان يقيم فى بلدة (بجاية) المغربية، ثم قدم إلى مصر وأقام بها حيناً، إلى أن رحل عنها إلى الحجاز للحج، واستقر حيناً بمكة..

وفى مكة وقع له أمران مهمان، الأول أنه هام بحبِّ فتاةٍ اسمها (النظام) هى ابنة شيخه، شيخ الحرم فى وقته: زاهر بن رستم الكيلانى. وقد وصف ابن عربى محبوبته بعباراتٍ بليغةٍ، سوف نوردها بعد الإشارة إلى أنه كان قد قال شعراً فى حبيبته هذه، فانتقده بعض معاصريه، وأنكروا عليه أن يكون صوفياً وعاشقاً فى الآن ذاته.

وقد جمع ابن عربى أشعاره (الغزلية) التى استوحاها من النظام بنت رستم فى ديوان بعنوان: تُرجمان الأشواق. فلما انتقده معاصروه وضع شرحاً للديوان، أبان فيه عن المقاصد الروحية لأبياته الغزلية، مؤكِّداً أن حُسْن (النظام) كان نافذةً، أطلَّ منها العاشق (ابن عربى) على الجمال الإلهى المتجلِّى فى الكون.. وجعل الشيخ الأكبر شرحه لأشعاره، بعنوان: ذخائر الأعلاق فى شرح ترجمان الأشواق.

وفى مقدمة (ذخائر الأعلاق) يصف لنا ابن عربى محبوبته، فيقول إنها: «بنتٌ عذراء، طفيلةٌ هيفاء. تقيِّدُ النظر وتزيِّن المحاضِرَ والمُحاضِر، وتحيِّر المناظر. تُسَمَّى بالنظام، وتُلَقَّب بعين الشمس.. ساحرةُ الطَّرْف، عراقية الظُّرْف.. إنْ أسهبت أثعبتْ، وإن أوجزت أعجزتْ، وإن أفصحت أوضحتْ. إنْ نطقتْ خَرِسَ قسُّ بن ساعدة، وإن كرمتْ خَنَس معنُ بن زائدة، وإن وفَّتْ قصَّر السموألُ خُطاه..

ولولا النفوس الضعيفة، السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذتُ فى شرح ما أودع الله تعالى خَلْقَها من الحسن، وفى خُلُقِها الذى هو روضة المزن. شمسٌ بين العلماء، بستانٌ بين الأدباء. حقةٌ مختومة، واسطةُ عقد منظومة. يتيمةُ دهرها، كريمةُ عصرها. سابغةُ الكرم، عاليةُ الهمم. سيدةُ والديها، شريفةُ نادييها. مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد. أشرقت بها تِهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه.. إلخ».

والأمر الآخر المهم الذى وقع لابن عربى فى مكة، بل لعله الأهم، هو ابتداؤه هناك فى تأليف (الفتوحات المكية) التى سوف تعدُّ بعد اكتمالها، أشهر كتاب فى تاريخ التصوف الإسلامى. وقد أشار ابن عربى فى مقدمة هذا الكتاب إلى سبب تأليفه، وأبان عن طريقته فى كتابته، بقوله: «كنت نويتُ الحج والعمرة، فلما وصلتُ إلى أمِّ القُرى، مكة، أقام الله سبحانه وتعالى فى خاطرى، أن أعرِّف الولىَّ بفنونٍ من المعارف، عند تطوافى فى بيته المكرَّم..».

وفى الباب الثامن والأربعين من الفتوحات، التى تقع كاملة فى خمسمائة وستين باباً، يقول ابن عربى: اِعلمْ أن ترتيب أبواب الفتوحات، لم يكن من اختيارٍ، ولا عن نظرٍ فكرىٍّ، وإنما الحقُّ تعالى يُملى لنا على لسان ملك الإلهام، جميع ما نَسْطُره.

وفى الباب الخامس والستين والثلاثمائة، يقول: «واعلمْ أن جميع ما أتكلَّمُ به فى مجالسى وتصنيفى، إنما هو من حَضْرة القرآن ومن خزائنه، فإننى أُعطيت مفاتيح الفهم والإمداد منه..» ويقول فى الباب الثالث والسبعين والثلاثمائة: جميع ما كتبته وأكتبه فى هذا الكتاب، إنما هو من إملاءٍ إلهىٍّ أو إلقاءٍ ربانىٍّ أو نفث روحانى فى كيانى، بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال.

والفتوحات المكية تتألف من سبعة وثلاثين سِفْراً، نُشرت قديماً فى أربعة مجلدات كبار، وقد حاول (د. عثمان يحيى) نشرها محققةً فى طبعةٍ جديدةٍ تصدرها هيئة الكتاب بالقاهرة. لكنها طبعةٌ لم تكتمل، ولن تكتمل، فقد تُوفِّى المحقِّق وتوقَّف نشر (الفتوحات) بعدما صدر منها خمسة عشر مجلداً (سِفْراً) من جملة المجلدات أو الأسفار السبعة والثلاثين، التى كان من المفترض أن تكتمل بها هذه النشرة المحقَّقة.

ولكن حالَ دون اكتمالها عوائقُ كثيرةٌ، منها الصخبُ المفتعل الذى ثار، والضجةُ التى هاجت بوسائل الإعلام فى السبعينيات، ضد نشر الفتوحات. فقد ثارت نفوسُ وأقلامُ بعض الفقهاء ورجال الدين والسياسيين! وردَّ عليهم بعض المشايخ والمثقفين الذين كانت على رأسهم الدكتورة بنت الشاطئ.. وتصاعد الأمر، حتى نوقش منع إصدار الكتاب فى «مجلس الشعب» ثم انحسم هذا الخلاف لصالح نشر الكتاب محقَّقاً، رغم أنف المعترضين الذين كان أغلبهم من الأزهريين. والعجيبُ أنه بعد سنوات من الضجَّة والصخب ضد ابن عربى وفتوحاته، صار رئيسُ جامعة الأزهر الحالى، وهـو أيضاً مفتى الديار المصرية السابق (د. أحمد الطيب) أحد أهم الدارسين المتخصصين فى تراث الشيخ الأكبر، وقد حصل على رسالته للدكتوراه من جامعة السربون، فى مؤلفات ابن عربى.

ومؤلفات شيخ الصوفية الأكبر، بحسب «الإجازة» التى كتبها بنفسه قبل وفاته بستة أعوام (سنة ٦٣٢ هجرية) تبلغ واحداً وخمسين ومائتين.. وهى تبلغ خمسمائة مؤلَّف، حسبما ذكر عبدالرحمن جامى فى كتابه الشهير: نفحات الأُنس.. أو تبلغ أربعمائة، حسبما أحصاها الإمام الشعرانى فى: اليواقيت والجواهر.

ونحن نعرف منها اليوم ستين مؤلَّفاً منشوراً، (ما بين كتاب ورسالة) ومائة مؤلَّف لم تزل بعدُ مخطوطة، ولم تأخذ طريقها إلى النشر.. ومن بين هذه المؤلفات جميعها، تبقى (الفتوحات المكية) بالإجماع، هى أهمَّ وأشهرَ مؤلفات ابن عربى.

تقع الفتوحات فى خمسمائة وستين باباً، تضمها الأسفارُ السبعة والثلاثون التى تتألف منها الفتوحات. والباب الأخير، هو (باب الوصايا) الذى يبدو كملحق للفتوحات، ولذلك فقد نُشر فى بعض الطبعات منفرداً. أما الباب التاسع والخمسون والخمسمائة، فهو خلاصة (الفتوحات) كلها، وهو المعروف عند الصوفية باسم (باب الأسرار) نظراً لأن كل فقرة منه تُفصح عن (سر) كل باب من أبواب الفتوحات، وتقدِّم خلاصته.. ومن هذا الباب المفعم بالأسرار، نقتطف ما يأتى من فقراتٍ بديعة وفصوصِ نصوصٍ، ثم نتلوها بمقتطفاتٍ من رسالة ابن عربى، فى: ما لا يُعَوَّلُ عليه.

ونظراً لأن عبارات ابن عربى التالية، مفعمةٌ بالرموز والإشارات؛ فسوف نلحق بها كلمات شارحة، نضعها بين القوسين (للتوضيح).

■ ■ ■

سِرُّ الافتتاح بالنكاح:

القولُ من القائل فى السامع، نكاحٌ.. ينـزلُ الأمرُ النكاحىُّ، من مقام الافتتاح إلى مقام الأرواح. ومن المنازل الرفيعة، إلى ما يظهر من نكاح الطبيعة. ومن بيوت الأملاك، إلى نكاح الأفلاك. ومن حركات الأركان، إلى ظهور المولَّدات التى آخرها جسم الإنسان.. (للتوضيح: المرادُ بكلمة النكاح عند ابن عربى، الخلْقُ والإيجاد بالأمر الإلهى).

سِرُّ إطفاء النبراس بالأنفاس:

لما كان القائلُ له مِزَاجُ الانفعال، كان للنَّفَسِ الإطفاء والإشعال. فإن أطفأ أمات، وإن أشعل أحيا، فهو الذى «أضحك وأبكى» فيُنسب الفعل إليه، والقابل لا يُعَوَّلُ عليه.. لولا نَفَسُ الرحمن، ما ظهرت الأعيان. ولولا قبولُ الأعيان، ما اتَّصفَتْ بالكيان، ولا كان ما كان. الصبحُ إذا تنفَّس، أذهب الليلَ الذى كان قد عَسْعَس.. (للتوضيح: المرادُ هنا، بيانُ أن الله وحده هو شرطُ الإيجاد وإفناء العدم).

سِرُّ الجرس واتخاذ الحرس:

الجرسُ كلامٌ مجملٌ، والحرس بابٌ مقفلٌ. فمن فصَّل مجمله وفتح مقفله، اطَّلع على الأمر العُجاب والتحق بذوى الألباب. وعرف ما صانه القشرُ من اللباب، فعظَّم الحِجاب والحجَّاب. الإجمالُ حكمةٌ، وفصلُ الخطاب قسمةٌ. والحرسُ عصمةٌ، فهم أعظم نعمة لإزالة نقمة. صلصلة الجرس، عينُ حمحمة الَفَرس.. (للتوضيح: الحرسُ هنا يعنى الشريعة، وصلصلةُ الجرس حالةٌ تسبق هبوط الوحى والتجليات).

سِرُّ وجود النَّفَس فى العَسَس:

بالعسس يطيبُ المنام، وبالنَّفَس تزولُ الآلام. ما أضيف إلى غير الرحمن، فهو بهتان. ظهر حُكْمُهُ، فزال عن المكروب غَمُّهُ. من قِبَلِ اليمن جاء، وبعد تنفيذ حُكمه فاء. وإليه يرجع الأمر كلّه، لأنه ظلّه. لا ينقبضُ الظلُّ إلا إلى مَنْ صَدَرَ عنه، فإنه ما ظَهَرَ عينه إلا منه. فالفرعُ لا يستبد، فإنه إلى أصله يستند. (للتوضيح: فى الحديث الشريف «إنى أجد نَفَس الرحمن يأتينى من قِبَلِ اليمن».. وفى آى القرآن: ألم تَرَ إلى ربك كيف مَدَّ الظل).

سِرُّ الهرب من الحرب:

مَنْ مال، متحيِّزاً إلى فئة أو متحرِّفاً لقتال، فما مال. كُنْ قارّاً، ولا تتبع فارّاً. لا تضطره إلى ضَيْق، فيأتيك ما تكرهه من فَوْق. إذا نزل القدرُ، عمى البصرُ. نزول الحمام، يقيِّد الأقدام. لا جناح، لمن غلبه الأمرُ المتاح. من راح، استراح، إلى مقرِّ الأرواح.. (للتوضيح: معانى هذه الفقرة يضيق المقام هنا عن عرضها، لرمزيتها الشديدة، ولقبولها أكثر من تأويلٍ ممكنٍ).

سِرُّ تعشُّق القوم بالنوم:

الخيالُ عينُ الكمال، ولولاه ما فُضِّل الإنسان على سائر الحيوان. به جال وصال مَنْ افتخر وطال، وبه قال من قال: سبحانى! وإنى أنا الله، وبه كان الحليم الأوَّاه.. (للتوضيح: الذى قال «سبحانى» هو أبويزيد البسطامى، وقال الحلاج: أنا الله! والقومُ هم الصوفية، وأقوالهم المشار إليها هى الشطحات).

سِرُّ الشَّطْح من الفَتْح:

مَنْ شَطَحَ عن فناءٍ شطح، وهذا من أعظم المنح. إلا أنه يُلتبسُ على السامع، فلا يعرف الجامع من غير الجامع.. ولا يظهر الشطحُ من صاحب هذا الصَّف، إلا إذا كان فى حاله ضعف.. «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» انظرْ إلى أدبه فى تحلِّيه، كيف تأدَّب مع أبيه. وما ذكر غير إخوته، فالأديبُ مَنْ أخذ بأسوته. فإن ربه أدَّبه. ومَنْ أدَّبه الحق، أنزل الناس منازلهم لـمَّا تحقَّق.

سِرُّ الشوق والاشتياق:

الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء

لا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق.

مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق.

مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟

وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن!

للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة.

والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.

كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟ وهَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور.

والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه.

وَلاَ بحُكْمِ مَنْ أَحَبَّهْ.

فَمَا حَبَّ محُبٌّ إلاَّ نَفْسَهُ. أوْ، ما عَشِقَ عاشِقٌ، إِلاَّ مَعْنَاهُ وَحِسَّهُ. لِذَلِك،

العُشَّاقُ يَتأَلمونَ بِالْفِراق، وَيَطْلُبُونَ لَذَّةَ التَّلاَق.

فَهُمْ فى حُظُوظ نُفُوسِهمْ يَسْعَوْن.

وَهُمْ فى العُشَّاقِ الأَعْلَوْن.

فَإنهَّمْ العُلَماءُ بالأُمُور، وبالَّذى خَبَّاهُ الحقُّ خَلْف السُّتُور.

فَلاَ مِنَّةً لُمحبٍّ عَلَى محْبُوبِهِ، فَإنَّهُ مَعَ مَطْلُوبهِ.

وَلاَ عنْدَهُ محْبُوبٌ ومَرْغُوب سِوَى مَا تَقِرُّ بِهِ عَيْنُه، وَيَبْتَهجُ بِهِ كَوْنُه.

وَلَوْ أرَادَ المحِبُّ ما يُريدُهُ المحْبُوبُ مِنَ الهَجْرِ، هَلَكَ.. بَينْ الإرَادَة، وَالأَمْرِ ! وَمَا صَحَّ دَعْوَاهُ فىِ المحَبَّةِ، وَلاَ كَانَ مِنَ الأَحِبَّةِ..

■ ■ ■

الوجدُ الحاصلُ عن التواجد، لا يُعَوَّلُ عليه.. الخاطرُ الثانى، فما زاد، لا يُعَوَّلُ عليه.. الواردُ المنتظر، لا يُعَوَّلُ عليه. الاطلاعُ على مساوئ العالم، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ علمٍ من طريق الكشف والإلقاء أو اللقاء والكناية، بحقيقةٍ تخالف شريعة متواترة، لا يُعَوَّلُ عليه.. خرقُ العوائد والمزيدُ من الفوائد، مع استصحاب المخالفات، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ فنٍّ لا يفيد علماً، لا يُعَوَّلُ عليه.

الأنسُ بالله فى الخلوة، والاستيحاشُ فى الجلوة، لا يُعَوَّلُ عليه.. الحالُ، عند الأكابر، لا يُعَوَّلُ عليه.. وجودُ الحق عند الاضطرار لا يُعَوَّلُ عليه، لأنه حال، والحال لا يُعَوَّلُ عليه.. الجوع، لا يُعَوَّلُ عليه.. صحبةُ أهل الله، مع عدم احترامهم، لا يُعَوَّلُ عليها..

الصبرُ الثانى لا يُعَوَّلُ عليه، فإن الصبر الذى يُعَوَّلُ عليه، هو الذى يكون عند الصدمة الأولى، لأنه دليل الحضور مع الله تعالى. القناعةُ فى العلم، لا يُعَوَّلُ عليها.. الظنُّ لا يُعَوَّلُ عليه.. التوبةُ من بعض الذنوب، لا يُعَوَّلُ عليها.. كُلُّ محبةٍ، لا يُؤثر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته، فلا يُعَوَّلُ عليها.. كُلُّ حُبٍّ يكون معه طلب، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ حُبٍّ لا يفنيك عنك، ولا يتغير بتغيُّر التجلِّى، لا يُعَوَّلُ عليه.. كلُّ حال يدوم زمانين، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ ورعٍ مقصورٍ على أمر دون أمر، لا يُعَوَّلُ عليه..

كُلُّ سُكْرٍ لا يكون عن شُرب، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ صحو يكون بعد سكرٍ، لا يُعَوَّلُ عليه، لأن سكران الحق لا يصحو. كُلُّ إسلام لا يصحبه الإيمان، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ شوقٍ يسكن باللقاء، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ فِراسة لا تكون عن نور الإيمان، لا يُعَوَّلُ عليها.. السَّفَرُ إذا لم يكن معه ظفر، لا يُعَوَّلُ عليه.. التصوفُ بغير خُلُق، لا يُعَوَّلُ عليه.. المحبةُ إذا لم تكن جامعة، لا يُعَوَّلُ عليها. الاحترامُ بغير خدمة لا يُعَوَّلُ عليه، والخدمة بغير الاحترام لا يُعَوَّلُ عليها.. المكانُ إذا لم يؤنَّث، لا يُعَوَّلُ عليه.

■ ■ ■

وهناك إشارةٌ أخيرة، لابد منها هنا، مفادها أن هذه (النصوص الفصوص) السابقة، يمكن قراءتها على عدة أوجه، بحسب تَعدُّد وجوه 

فصوص النصوص الصوفية (٧/٧).. الرمزية الصوفية عند الجيلى

«كلماتُ الحكماء، حسبما كان سوريانوس يقول، مرموزةٌ! ولا رَدَّ على الرمز».. تلك هى العبارة الشهيرة لشهاب الدين السهروردى (الإشراقى) التى تلخِّص مذهبه الأسلوبى، بل المذهب الأسلوبى للصوفية عموماً، منذ أواخر القرن السادس الهجرى.. تُرى، ما الذى دعا رجال التصوف إلى الالتجاء للرمزية، والاستعصام بها كأسلوب تعبيرى عن رؤاهم الثرية؟

قد رأينا فى المقالات الستِّ السابقة، أن الأزمة المبكرة الناشئة عن اصطدام الرؤية الصوفية (اللامحدودة) بمفردات اللغة (المحدودة) أدَّت إلى ويلات أوْدَتْ بحياة صوفيةٍ كبارٍ كالحلاج وعين القضاة الهمذانى والسهروردى، ثم قادت إلى حالة من الصمت الصوفى عقب مصرع الحلاج المروِّع (مصلوباً) فى بغداد، سنة ٣٠٩ هجرية.

وعلى صعيدٍ آخر، غيرِ صوفىٍّ، كانت هناك اتجاهاتٌ معرفيةٌ وجماعات عديدة ظلت تعانى من مشكلة اللغة، وتهددها مخاطر التعبير بالمفردات المعتادة عن أفكار ورؤى غير اعتيادية. منهم، مثلاً، جماعةُ المشتغلين بالكيمياء السحرية (السيمياء) الطامحين إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة!

أى تحويل الحديد إلى فضة، والنحاس إلى ذهب.. وقد بذل هؤلاء جهوداً مضنية منذ عصر (خالد بن يزيد) الذى حرمه من كرسى الخلافة الأموية، زوجُ أمه «عبد الملك بن مروان» فانهمك (خالد) فى المحاولات الكيميائية، واهتم بترجمة الكتب العلمية القديمة، من اليونانية إلى العربية، أملاً فى الوصول إلى مبتغاه المستحيل، بعدما استحالت عليه الرياسةُ السياسية.

وقد سار من بعده، فى الطريق ذاته، كثيرون من أمثال الطغرائى (صاحب القصيدة الشهيرة: لامية العجم) وغيره.

وكان هؤلاء الكيميائيون، السيميائيون، يعرفون أن طريقهم شديد الخصوصية والتفرد. ولا ينبغى لهم أن يتناقلوا معارفهم الخطيرة هذه، بالألفاظ المعتادة المشاع بين الناس! فلجأوا إلى الرموز المبهمات التى تمتلئ بها كتبهم وقصائدهم التعليمية.

وفريقٌ آخر من أجدادنا، اشتغلوا بالفلسفة وعلوم (الحكمة القديمة) التى لم يكن أهل زمانهم يرحبون بها. فلما أراد هؤلاء الأجداد تدوين معارفهم، لجأوا إلى الرمز والتعمية، حتى فيما يتعلق بأسمائهم! ولذلك، فنحن لا نعرف إلى اليوم أسماء أصحاب الموسوعة الفلسفية الخطيرة التى ظهرت فى القرن الرابع الهجرى، وهى المسماة (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا) وقد ظلت دوماً، على أهمية محتواها، مجهولة المؤلف.. رمزية الإشارات.

وكان اضطرابُ الأحوال السياسية، وخطورةُ الاقتراب من الحكام وكراسيهم، سبباً فى التجاء بعض المفكرين السياسيين للرمز.. ولذلك حظى تراثنا بكتاب (كليلة ودمنة) الذى قام ابن المقفع بنقله إلى اللغة العربية، متوسِّلاً بحكايات عن الحيوانات، إلى ترشيد الحكم السياسى وإرسائه على قواعد العدل والحكمة.. وإن كانت تلك الرمزية لم تمنع أصحاب السلطان عن البطش بابن المقفع.

■ ■ ■

إذن لم يكن اللجوء للرمز مختصاً بالصوفية، وإنما شاركهم فى ذلك آخرون، اتقاءً لشيوع الأفكار والمعارف الخاصة لدى العامة من الناس، أو تفادياً للبطش بهم. وهو ما كان حتى وقت قريب، يحدو بالأدباء إلى اصطناع الرمز اتقاءً وتفادياً للويلات التى قد يتعرض لها الأديبُ إذا ما أراد أن يقول، مثلاً، إن حُكم الضباط الأحرار لمصر غير مشروع! فإذا به يرمز للأمر، بقوله: جواز عتريس من فؤادة باطل.. باطل.. باطل!
ومنذ ألف سنة، تقريباً، أبان الصوفيةُ المسلمون عن مسلكهم الأسلوبى (الرمزى) وعلَّلوه، بما أورده المؤرِّخ الصوفى الشهير، القشيرى، فى كتابه المعروف بعنوان (الرسالة القشيرية) حيث قال فيه إن الصوفية قصدوا إلى استعمال الألفاظ التى يكشفون بها عن معانيهم لأنفسهم، غيرةً منهم على أسرارهم أن تشيع فى غير أهلها.

وقد عنى مؤرِّخو التصوف بتبيان بعض دلالات الرموز الصوفية فى كتبهم، وهو ما فعله القشيرى فى (الرسالة) والكلاباذى فى (التعرف لمذهب أهل التصوف) والهجويرى فى (كشف المحجوب).. كما عنى بعض كبار الصوفية بإفراد كُتبٍ ورسائل فى كشف دلالات الاصطلاحات الصوفية، وهو ما فعله ابن عربى فى رسالة (اصطلاح الصوفية) والقاشانى فى كتاب (اصطلاحات الصوفية).
Photo
■ ■ ■

ويعدُّ عبد الكريم الجيلى، المتوفَّى على أرجح الأقوال سنة ٨٢٦ هجرية، هو أكثر الصوفية المسلمين رمزيةً فى التعبير، واستغلاقاً فى البيان.. ولا يعنى ذلك أنه كان أقل بلاغةً من الصوفية الآخرين، بل هو بالعكس، واحدٌ من أكثر رجال التصوف تأنُّقاً فى لغته ومعانيه، ويكفيه أنه عبَّر عن علة لجوئه إلى الرمز، بقوله البليغ الآسر فى كتابه (الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل): مَنْ كان يعقوبىَّ الحزنِ، جَلَى عن بصره العمى، بطرحِ البشيرِ إليه قميصَ يوسف!
Photo
وفى هذه العبارة البليغة، رهيفة المعنى، نرى أن الرمزية الصوفية ليست حائلاً بين النص والقارئ، وإنما هى صلةٌ بينهما. بشرط أن يكون القارئ أصلاً، مستعداً لاستقبال هذه المعانى الدقيقة (يعقوبىّ الحزن) وقادراً على التقاط الإشارات البعيدة (قميص يوسف) حتى يفهم المراد، فيجلو عن بصره العمى.. وظاهرٌ هنا أن الجيلى، أعاد بناء مفردات القصة القرآنية البديعة، الخاصة بالنبى يوسف وأبيه يعقوب وإخوته الذين ظلموا.. بعدما أفرغ هذه المفردات من محتواها الأصلى، ونظمها فى سياق جديد بليغ، تكتسى فيه مفردات (يعقوب، الحزن، العمى البشير، القميص، يوسف) بمعانٍ ودلالاتٍ جديدة. لم تكن متعلِّقة أصلاً بالسياق القصصى القرآنى، وهو فى ذلك، يتجاوز من الناحية البلاغية ما كان قدماؤنا يسمونه (التضمين) وما صار معاصرونا يسمونه: التناصّ.
Photo: ‎المولوية 

المولوية هي إحدى الطرق الصوفية وتنسب إلى جلال الدين الرومي، المعروف عند أصحابه باسم "مولانا" أو "مولوي"، وتشتهر هذه الطريقة بالرقص الدائري والغناء واستعمال الناي.
النشأة 
ولد مؤسس هذه الطريقة جلال الدين محمد بن محمد الحسين البلخي سنة 604هـ (1207م)، في مدينة بلخ (من أعمال خراسان)، فهو إذاً فارسي الأصل، لكنه هاجر وهو صغير مع والده حتى استقر في قونية (عاصمة الدولة السلجوقية) والواقعة في جنوب تركيا، وبها أقام وتوفي سنة 672هـ (1273م).
وبعد أن كان مدّرساً للفقه، تحول المولوي إلى التصوف على يد شمس الدين التبريزي، الذي سأله: لماذا تأخذ نفسك بدراسة الفقه؟ فأجاب المولوي: لأعرف الشرع، فقال التبريزي: أليس الأجدى أن تعرف صاحب الشرع!
وبهذا المنطق الغريب صرف التبريزي المولوي عن دراسة وتدريس العلوم الشرعية، إلى براثن التصوف بحجة أن الأجدى هو معرفة الله سبحانه وتعالى لا معرفة الشريعة، ويعلق الدكتور عبد المنعم الحفني على هذا الفهم فيقول: "وهذه مغالطة، إذ كيف أعرف صاحب الشرع إن لم أعرف لأي شيء يشرّع، ولماذا يشرع، وما الذي يشرّع له"؟
وقد تعلق المولوي بأستاذه التبريزي تعلقاً كبيراً إلى الدرجة التي جعلته يحبس نفسه معه في حجرة واحدة أربعين يوماً
وإضافة إلى تتلمذه على يد التبريزي، فقد زار جلال الدين المولوي دمشق، واتصل بشيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي (560ـ 638هـ) وتلاميذه، ومنهم سعد الدين الحمومي، وصدر الدين القونوي. وقد عاصر المولوي عدداً من شيوخ الصوفية أبرزهم أبو الحسن الشاذلي، مؤسس الطريقة الشاذلية.‎
■ ■ ■

ولعبد الكريم الجيلى مؤلفاتٌ كثيرة، شعرية ونثرية. فمن بديع أشعاره قصيدته (النادرات العينية فى البادرات الغيبية) وهى ثانى القصائد الصوفية طولاً بعد تائية ابن الفارض الكبرى. وتقع النادرات فى ٥٤٠ بيتاً من روائع الأبيات، وقد نشرتُها قبل قرابة ربع قرن، مع مختاراتٍ من شرح النابلسى.
Photo: ‎ولما كان العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي  فإنه يقرع أبواب الجميع بمن فيهم من يتحاشون الحب.‎
وللجيلى قصائد كثيرة، متفرِّقة، كنت قد جمعتها معاً تمهيداً لنشرها، ولكن شغلتنى عن ذلك الشواغلُ، ودهمتنى الدواهى المشتِّتات.. أما الكتب التى تركها عبدالكريم الجيلى، فهى تزيد على الثلاثين، ومنها كتاب كبير يقع فى أربعة وأربعين جزءاً، عنوانه (القاموس الأعظم والناموس الأقدم فى معرفة قَدْر النبى صلى الله عليه وسلم) ولكل جزء عنوان مستقل، بل هو فى الواقع بمنـزلة كتاب مستقل! فمن تلك الكتب الأجزاء: قاب قوسين وملتقى الناموسين- لسان القَدَر بنسيم السَّحَر- سر النور المتمكن- لوامع البرق الموهن.. وغير ذلك.
Photo: ‎يا أيها المسافر لا تعلق القلب بمنزل ما بحيث تحزن عندما تغادره


شمس التبريزي‎
وأشهر مؤلفات عبد الكريم الجيلى، كتابه (الإنسان الكامل) وهو مطبوع طبعة مريعة، من دون تحقيق أو ضبط، مع أنه واحد من أهم المتون الصوفية فى تراثنا العربى. وقد تعرض الجيلى فى مقدمته، لمسألة الرمزية الصوفية مؤكداً أهمية التلميح، لا التصريح، عند التعبير عن الحقائق الروحية التى بحسب ما يقول: «لا تُفهم إلا لغزاً أو إشارةً، ولو ذُكرت مصرَّحةً، لحال الفهمُ بها عن محلِّها إلى خلافه». ولكن الجيلى يصل بالرمزية أحياناً إلى نواحٍ قاصية، قاسية، مثلما فعل فى قوله بأول الجزء الأول من كتابه: «الشىءُ يقتضى الجمع، والأنموذجُ يقتضى العزة، والرقيمُ يقتضى الذِّلة، وكل واحدٍ من هؤلاء، مستقلٌ فى عالمهن سابحٌ فى فلكه. فمتى خلقتَ على الأنموذج شيئاً من صفات الرقيم، انخرم قانونُ الأنموذج، ومتى كسوتَ الرقيم شيئاً من حُلل الأنموذج، لم تره! لظهوره بما ليس له..»
Photo: ‎«لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء».

شمس التبربزي‎
وقد ذكر الجيلى بعد قوله السابق، الملغز أن مراده بالرقيم العبد (الإنسان) والمراد بالأنموذج القطب (الإنسان الكامل).. فأبان بذلك عن الصلة القائمة بين عموم البشر وعوام الناس من جهة، ومن الجهة الأخرى قطب الأقطاب الذى هو قمة هرم الولاية الروحية وأعلى الأولياء مرتبة.. فأشار فى عبارته الرمزية الملغزة، إلى أن القطب يظل مع قطبيته بشراً، عندما تنخلع عليه مقتضيات المحدودية الإنسانية من طلب المأكل والملبس وما إلى ذلك من ضرورات البقاء الإنسانى.
Photo: ‎الحب وحده هو الذي يطهرقلوبنا

شمس التبريزي‎
وحين يرتقى الإنسان إلى هذه المرتبة، فيكسو (الرقيم) لباسَ (الأنموذج) ليظهر الإنسان آنذاك فى ثوبٍ ربانى، أى يصير: عبداً ربانياً يقول للشىء كن فيكون! بحسب نص الحديث النبوى المشهور.. وهنا تجب إشارتان، الأولى أن مصطلح (الرقيم) هو فى أساسه لفظة قرآنية وردت فى معرض الحكاية عن قصة أهل الكهف فى القرآن، الذين هم وفقاً للآيات الكريمات (أصحاب الكهف والرقيم) وهو عند عبد الكريم الجيلى رمزٌ مبكرٌ، استعمله فى عنوان أول الكتب التى ألفها فى شبابه الباكر وجعله بعنوان: الكهف والرقيم فى شرح بسم الله الرحمن الرحيم.
Photo: ‎ألست فاتن قلبي، ان كان قد بقى لي قلب، وألست حجر كهرمان جاذب وأنا مجرد قشة


شمس التبريزي‎
ثم ألف بعده، بقية كتبه التى لم تزل فى معظمها مخطوطة لم تنشر، ومنها هذه المؤلفات التى يجدر بنا أن نتأمل عناوينها، ليس فقط لروعة سجعها، وإنما أيضاً لسعيها للإبانة برائق اللفظ عن فائق المعنى: غُنية أرباب السماع وكشف القناع عن وجوه الاستماع- إنسانُ عين الوجود ووجودُ عين الإنسان الموجود- السِّفْرُ القريب نتيجة السَّفر الغريب- شرحُ مشكلات الفتوحات المكية وفتحُ الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية- كشفُ الغايات فى شرح كتاب التجليات- المملكةُ الربانيةُ المودعةُ فى النشأة الإنسانية- بحرُ الحدوث والقدم ومُوجدُ الوجود والعدم- عيونُ الحقائق فى كل ما يُحمل من علم الطرائق- حقيقةُ الحقائق التى هى للحق من وجه ومن وجه للخلائق.. وغير ذلك!
Photo: ‎فنحن كالروح في الدنيا وان كنا غير ظاهرين، ونحن كعشق العاشقين، وان لم تكن لنا أمارات

شمس التبريزي‎
والإشارةُ الأخرى، الواجبة هنا، هى أن الجيلى وصل بالرمزية الصوفية فى بعض المواضع من كتبه، إلى مرحلة تامة الاستغلاق، مستحيلة الفهم، حتى على المتخصِّص فى اللغة الصوفية.. إن صحَّ أن هناك متخصِّصين فى هذه اللغة! فمن ذلك ما نراه من قوله فى كتابه (الإنسان الكامل):
Photo: ‎من هو شمس التبربزي 

هو شمس الدين ، وقيل شمس الحق والدين محمد بن ملك داد التبريزي ، المشهور بالشمس التبريزي ، وقيل في اسمه: محمد بن علي بن ملك داد. ولد سنة 582 هـ و تتلمذ عليه الملا الرومي البلخي  قيال عنه أنه كان شاعرا و حكيما فارسيا إلى كونه درويشا هائما وقام برحلات إلى مدن منها حلب وبغداد و دمشق  وقونية والتي التقي فيها بمولانا جلال الدين الرومي الذي كان آنذاك، يبحث عن تلميذ بعينه ينقل إليه أسرار الطريقة و الحكمة، و أنه وجد فيه مولانا جلال الدّين ضالته، فكانت الصلة بين الرجلين أقوى من صلة "المتحابّين في الله" المبشّرين بالجنّة وفقا لحديث النّبي (ص)، إلى صلة الشيخ بمريده و الإمام بتابعه 
تلا اللقاء الأول خلوة دامت بينهما أربعين يوما، لم يكن يدخل عليهما ، خرج جلال الدين من الخلوة وقد زلزلت روحه زلزالا عميقا، وراح ينشد أشعاره المتدفقة، الحية، والتي تجسدت في تلك المقطوعات الرائعة التي ضمها ديوانا يحمل اسم شيخه الحبيب، شمس الدين التبريزي، القصائد موجهة في الظاهر إليه، وتعلن عنه وتكني أيضا، لكنها في الجوهر تعبر عن المغامرة الروحية التي عرفها مولانا جلال الدين من خلال تجربته الصوفية العميقة  مع رفيقه شمس الدين التبربزي والتي تبلورت فيها رؤاه حول فكرة أو اكتشاف توحد الإنسان بالكون، بالخالق،  وقتل على يد جماعة من المناوئين له  من مريدي جلال الدين الرومي 644 هـ.‎
جمعنا الوقتُ، عند الحقِّ، بغريبٍ من غرباء الشرق، ملثَّماً بلثام الصمدية، متَّزراً بإزار الأحدية، مترديّاً برداء الجلال.. مسلِّماً بلسان الكمال، فلما أجبتُ تحية سلامه، أسفر بدره عن لثامه، فشاهدته أنموذجاً فهوانياً، حكيماً، حكمياً، برنامجاً مقدَّراً على سبيل الفرض، وبه لا بغيره، تبرأ الذمة من رقِّ القرض، فاعتبرته فى معيارى ونظمت به عقود الدَّرارى، فانقطعتْ من أول وهلةٍ منى، علاقةُ الفقار، فأصلحت بانكسار عمود الأين.. إلخّ !

■ ■ ■
Photo: ‎ان كنت لاتريدني فأنا أريدك بالروح، وان لم تفتح لي الباب، فأنا مقيم على عتبته.‎
ومن مستغلق قول الجيلى، فى كتابه (الإنسان الكامل) ما يلى:

إن المعجب الحقيق، والطائر الحمليق، الذى له ستمائة جناح، وألف شوالة صحاح؛ الحرامُ لديه مباح، واسمه السفَّاح بن السِّفاح! مكتوبٌ على أجنحته أسماءٌ مستحسنة، صورةُ الباء فى رأسه، والألف فى صدره، والجيم فى جبينه، والحاء فى نحره، وباقى الحروف بين عينيه صفوف.. 

ما الذى يقصده الجيلى هنا؟ لقد كتبتُ قبل عشرين عاماً، أننى لا أعرف مراده.. وهو عين ما سأكتبه اليوم! ولكن تظل فى الفقرة السابقة صورة خيالية آسرة، غريبة، قد تكون لرمز (العنقاء) التى طالما أشار بها الصوفية لغرابة المعنى. وقد تكون رمزاً للنوع الإنسانى الأصلى الذى انطوى فيه العالم، بحسب المفهوم الصوفى. وقد تكون لمعنى آخر أراده الجيلى، ولم يفصح عنه.

وعلى الرغم من إيغال الجيلى، وعديدٍ من الصوفية المتأخرين، فى مفاوز الرمزية الصوفية. فإن ذلك، كان يرد فى مواضع معينة من نصوصهم الشعرية والنثرية، ولم يمنع عن بقية المواضع، بدائع التعبيرات البليغة، وطرائف الصيغ الأسلوبية التى يضيق المقام هنا عن استعراض المزيد من نماذجها النثرية والشعرية.

■ ■ ■
Photo: ‎إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس فأجعل قلبك لا عقلك
دليلك الرئيسي



شمس التربيزي‎
محي الدين بن عربي

وألطف ما في الحب ما وجدته وهو أن تجد عشقـاً مفرطاً وهوىً وشوقـاً مقلقـاً وغراماً ونحولاً وإمتناع نوم ولذة بطعام، ولا يدري فيمَنْ، ولا بمنْ، ولا يتعين لك محبوبك، وهذا ألطف ما وجدته ذوقـاً. ثم بعد ذلك بالإتفاق، إما يبدو لك تجلّ ٍ في كشف فيتعلق ذلك الحب به، أو ترى شخصاً فيتعلق ذلك الوجد الذي تجده به عند رؤيته فتعلم أن ذلك كان محبوبك وأنت لا تشعر، أو يُذكر شخص فتجد الميل إليه بذلك الهوى الذي عندك فتعلم أنه صاحبك، وهذا من أخفى دقائق استشراف النفوس على الأشياء من خلف حجاب الغيب، فتجهل حالها ولا تدري بمن هامت ولا فيمن هامت ولا ما هَيّمَها.

وهذا ألطف ما يكون من المحبة، ودونه حب الحب، وهو الشُغلُ بالحب عن متعلقه. جاءت ليلى إلى قيس وهو يصيح: “ليلى، ليلى”. ويأخذ الجليد ويلقيه على فؤاده فتذيبه حرارة الفؤاد.
فسَلّمتْ عليه وهو في تلك الحالة وقالت له: “أنا مطلوبك، أنا بغيتك، أنا محبوبك، أنا قرّة عينك، أنا ليلى”.
فالتفت إليها وقال: “إليكِ عني، فإنّ حُبكِ شغلني عنكِ”.
هذا ألطف ما يكون، وأرقّ في المحبة، ولكن هو دون ما ذكرناه في اللطف.
واعلم أن الأمور المعلومات على قسمين: منها ما يُحَدْ ومنها ما لا يُحد. والمحبة، عند العلماء بها والمتكلمين فيها، من الأمور التي لا تُحد. واعلم أن كل حب لا يَحُكمُ على صاحبه بحيث أن يَصُمّهُ عن كل مسموع سوى ما يسمع من كلام محبوبه، ويُعميه عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويُخرسه عن كل كلام إلا ذِكر محبوبه وذِكر من يُحب محبوبه، ويختم على قلبه فلا يدخل فيه سوى حب محبوبه، ويرمي قفله على خزانة خياله فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فيكون كما قيل:
خيالك في عيني وذِكْرُكَ في فمي        ومثواكَ في قلبي فأينَ تغيبُ

فبه يسمع، وله يسمع، وبه يُبصر، وله يُبصر، وبه يتكلم، وله يتكلم.
وكل حب يُبقي في المُحب عقلاً يَعقل به عن غير محبوبه فليس بحب خالص، وإنما هو حديث نفس. وقال بعضهم: “لا خير في حب يُدَبر بالعقل”.

■ ■ ■
مولانا جلال الدّين و شمس التبريزي

يعتبر ديوان شمس التبريزي، أو كما يسمّيه البعض "الديوان الكبير"، أهم أعمال مولانا جلال الدّين الرومي شاعر القرن الثالث عشر (1207 – 1273)، أو صاحب الطريقة المولوية، طريقة الدراويش الصوفية الإسلامية ذات السمعة العالمية الطّيبة، التي تجاوز أتباعها الملايين، و اجتذبت مريدين من المسلمين و غير المسلمين.  و ما تزال شخصية شمس التبريزي، أو شمس الدّين التبريزي، التي خلّدتها أعمال مولانا جلال الدّين، مثيرة لجدل كبير في أوساط الباحثين و الأكاديميين و المؤمنين، جرّاء الغموض الذي صاحب ظهورها و مسيرتها و موتها، إلى حدّ جعلها العقدة الأساسية في سيرة مولانا نفسها، التي تميّزت بعقد كثيرة منها ما هو عائد إلى هذا العظيم في شخصه، و منها ما يعود إلى تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها، بما انطوت عليه من تقلّبات و أحداث و أسرار محيّرة.  لقد قالت معظم السير أن شمس الدّين التبريزي كان درويشا هائما على وجهه في بلاد المسلمين، من تلك الفئة من المتصوّفة التي اختارت نبذ الدنيا وراء ظهورها و ترك المال و العيال و التنقّل في ملكوت الله الواسع و التأمّل في آياته في خلقه من بشر و شجر و حجر، و هي فئة وجدت لها نظائر في الأديان الإبراهيمية و في غيرها، خصوصا الهندية منها كـ"الجانتية" مثلا.  و قالت سير أخرى أن شمس كان شاعرا و حكيما فارسيا إلى كونه درويشا هائما، و أنه جاء إلى قونية السلجوقية التركية آنذاك، يبحث عن تلميذ بعينه ينقل إليه أسرار الطريقة و الحكمة، و أنه وجد في مولانا جلال الدّين ضالته، فكانت الصلة بين الرجلين أقوى من صلة "المتحابّين في الله" المبشّرين بالجنّة وفقا لحديث النّبي (ص)، إلى صلة الشيخ بمريده و الإمام بتابعه.  
Photo: ‎قواعد العشق الأربعون‎
و بحسب القصّة المشهورة، فإن صلة المحبّة هذه أثارت غيرة أتباع مولانا جلال الدّين و أوغرت صدورهم على الدرويش الغامض، فقاموا باغتياله في حادث طرق مثير على الباب ذات مساء، لم يظهر بعدها شمس، تاركا في قلب الصاحب لوعة أفاضت شعرا و فنّا و حنينا و حبّا ما يزال ملهما للسالكين إلى ساعة الخلق هذه.  لكنّ اختبار هذه القصّة في مختبر ذلك الزمان المليء بالغموض أصلا، يجعلها عاجزة عن الصمود في وجه أسئلة ليس بالمقدور لجمها، و التوائم مع معطيات تظهر بين الفينة و الأخرى لا يمكن تجاهلها، فأسرار ذلك الزمان ما تزال تجود بكنهها، إذ تحرّكت فيه الحدود الدولية في دورة تاريخية حاسمة، و التقى فيه أقصى الشرق (المغول) مع أقصى الغرب (الصليبيّون)، و انهارت فيه الخلافتان الإسلاميّتان العبّاسية و الفاطمية، و تلاشت فيه دول و دويلات و تجارب سياسية و دينية و روحيّة، و عصفت فيه بالمسلمين أزمة ثقة حضارية في النفس غير مسبوقة.  و في تقديري فإن أهمّ المعطيات التي لم تمنح ما تستحقّ من العناية في جلّ محاولات تفكيك العقدة المولوية، ربّما استجابة لرغبة مولانا نفسه، الذي تجاوزت كلمته حواجز الأديان و الطوائف و العقائد و الشعائر و الطرق و الشرائع، إلى كلمة التوحيد و العشق و الفناء في الذات الإلهية الجامعة للبشر جميعا بصرف النظر عن خلفياتهم و انقساماتهم و أجناسهم و أديانهم و طوائفهم، أليس هو القائل "تعال، كيفما كنت تعال..".  إن معطى الأصل الطائفي لمولانا جلال الدّين الرومي، ربّما شكّل في رأيي أحد أهم قطع الصورة الضائعة، و هو معطى يحتاج كثيرا من التحقيق و البحث و التدقيق، فالحديث فيه ناهيك عن كونه يزعج مولانا في مرقده، ما دام هو قد تجاوز قولا و فعلا هذا المعطى، فإنه سينطوي في كل الأحوال على قدر كبير من المجازفة، و لن يسلم من اختراق أكيد لثغرات ستظهر في جداره لا يمكن سدّها لعوامل موضوعية لا قدرة للباحث على تجاوزها.  
Photo
لا شكّ أن إقامة مولانا جلال الدّين في قونية خلال الجزء الأخير الغالب في حياته، جعله في نظر غالبية المسلمين السنّة علما من أعلامهم و جزءا من تراثهم الديني و الروحي، خصوصا و أن الطريقة المولوية، التي نشأت بعد وفاة مولانا كمؤسسة للحفاظ على خطّه و تياره و كلماته، لكن الرأي الأرجح في أصله أنه ولد و ترعرع و تربّى "مسلما شيعيّا" من أبناء الطائفة "الإسماعيلية النزارية"، الممتدّ خط أئمتها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى وقتنا الحاضر ممثّلا في الإمام التاسع و الأربعين كريم شاه علي المعروف بلقبه "الأغا خان الرابع".  و قد بدأت رحلة هجرة مولانا من أرض مولده قريبا من خرسان حيث كانت للاسماعيليين مناطق نفوذ شبه مستقلّة عن دولة خوارزم السنيّة، بعد بدء المغول زحفهم غربا، حيث جاء بصحبة والده و عائلته إلى بغداد عاصمة الخلافة العبّاسية، قبل أن يرتحل إلى مكّة و دمشق و كرمان، ليستقرّ به الحال في قونية التي كانت عاصمة الإمارة السلجوقية التركية، و واكب في حياته تدمير جيوش هولاكو للدولة الإسماعيلية النزارية في آلموت شمال فارس سنة 1256، و لبغداد عاصمة الخلافة العبّاسية سنة 1258. و مما أورده الإخباريون أن أوّل من أثر روحيا و أدبيا في مولانا جلال الدين الرّومي هو الشاعر و عالم الدّين الاسماعيلي الكبير فريد الدّين العطّار، الذي قيل أنه انتبه إلى نباهة مولانا العرفانية و أهداه نسخة من ديوانه الشهير "أسرار نامه"، و هو الكتاب الشعري الذي يشترك مع أعمال الرومي في روحانيته العالية و خوضه في بحور العشق الإلهي و الذوق الربّاني.  و يقود هذا الخط البحثي صاحبه إلى الاقتراب من إحدى الروايات المهمّشة في فك لغز العلاقة بين مولانا و شمس التبريزي، فأهل هذه الرواية يتبنّون بكل وثوق النظرية التي لا ترى في الدرويش شمس الدّين التبريزي سوى الإمام الثامن و العشرين في سلسلة الأئمة الإسماعيليين النزاريين "شمس الدّين محمد بن ركن الدين شاه"، الذي مثّل والده الإمام ركن الدّين خيروشاه بن علاء الدّين محمد آخر قادة الدولة الاسماعيلية في آلموت (التي أسسها الداعية الإسماعيلي الفاطمي الشهير حسن الصبّاح) المنتهية على يد المغول سنة 1256 كما أشير.  و قد اضطرّ قادة الاسماعيلية بعد انهيار دولتهم في آلموت، إلى العودة إلى طور الستر و التخفّي، و اضطروا بعد ذلك و لقرون طويلة إلى ممارسة التقيّة و الاندماج في طوائف و طرق اعتقدوا أنها تشترك معهم في أسس كثيرة، مثل الشيعة الاثني عشرية و السنيّة الصوفية، التي بلغت ذروة تجسيدها السياسي لاحقا بإقامة الشيخ الشاه إسماعيل الأكبر سنة 1501 الدولة الصفوية، التي قامت في الأصل على حركة صوفية سرعان ما تبنّت العقيدة الإمامية الاثنى عشرية عقيدة رسمية للدولة الجديدة.  و سيفضى كل تمحيص للفكر الاسماعيلي و الفكر المولوي إلى الوقوف على مشتركات مذهلة، لعل من أبرزها إيمان كليهما بالتوحيد المتجاوز لانقسامات الأديان، و بالحبّ أصلا في تحقيق وحدة البشر، و بالإمام أو الشيخ مصدرا لكشف أسرار النصّ المقدّس الباطنية، كما سيساعد اقتران الدرويش شمس بالإمام شمس الدّين بن ركن الدّين المتخفي في هيئة درويش من بطش المغول، في فهم سر تعلّق مولانا بإمامه المستور.

حكاية جلال الدين الرومي و شمس التبريزي ورحلة روحانية في بحــــر الصـــوفيـــة العميق
أربعـــون فـگرة للعشـــق الحــــــلال

Photo: ‎حكاية جلال الدين الرومي و شمس التبريزي ورحلة روحانية في بحــــر الصـــوفيـــة العميق
أربعـــون فـگرة للعشـــق الحــــــلال

اخبار اليوم 19/7/2013 

تقدمها :: زينب عفيفي


هناك كتابات تري فيها صورة لذاتك، وكتابات تعكس وجهة نظرك تجاه قضايا تهمك وتثير شهيتك للتفكير، وأخري تضيف الي رصيدك الروحي جانبا كان غافلا في حياتك فتبعث فيك شيئا يجعل لحياتك مغزي، من بين هذه الكتابات وقعت بين يدي رواية جذبني عنوانها قبل مضمونها، فوجدت نفسي غارقة في تفاصيلها، وكأنني أقرأ جزءا من ذاتي فيها، الرواية عنوانها " قواعد العشق الاربعون " للكاتبة التركية " اليف شفق " صدرت باللغة الانجليزية في العام الماضي وقام بترجمتها للعربية في هذه الأيام خالد الجبيلي.
الرواية تحكي العلاقة بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي من خلال امرأة تعمل ناقدة في وكالة ادبية تقرأ الاعمال الادبية وتكون رأيا حول هذه الأعمال لتكون  مساعدا لصاحب الوكالة في نشر العمل او عدم نشره ، هذه المرأة لها قصة في نسيج العمل الروائي ذاته " قواعد العشق الأربعون " لتصل الرواية بنا في النهاية الي مستويين من السرد القصصي قصة هذه المرأة بحياتها الرتيبة العادية وقصة العمل نفسه الذي تقوم بقراءته فيصبح لدينا عملان في عمل واحد..  تكشف الرواية كوامن النفس البشرية الكامنة بداخل كل منا وتؤكد علي ان الانسان يظل تائها في صحراء نفسه يتخبط بين ادراجه الي أن يصل الي وجود الله بداخله عندما يصل الي السلام الداخلي و يستريح البال.
السرد الاول في الرواية يدور حول امرأة في الاربعين من عمرها اسمها " ايلا " متزوجة من "ديفيد " الرجل المزواج الذي يخونها كل يوم مع امرأة مختلفة ولا تملك دليلا ماديا واحدا علي خيانته ولكنها هي حاسة المرأة، لها ثلاثة اولاد ابنة في العشرين من عمرها تدرس في الجامعة وتريد ان تستقل بحياتها وتتزوج بمن تحبه ، وطفلان توأمان ولد وبنت مازالا في مرحلة التعليم ، تعمل قارئة في وكالة ادبية.. وقد ارسل صاحب الوكالة لها رواية بعنوان " الكفر الحلو " لتقيمها وتقول رأيها.
تبدأ الرواية الأصلية بنوع من التمازج بين "ايلا"  وانعكاسات العمل الذي يأخذها فيه "قواعد العشق الأربعون" للتبريزي والبحث عن صاحب العمل الذي يتضح من احداث الرواية ان هذا العمل هو الأول له.. وكما جاء في متن الرواية أنه يعمل مصورا محترفا يجول في انحاء الكرة الارضية ويجد في الذهاب الي اقصي اقاصي المعمورة امرا طبيعيا وسهلا كأنه يتنزه في حديقة الحي ، بدوي عنيد في الصميم جاب ارجاء الدنيا يرتاح في كل مكان يحل فيه سواء في سيبريا ام في شنغهاي ام في كلكتا ام في الدار البيضاء ، يسافر حاملا معه حقيبة ظهر ونايا مصنوعا من القصيب ويتخذ لنفسه اصدقاء في اماكن لا تستطيع ايلا ان تحدد موقعها علي الخريطة.. تقول عنه ايلا ان عزيز شلال هادر فقد كان ينطلق بكل طاقته وقوته الي اماكن تخاف ان تطأها الاقدام.. في حين كانت ايلا تتردد وتقلق قبل الاقدام علي أي عمل اذ تكون متحمسة جدا في البداية ثم يعتريها التردد والقلق. 
وعلي صعيد رواية "الكفر الحلو " وهي رواية داخل رواية قواعد العشق الاربعون نجد شخصية شمس الدين التبريزي وهو احد الباحثين الصوفيين في القرن الثالث عشر الميلادي، لعب دورا كبيرا في خلق مسار انقلابي كبير في حياة جلال الدين الرومي. (قواعد العشق الأربعون) تتعمق في مواجهته مع جلال الدين الرومي في المدينة الاناضولية (قونيا) عام 124 والصداقة العميقة السامية التي كان لها تأثيرها الدائم علي جلال الدين الرومي، الذي استلهم الحكمة من شمس، لينفصل عنه في نهاية المطاف ليتفرغ لكتابة رائعته (المثنوي). كل ذلك جاء من خلال السرد الذي كانت تقوم به (إيلا) وهي ربة بيت معاصرة من نيوانجلاند استطاعت الحصول علي وظيفة بدوام جزئي كقارئة لإحدي دور النشر الصغيرة. المسودة الأولي التي أعطيت لـ (إيلا) تخبرنا عن قصة نقرؤها معها عن شمس وجلال الدين الرومي، وسرعان ما تجد نفسها تقوم بمراسلات عاطفية مع المؤلف عن طريق البريد الالكتروني. وتتطور الرواية عبر فصول قصيرة من خلال قفزات متتالية في الفترة الممتدة بين القرنين الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين.
وتؤكد فكرة الرواية علي حقيقة تاريخية بين زمانين زمن احداث الرواية بين ايلا وعزيز مؤلف رواية " الكفر الحلو "  وزمن سرد الرواية بين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي " قواعد العشق الاربعون " في القرن الثالث عشر لتصل الي حقيقة ان هذين التاريخين هما اكثر الازمنة التي شهدت صراعات سياسية دينية وتصادما فكريا في العقيدة بين المسلمين والمسلمين وبين المسيحيين والمسيحيين وتأتي سطور الرواية مؤكده علي هذه الفكرة : " لا يختلف القرن الحادي والعشرون كثيرا عن القرن الثالث عشر وسيدون في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية الي حد لم يسبق له مثيل وعصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي والشعور العام بعدم الامان والخوف من الآخر وفي أوقات كهذه تكون الحاجة الي الحب أشد من أي وقت مضي " ولما كان العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي كما يذكرنا جلال الدين الرومي فإنه يقرع أبواب الجميع بمن فيهم من يتحاشون الحب.
 وقد اعتمدت الكاتبة علي تاريخ العلاقة الحاصلة بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي اللذين تركا اثراً كبيراً علي حركة التصوف في الشرق ، وما تركه ذلك من ثراء شعري لدي جلال الدين الرومي في ديوانه المتكون من أربعة اجزاء (شمس التبريزي)، وهو معنون بذات الاسم للمعلم الغريب الذي جاءه من أماكن نائية واجتمع به لمدة اربعين يوماً خرج بعدها الرومي وهو في صورة وحال جديدين واختفي  شمس التبريزي، لتقول الروائية انه قتل ، ثم تبدأ مراسلات ومكالمات البطلة الأمريكية مع مؤلف رواية (الكفر الحلو) عزيز، وهاهو يفلسف رقم الاربعين عندما اخبرته ايلا في احداث الرواية انها بلغت من العمر اربعين عاما ولا تجد في حياتها شيئا مميزا  معتمداً علي الفكر والميثيولوجيا والأسطورة قائلا : أن الاربعين في الفكر الصوفي يرمز الي الصعود الي مستوي اعلي وإلي يقظة روحية فعندما نحزن يكون الحزن لمدة اربعين يوماً وعندما يولد الطفل فهو يستغرق اربعين يوماً حتي يتهيأ لبدء حياته علي الارض وقد استمر طوفان نوح اربعين يوماً وقد خرج المسيح الي  القفر اربعين يوماً وليلة وكان النبي محمد (ص) في الاربعين عندما نزل عليه الوحي وتأمل بوذا شجرة الزيزفون اربعين يوماً.
ان الرواية تمثل دورانا وسياحة روحية بين بغداد وقونية وبعض البلدان التي مر بها شمس التبريزي باحثاً عن ذاته في الاخر وباحثاً عن الله في قلبه، ان قواعد التبريزي الاربعين تستمر في الامتثال مع السرد الثري للكاتبة التي استطاعت بقدرة فائقة ان تصل الي قلب حقيقة العشق لدي التبريزي وان تتلبس فيه‎

هناك كتابات تري فيها صورة لذاتك، وكتابات تعكس وجهة نظرك تجاه قضايا تهمك وتثير شهيتك للتفكير، وأخري تضيف الي رصيدك الروحي جانبا كان غافلا في حياتك فتبعث فيك شيئا يجعل لحياتك مغزي، من بين هذه الكتابات وقعت بين يدي رواية جذبني عنوانها قبل مضمونها، فوجدت نفسي غارقة في تفاصيلها، وكأنني أقرأ جزءا من ذاتي فيها، الرواية عنوانها " قواعد العشق الاربعون " للكاتبة التركية " اليف شفق " صدرت باللغة الانجليزية في العام الماضي وقام بترجمتها للعربية في هذه الأيام خالد الجبيلي.

الرواية تحكي العلاقة بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي من خلال امرأة تعمل ناقدة في وكالة ادبية تقرأ الاعمال الادبية وتكون رأيا حول هذه الأعمال لتكون مساعدا لصاحب الوكالة في نشر العمل او عدم نشره ، هذه المرأة لها قصة في نسيج العمل الروائي ذاته " قواعد العشق الأربعون " لتصل الرواية بنا في النهاية الي مستويين من السرد القصصي قصة هذه المرأة بحياتها الرتيبة العادية وقصة العمل نفسه الذي تقوم بقراءته فيصبح لدينا عملان في عمل واحد.. تكشف الرواية كوامن النفس البشرية الكامنة بداخل كل منا وتؤكد علي ان الانسان يظل تائها في صحراء نفسه يتخبط بين ادراجه الي أن يصل الي وجود الله بداخله عندما يصل الي السلام الداخلي و يستريح البال.

السرد الاول في الرواية يدور حول امرأة في الاربعين من عمرها اسمها " ايلا " متزوجة من "ديفيد " الرجل المزواج الذي يخونها كل يوم مع امرأة مختلفة ولا تملك دليلا ماديا واحدا علي خيانته ولكنها هي حاسة المرأة، لها ثلاثة اولاد ابنة في العشرين من عمرها تدرس في الجامعة وتريد ان تستقل بحياتها وتتزوج بمن تحبه ، وطفلان توأمان ولد وبنت مازالا في مرحلة التعليم ، تعمل قارئة في وكالة ادبية.. وقد ارسل صاحب الوكالة لها رواية بعنوان " الكفر الحلو " لتقيمها وتقول رأيها.

تبدأ الرواية الأصلية بنوع من التمازج بين "ايلا" وانعكاسات العمل الذي يأخذها فيه "قواعد العشق الأربعون" للتبريزي والبحث عن صاحب العمل الذي يتضح من احداث الرواية ان هذا العمل هو الأول له.. وكما جاء في متن الرواية أنه يعمل مصورا محترفا يجول في انحاء الكرة الارضية ويجد في الذهاب الي اقصي اقاصي المعمورة امرا طبيعيا وسهلا كأنه يتنزه في حديقة الحي ، بدوي عنيد في الصميم جاب ارجاء الدنيا يرتاح في كل مكان يحل فيه سواء في سيبريا ام في شنغهاي ام في كلكتا ام في الدار البيضاء ، يسافر حاملا معه حقيبة ظهر ونايا مصنوعا من القصيب ويتخذ لنفسه اصدقاء في اماكن لا تستطيع ايلا ان تحدد موقعها علي الخريطة.. تقول عنه ايلا ان عزيز شلال هادر فقد كان ينطلق بكل طاقته وقوته الي اماكن تخاف ان تطأها الاقدام.. في حين كانت ايلا تتردد وتقلق قبل الاقدام علي أي عمل اذ تكون متحمسة جدا في البداية ثم يعتريها التردد والقلق. 
Photo
وعلي صعيد رواية "الكفر الحلو " وهي رواية داخل رواية قواعد العشق الاربعون نجد شخصية شمس الدين التبريزي وهو احد الباحثين الصوفيين في القرن الثالث عشر الميلادي، لعب دورا كبيرا في خلق مسار انقلابي كبير في حياة جلال الدين الرومي. (قواعد العشق الأربعون) تتعمق في مواجهته مع جلال الدين الرومي في المدينة الاناضولية (قونيا) عام 124 والصداقة العميقة السامية التي كان لها تأثيرها الدائم علي جلال الدين الرومي، الذي استلهم الحكمة من شمس، لينفصل عنه في نهاية المطاف ليتفرغ لكتابة رائعته (المثنوي). كل ذلك جاء من خلال السرد الذي كانت تقوم به (إيلا) وهي ربة بيت معاصرة من نيوانجلاند استطاعت الحصول علي وظيفة بدوام جزئي كقارئة لإحدي دور النشر الصغيرة. المسودة الأولي التي أعطيت لـ (إيلا) تخبرنا عن قصة نقرؤها معها عن شمس وجلال الدين الرومي، وسرعان ما تجد نفسها تقوم بمراسلات عاطفية مع المؤلف عن طريق البريد الالكتروني. وتتطور الرواية عبر فصول قصيرة من خلال قفزات متتالية في الفترة الممتدة بين القرنين الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين.

وتؤكد فكرة الرواية علي حقيقة تاريخية بين زمانين زمن احداث الرواية بين ايلا وعزيز مؤلف رواية " الكفر الحلو " وزمن سرد الرواية بين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي " قواعد العشق الاربعون " في القرن الثالث عشر لتصل الي حقيقة ان هذين التاريخين هما اكثر الازمنة التي شهدت صراعات سياسية دينية وتصادما فكريا في العقيدة بين المسلمين والمسلمين وبين المسيحيين والمسيحيين وتأتي سطور الرواية مؤكده علي هذه الفكرة : " لا يختلف القرن الحادي والعشرون كثيرا عن القرن الثالث عشر وسيدون في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية الي حد لم يسبق له مثيل وعصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي والشعور العام بعدم الامان والخوف من الآخر وفي أوقات كهذه تكون الحاجة الي الحب أشد من أي وقت مضي " ولما كان العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي كما يذكرنا جلال الدين الرومي فإنه يقرع أبواب الجميع بمن فيهم من يتحاشون الحب.

وقد اعتمدت الكاتبة علي تاريخ العلاقة الحاصلة بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي اللذين تركا اثراً كبيراً علي حركة التصوف في الشرق ، وما تركه ذلك من ثراء شعري لدي جلال الدين الرومي في ديوانه المتكون من أربعة اجزاء (شمس التبريزي)، وهو معنون بذات الاسم للمعلم الغريب الذي جاءه من أماكن نائية واجتمع به لمدة اربعين يوماً خرج بعدها الرومي وهو في صورة وحال جديدين واختفي شمس التبريزي، لتقول الروائية انه قتل ، ثم تبدأ مراسلات ومكالمات البطلة الأمريكية مع مؤلف رواية (الكفر الحلو) عزيز، وهاهو يفلسف رقم الاربعين عندما اخبرته ايلا في احداث الرواية انها بلغت من العمر اربعين عاما ولا تجد في حياتها شيئا مميزا معتمداً علي الفكر والميثيولوجيا والأسطورة قائلا : أن الاربعين في الفكر الصوفي يرمز الي الصعود الي مستوي اعلي وإلي يقظة روحية فعندما نحزن يكون الحزن لمدة اربعين يوماً وعندما يولد الطفل فهو يستغرق اربعين يوماً حتي يتهيأ لبدء حياته علي الارض وقد استمر طوفان نوح اربعين يوماً وقد خرج المسيح الي القفر اربعين يوماً وليلة وكان النبي محمد (ص) في الاربعين عندما نزل عليه الوحي وتأمل بوذا شجرة الزيزفون اربعين يوماً.

ان الرواية تمثل دورانا وسياحة روحية بين بغداد وقونية وبعض البلدان التي مر بها شمس التبريزي باحثاً عن ذاته في الاخر وباحثاً عن الله في قلبه، ان قواعد التبريزي الاربعين تستمر في الامتثال مع السرد الثري للكاتبة التي استطاعت بقدرة فائقة ان تصل الي قلب حقيقة العشق لدي التبريزي وان تتلبس فيه


Photo: ‎من رواية قواعد العشق الأربعون‎

Photo: ‎من قواعد العشق الأربعون‎

Photo: ‎من رواية قواعد العشق الاربعون - لمولانا جلال الدين الرومي‎

Photo: ‎من رواية #قواعد_العشق_الأربعون‎

Photo: ‎من قواعد العشق الأربعون‎

Photo: ‎من قواعد العشق الاربعين‎

Photo: ‎من قواعد العشق الأربعون .. شمس التبريزي‎

يتكون الفكر و الحب من مواد مختلفة 
فالفكر يربط البشر ف عقد 
لكن الحب يذيب جميع العقد 
إن الفكر حذر علي الدوام وهو يقول ناصحا "احذر الكثير من النشوة" بينما الحب يقول "لا تكترث أقدم علي هذه المجازفة" وفي حين أن الفكر لا يمكن ان يتلاشي بسهولة
فان الحب يتهدم بسهولة ويصبح ركاما من تلقاء نفسه لكن الكنوز تتواري بين الانقاض 
والقلب الكسير يخبئ كنوزا” 
■ ■ ■
“و لو أراد الله أن نكون متشابهين ،لخلقنا متشابهين ، لذلك فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارك علي الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله” 
Photo: ‎من كتاب قواعد العشق الأربعين‎


“يجب ألا يحول شيء بين نفسك وبين الله , لا أئمة , ولا قساوسة ولا أحبار ولا أي وصي آخر على الزعامة الأخلاقية أو الدينية , ولا السادة الروحيون , ولا حتى ايمانك. آمن بقيمك ومبادئك , لكن لا تفرضها على الآخرين , وإذا كنت تحطم قلوب الآخرين فمهما كانت العقيدة الدينية التي تعتنقها , فهي ليست جيّدة ابتعد عن عبادة الأصنام بجميع أنواعها , لأنها تشوه رؤيتك . ليكن الله , والله وحده دليلك.
Photo
“من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحب إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم. تذكّر، أن المرء لا يعرف إلا ما هو قادر على أن يحب. فلا حكمة من دون حب. وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً.” 


من قواعد العشق الأربعون

Photo: ‎«لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء».

شمس التبربزي‎
«لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء».
Photo: ‎من كتاب قواعد العشق الاربعون - إليف شافاق‎
“إن الماضي تفسير, والمستقبل وهم. إن العالم لا يتحرك عبر الزمن وكأنه خط مستقيم, يمضي من الماضي إلى المستقبل. بل إن الزمن يتحرك من خلالنا وفي داخلنا” 

شمس التبربزي

موت المتأله
في هكذا تكلم الحلاّج
(الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح، ويعود إلى الأشكال، فيخبرهم عن الحال، بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال، طمعا في الوصول إلى الكمال).

الحلّاج

شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل. 

يقدّم كتاب(هكذا تكلم الحلّاج – النصوص الصوفية الكاملة) دراسة وتحقيق قاسم محمد عباس الذي صدر مؤخرا عن دار المدى للثقافة والنشر، تثقيفا لبعض المفاهيم الدقيقة التي تعتمد تجربة وفكر الحلّاج وأبعاد عقيدته وعرض فكر الحلّاج كما هو باعتباره حلقة لا تنفصل بأي حال عن حلقات الروحانية الإسلامية لغرض إلحاقها بروحانيات سابقة عليها، فمنطلق الكتاب مرتبط بنقد جهود الاستشراق الذي توجّه مباشرة إلى النص الصوفي، وتحديدا جهود لويس ماسنيون ومن دار في فلك أطروحته، حيث إنّها أثّرت إلى حدّ بعيد في تفاصيل تلقّي الإسلام وروحانيته لدى الفكر الغربي، كما إنه استثنى جهود الباحثين العرب بسبب أنها استجابت للموقف الاستشراقي وتأثرت به، وتوزعت طبقا لمواقف الاستشراق ذاته.

كما ألقى الضوء على آراء رينولد نيكلسون وتعليقاته على وجهة نظر فون كريمر وبيّن اللُبس الذي وقع فيه وخلطه بين نظرية فلسفية مثل وحدة الوجود التي نسبها للحلاج والتي ظهرت بعده بوقت طويل وتصور صوفي مثل وحدة الشهود لنتبيّن أنّ كريمر لم يتوفر على رؤية صوفية تميّز المسافة الدقيقة التي تفصل بين المذهبين. وهناك أيضا من نظر إلى الحلّاج باعتباره نصرانيا من الداخل، وهذا جزء من رؤية ماسنيون المرتبطة إلى حدّ ما بموقف ماكس هرتون، الذي قدّم اعتراضات منطقية على محاولة ماسينون. وقد كتب ماكس هرتون مقالتين مهمتين في عامي 1927 و1928 واندفع في إحداها إلى إثبات الأصل الهندي لتصوف الحلّاج، وحاول في المقالة الثانية أن يؤكد أطروحته الأولى عبر بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا لينتهي إلى أنّ التصوف الإسلامي هو مذهب الفيدانتا، وحسّم مرجعيته البرهمانية، وتعامل مع الحلّاج كمفكر برهماني، ليتوسع في ما بعد في مفهوم نفي العالم، ونظرية المايا كونهما ركنين أساسيين يقوم عليهما تصوف الحلّاج، إذ يؤكد هرتون أن الأمر: (لا يتعلق بإثبات تلاقٍ أو توازٍ بين ثقافتين، آو باستيعاب خارجي مادي، بل إن الأمر هو فعليا وبمعنى دقيق تطابق فكري من الأصل إلى الفرع، فتجربة الحلّاج هي تجربة ممثلة لتجربة الكل الآسيوية). مبررا تصوره عبر محاور تشكل في نتائجها أدلة تعلل منطلقه، فمفهوم طبقات الوجود يعد الحجة الأساسية لإسناده تصوره، بفهم أنه إذا كانت الطبقة الأولى من الوجود والطبقة الثانية موجودتين، فإن الشخصية الإنسانية ذاتها يتوجب أن تكون دالّة عليهما. ويراد بالطبقتين: الطبقة الطبيعية والطبقة ما بعد الطبيعية، حيث ينبغي أن تكون الطبقة الأخيرة في حالة تطابق مع الذات الأصلية بتصور أنه لا شيء يشاركها الوجود الحقيقي. يشير الكاتب إلى أنه في الفترة التي عاشها الحلّاج كانت عقيدة التوحيد تناقش من قبل الجماعات الدينية جميعها، ولاسيّما المعتزلة الذين كانت طروحاتهم حول التوحيد تهيمن على كل المدارس، حتى سُمّوا بأهل التوحيد، فقد تناولوا هذا الموضوع عبر منهجهم العقلي الذي أدى إلى استنتاجات معقدة اعترض عليها المتصوفة، بسبب أنّهم يعتقدون من غير الممكن تعريف توحيد الله، فلهذا تناول الحلّاج التوحيد الذي يلغي كلّ موجود آخر، التوحيد الذي يتصور العالم كله وجودا واحدا، وهذا الموقف كما يتضح يعارض التأويل المسيحي، وهذا ما أشّره هرتون على ماسنيون في ما بعد وهو اعتراض مضموني واضح الأبعاد أعاق محاولة ماسنيون. يقول الكاتب في قراءته التأملية لموت المتأله: إن أي محاولة لتوثيق حياة الحلّاج تعني القيام بتوثيق فكري لتاريخ الولاية الصوفية وتلمّس الجذر الأول للفكر الصوفي الإسلامي بسبب أنّ المراجعة التاريخية لحياة الحلّاج إنما تعني استحضار ما هو عقائدي وتاريخي وسياسي متعلق بمحاكمة الولاية الصوفية، أو مقاضاة الشخصية المتألهة في الإسلام بفهم أنها تدل على الشاهد الفاعل على الحقيقة في الإلهيات الإسلامية التي ظهرت في شخصية صوفية توفر لها أن تزجّ الفكر الإسلامي في معركة فكرية/ روحية أدت نتائجها إلى زعزعة العالم الإسلامي والأهم من ذلك هو أن منعطفات هذه الحياة ما زالت مطروحة بحدة إلى الآن أمام ما يمكن أن نسميه بـ(موقع التناقض) في الفكر الإسلامي. فعلى سبيل المثال كان الحلّاج يرى الحجّ في حدّ ذاته رمز اتّحاد البشرية مع الله، رغم عدم انفصال البشرية عنه، وعدم اتصالها به لكن بمجرد تحول هذا الرمز إلى حقيقة في التصور الحلّاجي لم يعد هناك أي معنى لشد الرحال إلى الكعبة، قائلا :

للناس حجّ ولي حجٌّ إلى سكني 
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
تطوف بالبيت قوم لا بجارحة
بالله طافوا فأغناهم عن الحــــرم

كما اعتقد الحلّاج أن الصيغة الجامدة للشريعة هي مكر إلهي يستدعي فهم أن جوهر الدين شيء يمكن امتلاكه من خلال هذه النصوص، وهي فكرة كان البسطامي لامس أقصى نتائجها كما يقول لويس كارديه، ويُلخص هذا الموقف بتحطيم الشريعة عن طريق الإيمان، لأنه بتجاوز الشريعة إلى نقيضها سيؤكد دور الشريعة الحقيقي بفهم الوصول إلى حقيقة الشريعة وليس تحطيمها:

لست بالتوحيد ألــــهو
غير أني عنه أســـهو
كيف أسهو كيف ألـــهو
وصحيح أنني هــــو

وفي نطاق مادة الكتاب يؤكد الكاتب إن فكرة جمع كل ما تركه الحلّاج من نتاج في كتاب واحد كانت بالنسبة له أشبه بالحلم الذي يصعب تحقيقه. فقد ترك الحلّاج تفسيرا نادرا للقرآن ومجموعة كبيرة من الأقوال والمرويات، قد تفوق في أهميتها ما نشر من نتاجه. فالتفسير الذي تركه الحلّاج يتضمن مواقفه المتناثرة في الطواسين ويشكل هذا التفسير حلقة مهمة ومؤثرة في تاريخ التفسير الباطني، بسبب إنه سابق على تفسير القشيري ومن تبعه في هذا الاتجاه من التفسير. وهو من جهة أخرى يسلط الضوء على جانب مهم من فكر الحلّاج وعقيدته الصوفية، ومن هنا تأثر فهم تصوف الحلّاج كثيرا بغياب هذا النص الأساسي الذي قد يستكمل لنا ما نقص من مشروعه الصوفي، ثم أضاف الكاتب (المرويات) التي تعد من النصوص النادرة في التصوف الإسلامي قاطبة، بسبب أنه لم يسبق لصوفي آخر أن كتب مثل هذه المرويات، التي هي عبارة عن مجموعة من الأحاديث القدسية كتبها الحلّاج لتلاميذه وهو في السجن، وهي أحاديث تقترب في بنيتها وأسلوبها من الأحاديث القدسية إلا أن الإسناد فيها مجموعة من الظواهر الطبيعية والأماكن المقدسة والأزمنة والمفاهيم وأسماء الملائكة وحتى الظواهر الجغرافية والطيور والحواس والأهلة وأسماء الشهر وغيرها. وهذه المرويات تجربة صوفية غريبة عبّر عنها الحلّاج بمجموعة من الأحاديث القدسية تفارق الحديث النبوي على مستوى الإسناد، وتختلف في بنيتها وأسلوبها تفكيرها عن الحديث الشائع في متنه وسنده، لذا سماها الكاتب بالمرويات مفارقة لمصطلح الحديث الذي تشترك معه على مستوى وجود متن وسند. ثُم نصل إلى الجزء الأكبر والأوسع وهو الشذرات التي وصل عددها إلى 241 شذرة تعد من أجمل الكتابات الصوفية وأكثرها التماعا في تاريخ الأدبيات الصوفية، وهذه الشذرات تستكمل لنا الصورة النهائية لتصوف الحلّاج وتجربته وشخصيته، بسبب أنها تتضمن مراسلات الحلّاج الشخصية، ومواقفه من التوحيد والشريعة والتصوف ومعظم مراحل الطريق الصوفي من أحوال ومقامات، فضلا عن الكثير من الآراء حول إشكاليات أساسية في الفكر الإسلامي في مجال الكلام والفلسفة والعقائد. ويأتي ترتيب كتاب (هكذا تكلم الحلّاج –النصوص الصوفية الكاملة) بالشكل التالي:

1- التفسير.
2- الطواسين.
3- بستان المعرفة.
4- الأقوال:نصوص الولاية.
5- المرويات.
6- الديوان.

ولا بدّ في الختام الإشارة إلى أنّ الهوامش التحقيقية عن الأقوال والديوان والتفسير تمّ إبعادها - كما ذكر الكاتب - بسبب حجمها الذي سيضاعف حجم الكتاب من جهة ويتعب القارئ ويشغله عن الاهتمام بالنص من جهة أخرى خاصة أن الديوان قد أُشبع تحقيقا.
■ ■ ■
طَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

ْمُنْيَتِى اَقْصَى مَرَامِىْ اَحْظَى بِالشُّهُود 
ْوَأَرَى بَابَ السَّلَامِ يَا زَاكِى الْجُدُود

ْطَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

يَا طِرَا ذَا لْكَوْنِ إِنِّيْ عَاشِقْ مُسْتَهَام
ْمُغْرَمٌ وَ الْـمَدْحُ فَنِّيْ يَا بَدْرَ التَّمَام

ْطَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

ْاِصْرِفِ الْأَعْرَاضَ عَنِّي أَضْنَانِى الْغَرَام
ْفِيْكَ قَدْ أَحْسَنْتُ ظَنِّي يَا سَامِى الْعُهُود

ْطَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.