على شرف حُلم من مهندس ودبلوماسيّ فرنسيّ واعد، وعرقٍ ودماء أبناء شعبٍ استنفذوا الجُهد والجلد والتحمُل في حفر المجرى الواصل بين البحر الأحمر والبحر المتوسط.
وسُلطان مُبذر مهووس بكرم الضيافة كبّد الخزانة المصرية من الديون ما يُقدر بستة ملايين جنيه.
رُبما أفقدت مصر حصتها في القناة سريعًا، وحضور متربّعين ومستقرين على مقاليد حُكم أغلب إمبراطوريات وممالك العالم ودوله الكُبرى، افتتحت «قناة السويس»، قبل ما يقارب القرنين من الزمان في 17 نوفمبر 1869.
في التقرير التالي لمحات من حفل الافتتاح الأول لقناة السويس، بحسب ما جاء في «California digital library»
متحدثًا عن
«The Opening of the Suez Canal, 1869».
لقاء الحضارات
قبل افتتاح القناة بأيام قلائل، وعلى هامش الرسميات، ازيّنت القاهرة التي ارتدت وجهًا أوروبيًا خالصًا، بينما «الإسماعيلية» التي تعزي وجودها بالأساس لقناة السويس، رسمت على شوارعها أسماء الحضور الكريم، فإلى جانب شارع «ديليسبس»، كان شارع «أوجيني»، وغيرهم.
وبينما كان شارع «ديليسبس» ينتهي بمنزل مهندس حفر القناة، إلى جوار بيوت باقي المهندسين وعمال شركة قناة السويس، فإن الإمبراطورة «أوجيني» كانت قد سكنت القاهرة على كورنيش النيل القاهري في قصر مبنيّ خصيصًا.
بينما سكن أصحاب سمو آخرين فنادق القاهرة، ومن بينها «فندق شيبرد»، بينما شيدت خيام من الحرير والستان الأحمر والأصفر وفرشت بأبدع الطرز للضيوف الأقل رُتبة فيم وُصف بأنه «رفاهية لم يسمع بها من قبل».
يصف الأديب الفرنسي «ثيوفيل جوتييه» الاحتفال على النحو التالي «على مدار أيام وليالي الاحتفال، اعتاد الضيوف أن ينقسموا وفقًا لمهنهم وأهواءهم، رُكن الرسامين، ورُكن العُلماء، ورُكن الأدباء، وركن المراسلين، وركن الحائزين على شهرة عالمية، وركن الصعاليك، وبالرغم من ذلك، إلا أنهم اعتادوا أن يزوروا بعضهم البعض، في حوار جمع فيه السيجار كافة الجنسيات.
لترى على سبيل المثال أطباء ألمان يتناقشون مع أدباء فرنسيين في قيمة الجمال المُجرّدة، ورياضيون يضحكون على نكات الصحفيين بكُل أريحيّة».
برنامج رحلة الـ29 يوما لضيوف الخديوي إسماعيل قبل افتتاح قناة السويس
«خط سير رحلة ضيوف الخديوي لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس أثناء إقامتهم بالقاهرة وقيامهم برحلة على نهر النيل» ترجمة عن النسخة الفرنسية التي عثر عليها والمؤرخة في أكتوبر 1869، أي قبل شهر من افتتاح قناة السويس، تم توزيعه لمن جرى دعوتهم من قِبل الخديوي لزيارة صعيد مصرعند وصولهم الإسكندرية كي يعرفوا مقدمًا برنامج رحلتهم في القاهرة وعلى امتداد نهر النيل حتى أسوان والتي تستمر ما يقرب من الشهر.
و قبل شهر من افتتاح القناة جاءت بواخر الشركات البحرية العالمية مكتظة بالركاب، البعض دعاهم كرم الخديوي إسماعيل اللامحدود وآخرون جذبهم تلقائيا أبهة الاحتفال ومشاهدة نجاح العمل، فيما لم يدخر الخديوي جهدًا ليجعل من احتفالية افتتاح قناة السويس حدثا عالميا، فقد رأى أن نجاح تنفيذ حفر قناة السويس بعد 10 سنوات من الكفاح والتضحيات يستحق هذه الأبهة التي تعبر في نفس الوقت عن شدة حبة لعظمة مصر ورفعة شأنها أمام ضيوف القناة، حيث كان يسعى دائما إلى إبراز أمجاد مصر.
ومن بين الضيوف غير أصحاب السمو المعالي الذين دعوا إلى الاحتفالات، وحضروا الجولات على الهامش إلى صحراء «سقارة» وإلى المعابد الفرعونية في جولات سياحية تستهدف التعريف بالحضارة المصرية وتقديم القناة كامتداد لها، عالم المصريات الألماني «ريتشارد ليبسويس»، والمسرحي النرويجي «هنريك إبسِن»، والرسام الفرنسي «جان ليون جيروم».
جولة في طوائف الشعب المصري
تحدث القاصي والداني عن رفاهية حفل افتتاح قناة السويس، إلا أنه لم يكفِ الخديوي إسماعيل ذلك، بل آثر أن يوفِر في شوارع مدينة «الإسماعيليّة» عرضًا موسعًا لطوائف الشعب المصري وكافة قبائله وأطيافه.
وقد حشد لذلك بواسطة مُديري الأقاليم أن يقوموا بإرسال رعاياهام من الأطفال والرجال والنساء، من كافة الطوائف، الفلاحين والصعايدة، وعُربان وسودانيين، لتمثيل كافة طوائف الشعب المصري، ليقيموا في خيام مُعدّة خصيصًا لهذا الغرض.
مع تحفيز الشعب المصري لهذا الحشد عن طريق إقامة دورات ألعاب وعروض فلكلوريّة، من بينها رقص الدراويش وعروض الأراجوز، وفرق غنائية وأكلة النار، ورقص الخيول، والذي أُعجبت به الإمبراطورة «أوجيني» على وجه الخصوص.
غير المدعوين
بالرغم من أن أعداد المدعوين قدرت بحوالي سبع إلى ثمانية آلاف مدعو، بين شخصيات رسمية رفيعة، وبين شخصيات غير رسمية، إلا أن قائمة الخديوي إسماعيل لم تحوي شخصيات عربية من ملوك القُطر، وكذلك السلطان العثماني الذي لم توجه دعوة إليه.
ومن بين كافة الملوك لم يحضِر سوى الأمير «عبدالقادر الجزائري»، والذي كان رُبما شوكة في حلق هذا الجمع الأوروبي الخالِص، ليعتذر بالفعل عن مراسم حفل الرقص على شرف قناة السويس، التي افتتحتها الإمبراطورة الفرنسية.
وبالرغم من حقيقة أن الحفل أخيرًا لم يتضمن أي شخصية عربية، إلا أن الخديوي إسماعيل كان ينتوي أن يدعو عدد من ملوك العرب.
إلا أنه أحجم على آخر لحظة وأبلغ قراره لوزير الخارجية وقتها «نوبار باشا» في برقية على النحو التالي «مع خالص الأمنيات الطيبة، يؤسفني أن أبلغكم بأنني لن أستطيع أن أبني مقرًا لإقامة أكثر من ثمانين صاحب سمو، هذا مع اللجوء لفتح كافة القصور الملكية»، الأمر الذي أدى للتراجع عن الدعوة المنتواة لسلطان المغرب، وشاه إيران، وباي تونس.
أهلة وصُلبان ذهبية في المقدمة
بالرغم من أن الخديوي إسماعيل كان قد تنصل من دعوة المُلوك العرب، إلا أنه، وللحظة الأخيرة، أصرّ أن يكون احتفاله مصبوغًا بطابعٍ ديني يليق بحاكم مُسلم يحرِص على وحدة شعبه الوطنية.
ففي حفل الافتتاح، وكما تُصور الرسوم التي أرّخت له، كان موكب المُحتفين بمرور أول سفن حربية وتجارية في مجرى القناة ينقسم إلى ثلاثة سُرادقات: الأوسط من بينهم للخديوي وضيوفه من أصحاب السمو والمعالي من الضيوف رفيعي المستوى بصُحبة المهندس «دي ليسبس».
وإلى اليمين سُرادق علماء الأمة من شيوخ وأئمة الإسلام، يتقدمهم شيخ الأزهر وقتها «مصطفى السقا»، ومفتي الديار الشيخ «محمد المهدي العباسي»، يعلو سرادقهُم هلال ذهبي، وإلى اليسار، سُرادق رجال الدين المسيحي، ومن بينهم قساوسة وباباوات من أنحاء أوروبا.
«أوجيني»
دُعي إلى احتفال افتتاح قناة السويس العديد من الأباطرة والملوك، من بينهم إمبراطور النمسا «فرانز جوزف»، وملك المجر، وأمير بروسيا، وأمير وأميرة هولندا، إلا أن الإمبراطورة «أوجيني» زوجة نابليون الثالث على الأرجح كانت أكثر الضيوف رفعةً للمستوى وحظوة باهتمام الخديوي إسماعيل.
لدرجة إقامة قصر مشابه لقصرها في فرنسا على ضفاف النيل، كي لا تشعُر بالغربة، الأمر الذي وصفته في برقية أرسلتها لزوجها «نابليون الثالث» بمُجرد وصولها قالت فيها «لقد وصلت إلى بورسعيد في صحة جيدة، واستقبال ساحر، لم أرَ في روعته طوال حياتي».
جدير بالذكر أن فرنسا كانت ضيفة شرف حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، في 6 أغسطس عام 2015 الماضى، حيث وجهت لها دعوة المشاركة، وشهدت مراسم الاستقبال تقديرا خاصًا للوفد الفرنسي.
برداءها البنفسجي، وقفت الإمبراطورة «أوجيني» إلى جوار «الخديوي إسماعيل» لحظة افتتاح القناة، فخورة بابن وطنها المهندس «فرديناند ديليسبس» صاحب فكرة حفر القناة، لتشبهه في لحظتها بالرحالة العالمي صاحب الفضل في اكتشاف مناطق لم تطأها بعد أقدام البشرية «كريستوفر كولومبس»، لتعطي أخيرًا في المساء هي شارة انطلاق الحفل الراقص وتراقص الخديوي إسماعيل.
«عايدة» التي لم تُغنّى
كان الخديوي إسماعيل مُغرمًا بالموسيقار الإيطاليّ «فيردي»، وبكل مقطوعاته الأوبرالية التي صدحت بها أصوات أوبرالية في كافة دور الأوبرا في أنحاء أوروبا، وفي حين أراد الخديوي أن تزدان القاهرة على الطراز الأوروبي لاستقبال ملوك وأباطرة أوروبيين جاءوا على شرف الاحتفاء بالقناة العالمية الجديد التي تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط لتمهد طرقًا للتجارة وتصل بين الشرق والغرب.
قرر قُبيل تدشين القناة الجديدة أن تكتب مقطوعة أوبرالية على شرف هذه الاحتفال بواسطة «فيردي»، وتُعزف في دار أوبرا مصرية جديدة تستضيف ليالي المدعوين إلى حفل الافتتاح الملاح، عُرفت فيما بعد بالأوبرا الخديوية، والتي كانت جاهزة في موعد الافتتاح لاستقبال الضيوف.
وبالرغم من أن دار الأوبرا كانت جاهزة تمامًا، إلا أن «أوبرا عايدة» لم تكُن قد انتهت بعد من أعمال التلحين والديكورات، ليُعزف على شرف القناة مقطوعة أخرى لفيردي هي «ريجيوليتو»، ويتأجل عرض «عايدة» المقطوعة المصرية القادمة رأسًا من التاريخ المصري الفرعوني القديم لأجل غير مُسمى.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.