Free Web Submission http://addurl.nu FreeWebSubmission.com Software Directory www britain directory com education Visit Timeshares Earn free bitcoin http://www.visitorsdetails.com CAPTAIN TAREK DREAM: محمد حسنين هيكل يكتب: مبارك وزمانه .. من المنصة إلى الميدان

Monday, January 23, 2012

محمد حسنين هيكل يكتب: مبارك وزمانه .. من المنصة إلى الميدان


ملاحظة:
لم ألزم نفسى طوال هذه الصفحات بأوصاف للرئيس «حسنى مبارك» من نوع ما يرد على الألسنة والأقلام منذ أزيح عن قمة السلطة، وإنما استعملت الإشارات العادية طالما أن الرجل لم يُحاكَم، ولم يُحْكَم عليه.
ومع أن «مبارك» وصل إلى قاعة محكمة ــ ممددا على سرير طبى دخل به إلى زنزانة حديدية ــ فإن التهم التى وُجهَت إليه لم تكن هى التهم التى يلزم توجيهها، بل لعلها الأخيرة فيما يمكن أن يوجَّه إلى رئيس دولة ثار شعبه عليه، وأسقط حكمه وأزاحه.
والمنطق فى محاكمة أى رئيس دولة أن تكون محاكمته على التصرفات التى أخل فيها بالتزامه الوطنى والسياسى والأخلاقى، وأساء بها إلى شعبه، فتلك هى التهم التى أدت للثورة عليه.
●●●
أى أن محاكمة رئيس الدولة ــ أى رئيس وأى دولة ــ يجب أن تكون سياسية تثبت عليه ــ أو تنفى عنه ــ مسئولية الإخلال بعهده ووعده وشرعيته، مما استوجب الثورة عليه، أما بدون ذلك فإن اختصار التهم فى التصدى للمظاهرات ــ قلب للأوضاع يستعجل الخاتمة قبل المقدمة، والنتائج قبل الأسباب، ذلك أنه إذا لم يظهر خروج «مبارك» على العهد والوعد والشرعية، إذن فقد كان تصديه للمظاهرات ممارسة لسلطته فى استعمال الوسائل الكفيلة بحفظ الأمن العام للناس، والمحافظة على النظام العام للدولة، وعليه يصبح التجاوز فى إصدار الأوامر أو تنفيذها ــ رغبة فى حسم سريع، ربما تغفره ضرورات أكبر منه، أو فى أسوأ الأحوال تزيدا فى استعمال السلطة قد تتشفع له مشروعية مقاصده!!
وكذلك فإنه بعد المحاكمة السياسية ــ وليس قبلها ــ يتسع المجال للمحاكمة الجنائية، ومعها القيد والقفص!!
●●●
بمعنى أن المحاكمة السياسية هى الأساس الضرورى للمحاكمة الجنائية لرئيس الدولة، لأنها التصديق القانونى على موجبات الثورة ضده، وحينئذ يصبح أمره بإطلاق النار على المتظاهرين جريمة يكون تكييفها القانونى إصراره على استمرار عدوانه على الحق العام، وإصراره على استمرار خرقه المستبد لعهده الدستورى مع الأمة!!
ومن هذا المنطق فإننى لم أستعمل فى الإشارة إلى «مبارك» أوصافا مثل «المخلوع»، أو «المطرود»، أو حتى «السابق»، وإنما استعملت على طول سياق هذه الصفحات ما هو عادى من الإشارات.
وعلى أى حال فإنه من حق من يشاء ــ إذا شاء ــ أن ينزع إشارات استعملتها بمنطق ما قدمت، وأن يضع بدلها «المخلوع» و«المطرود» أو«السابق»!!
أردت بهذه الملاحظة أن أطرح مبكرا «وجهة نظر» ولا أكثر، وحتى لا يأخذ علىَّ أحد «تهمة أدب يتزيد»، أو «تمسك بأصول» أسقطتها الدواعى!!
●●●

مقدمة :
بدأت التفكير فى هذه الصفحات باعتبارها مقدمة لكتاب تصورت أن أجمع داخل غلافه مجمل علاقتى بالرئيس «حسنى مبارك»، وقد كانت علاقة محدودة وفاترة، وفى كثير من الأحيان مشدودة ومتوترة، وربما كان أكثر ما فيها ــ طولا وعرضا ــ لقاء واحد تواصل لست ساعات كاملة، ما بين الثامنة صباحا إلى الثانية بعد الظهر يوم السبت 5 ديسمبر 1981 ــ أى بعد شهرين من بداية رئاسته ــ وأما الباقى فكان لقاءات عابرة، وأحاديث معظمها على التليفون، وكلها دون استثناء بمبادرة طيبة منه. لكن الواقع أن الحوار بيننا لم ينقطع، وكان صعبا أن ينقطع بطبائع الأمور طالما ظل الرجل مسيطرا على مصر، وظللت من جانبى مهتما بالشأن الجارى فيها، وعليه فقد كتبت وتحدثت عن سياساته وتصرفاته، كما أنه من جانبه رد بالتصريح أو بالتلميح، وبلسانه أو بلسان من اختار للتعبير عنه أو تطوع دون وكالة.
وقد تراكم من ذلك كثير مكتوب مطبوع، أو مرئى مسموع، وفكرت أن أجعله سجلا وافيا ــ بقدر الإمكان ــ لحوارات وطن فى زمن، ولعلاقة صحفى مع حاكم ومع سلطة فى الوطن وفى الزمن!!
لكنى رُحت أسأل نفسى عن الهدف من جمع هذا السجل، ثم ما هو النفع العام بعد جمعه؟!!
ــ وبداية فقد ورد على بالى أن تسجيل ما جرى فى حد ذاته قد يكون وسيلة إلى فهم مرحلة من التاريخ المصرى المعاصر ما زالت تعيش فينا، وما زلنا نعيش فيها!!
ــ ثم ورد على بالى أن كثيرا من قضايا ما جرى ما زالت مطروحة للحوار، وبالتالى فالتسجيل سند للوصل والاستمرار.
ــ ثم ورد على بالى أن بعض الملامح والإشارات فى سياق ذلك الحوار ربما تكون مفيدة فى التعرف أكثر على لغز رجل حكم مصر، وأمسك بالقمة فيها ثلاثين سنة لم يتزحزح، وتغيرت فيها الدنيا، وظل هو حيث هو، لا يتأثر.
وذلك لابد له من فحص ودرس!!
●●●
وتركت خواطرى تطل على كل النواحى، ثم اكتشفت أن الاتجاهات تتفرع وتتمدد ــ لكن الطرق لا تصل إلى غاية يمكن اعتبارها نقطة تصل بالسؤال إلى جواب.
وعُدت إلى ملفاتى وأوراقى، ومذكراتى وذكرياتى، وبرغم آثار كثيرة وجدتها، ومشاهد عادت إلىَّ بأجوائها وتفاصيلها، فقد طالعنى من وسط الزحام سؤال آخر يصعب تفاديه ــ مجمله:
ــ ماذا أعرف حقيقة وأكيدا عن هذا الرجل الذى لقيته قليلا، واشتبكت معه ــ ومع نظامه ــ طويلا؟!!
والأهم من ذلك:
ــ ماذا يعرف غيرى حقيقة وأكيدا عن الرجل، وقد رأيت ــ ورأوا ــ صورا له من مواقع وزوايا بلا عدد، لكنها جميعا لم تكن كافية لتؤكد لنا اقتناعا بالرجل، ولا حتى انطباعا يسهل الاطمئنان إليه والتعرف عليه، أو الثقة فى قراره.
بل لعل الصور وقد زادت على الحد، ضاعفت من حيرة الحائرين، أو على الأقل أرهقتهم، وأضعفت قدرة معظمهم على اختيار أقربها صدقا فى التعبير عنه، وفى تقييم شخصيته، وبالتالى فى الاطمئنان لفعله؟!!
وإذا أخذنا الصورة الأولى للرجل كما شاعت أول ظهوره، وهى تشبهه بـ «البقرة الضاحكة» La vache qui rit ــ إذن فكيف استطاعت «بقرة ضاحكة» أن تحكم مصر ثلاثين سنة؟!!
وإذا أخذنا الصورة الأكثر بهاء، والتى قدمت الرجل إلى الساحة المصرية والعربية بعد حرب أكتوبر باعتباره قائدا لما أطلق عليه وصف «الضربة الجوية» ــ إذن فكيف تنازلت «الأسطورة» إلى تلك الصورة التى رأيناها فى المشهد الأخير له على الساحة، بظهوره ممددا على سرير طبى وراء جدران قفص فى محكمة جنايات مصرية، مبالغا فى إظهار ضعفه، يرخى جفنه بالوهن، ثم يعود إلى فتحه مرة ثانية يختلس نظرة بطرف عين إلى ما يجرى من حوله، ناسيا ــ أنه حتى الوهن له كبرياء من نوع ما، لأن إنسانية الإنسان ملك له فى جميع أحواله، واحترامه لهذه الإنسانية حق لا تستطيع سلطة أن تنزعه منه ــ إلا إذا تنازل عنه بالهوان، والوهن مختلف عن الهوان!!
وإذا أخذنا صورة الرجل كما حاول بنفسه وصف عصره، زاعما أنه زمن الإنجاز الأعظم فى التاريخ المصرى منذ «محمد على» ــ إذن فكيف يمكن تفسير الأحوال التى ترك مصر عليها، وهى أحوال تفريط وانفراط للموارد والرجال، وتجريف كامل للثقافة والفكر، حتى إنه حين أراد أن ينفى عزمه على توريث حكمه لابنه، رد بحدة على أحد سائليه وهو أمير سعودى تواصل معه من قديم، قائلا بالنص تقريبا:
ــ «يا راجل حرام عليك»، ماذا أورِّث ابنى ــ أورثه «خرابة»؟!!
ولم يسأله سامعه متى وكيف تحولت مصر إلى «خرابة» حسب وصفه!!
وهل تولى حكمها وهى على هذا الحال، وإذا كان ذلك فماذا فعل لإعادة تعميرها طوال ثلاثين سنة، وهذه فترة تزيد مرتين عما أخذته بلاد مثل الصين والهند والملايو لكى تنهض وتتقدم!!
ثم إذا كان قد حقق ما لم يستطعه غيره منذ عصر «محمد على» ــ إذن فأين ذهب هذا الإنجاز؟!! ــ وكيف تحول ــ تحت نظامه إلى «خرابة»؟!! ــ ثم لماذا كان هذا الجهد كله من أجل توريث «خرابة»، خصوصا أن الإلحاح عليه كان حقل الألغام الذى تفجر فى وسطه نظام «الأب» حطاما وركاما، ما زال يتساقط حتى هذه اللحظة بعد قرابة سنة من بداية تصدعه وتهاويه!!
وكيف؟!! ــ وكيف؟!! ــ وكيف؟!!
وهنا فإن التساؤل لا يعود عن الصور، وإنما ينتقل إلى البحث عن الرجل ذاته!!
●●●
وعلى امتداد هذه الصفحات فقد حاولت البحث عن الرجل ذاته قبل النظر فى ألبوم صوره، وعُدت إلى ملفاتى وأوراقى، ومذكراتى وذكرياتى عن «حسنى مبارك»، ثم وقع بمحض مصادفة أننى لمحت قصاصة من صحيفة لا أعرف الآن بالتحديد ما دعانى إلى الاحتفاظ بها ثلاثين سنة، لكنى حين نزعتها من حيث كانت وسط المحفوظات ــ رُحت أقرؤها وأعيد قراءتها ــ متفكرا!!
وكانت القصاصة مقالا منشورا فى جريدة «الواشنطن بوست» فى يوم 7 أكتوبر 1981، وفى بداية المقال جملة توقفت عندها، وفى الغالب بنفس الشعور الذى جعلنى أحتفظ بها قبل ثلاثين سنة!!
والجملة تبدأ بنقل «أن الأخبار من القاهرة بعد اغتيال الرئيس «السادات» تشير إلى أن الرجل الذى سوف يخلفه على رئاسة مصر هو نائبه «حسنى مبارك» ــ ثم تجىء جملة تقول بالنص: «إنه حتى هؤلاء الذين يُقال إنهم يعرفون «مبارك» هم فى الحقيقة لا يعرفون عنه شيئا».
والآن بعد ثلاثين سنة وقفت أمام هذه الجملة، وشىء ما فى مكنونها يوحى بأنها «مفتاح» المقال كله، لأننا بالفعل أمام رجل رأيناه كل يوم وكل ساعة، وسمعناه صباح مساء، واستعرضنا الملايين من صوره على امتداد ثلاثين سنة، لكننا لم نكن نعرفه ولا نزال!!
●●●
وكان سؤالى التالى لنفسى:
ــ إذا لم تكن للرجل صورة معتمدة تؤدى إلى تصور معقول عنه، فكيف أتفرغ شهورا لجمع ونشر ما سمعت منه مباشرة خلال مرات قليلة تقابلنا فيها، أو ما قلته له بطريق غير مباشر ــ أى بالحوار والكتابة والحديث ثلاثين سنة؟!
وترددت، لكننى بإلحاح أن تلك ثلاثين سنة بأكملها من حياة وطن، وهى نفسها ثلاثين سنة من المتغيرات والتحولات فى الإقليم وفى العالم، قادنا فيها رجل لا نعرفه إلى مصائر لا نعرفها ــ فإن زمان هذا الرجل يصعب تجاوزه أو القفز عليه مهما كانت الأسباب، مع أن هناك أسبابا عديدة أبرزها أن التاريخ لم ينته بعد كما كتب بعض المتفائلين من الفلاسفة الجُدد»!!
ثم كان أن توصلت إلى صيغة توفيق بين هذه الاعتبارات:
من ناحية تصورت أن أحاول فى مقدمة مستفيضة لهذا الكتاب، أن أترك ما تحويه ملفاتى وأوراقى، ومذكراتى وذكرياتى ــ تنقل بعض الخطوط والألوان عن «حسنى مبارك» ــ معترفا مقدما ومسبقا أن هذه المقدمة مهما استفاضت ليست كافية لإظهار لوحة تستوفى شروط المدرسة الكلاسيكية لفن الرسم، لكنها ــ كذلك خطر لى ــ قد تستطيع مقاربة شروط مدرسة الرسم التعبيرى.
بمعنى أنها قد تكون صورة لا تحاول تقليد مدرسة «ليوناردو دافنشى» أو «مايكل أنجلو» وحيا موصولا بالطبيعة، وإنما تحاول تقليد مدرسة «رينوار» و«مانيه» ــ تلمس موضوعها بمؤثرات أجوائه الإنسانية، وتشير إلى الطبع والشخصية مما يبلغه الحس ولا يطوله البصر!!
●●●
وراودنى على نحو ما أن الجميع ــ ربما ــ أخطأوا فى تصوير الرجل.
لجأوا إلى الكاميرا تلتقط الصورة ومضا بالضوء، بينما كان يجب أن يلجأوا إلى الفرشاة واللون رسما بالزيت، ثم إنهم كرروا الخطأ حين اختاروا المدرسة الكلاسيكية فى الفن، بينما كان يجب أن يلجأوا للمدرسة التأثيرية!!
وأظن أن ذلك ما حاولت بلمسات ألوان على مساحة ورق، تنزل عليها فرشاة زيت تشبعت به خفيفة وكثيفة، تومئ بالظل أو بالفراغ، وتوحى بأكثر مما تصيح، وتعبر بقدر ما هو مستطاع فى زمن لم يعد فيه متسع لرقة «رينوار»، أو خيال «مانيه».
●●●
ولقد ساءلت نفسى كثيرا عن السبب الذى دعا الجميع إلى هذا التقصير فى البحث عن الرجل ذاته، وكيف تراكم التقصير فى التعرف عليه ثلاثين سنة؟!!
وكان التفسير متعدد الأسباب وكلها منطقية، لكنها تاهت فى الزحام:
ــ بعض الناس تلقفوه حين وجدوه، ولم يتوقفوا أمام شخصيته وهى تقفز من المنصة إلى الرئاسة، فقد أخذهم هول ما وقع على المنصة، وتمسكوا بمن بقى بعده!!
ــ وبعضهم أخذه الظاهر من الرئيس الجديد واستخف بما رأى، واعتبره وضعا مؤقتا لعبور أزمة، وبالتالى فالإطالة فى تحليله إضاعة للوقت!!
ــ وبعضهم شدته الوقائع التى ظهر الرجل طرفا فى معمعانها، واستطاعت الصورة العامة للأحداث الكبرى التى دهمت المنطقة أن تستوعب دوره ضمن الأدوار، ومع قيمة مصر فإن الجالس على قمتها التحف برايتها، وساعده الطامعون فى إرث الدور المصرى على تحويل هذه الراية إلى برقع يستر ملامح متغيرة للسياسة المصرية!!
ــ وبعضهم خصوصا من أجيال الشباب نشأوا وشبوا ولم يعرفوا رئيسا غيره، وبالتالى فإن أجيالا تعوَّدت عليه، وتأقلمت بالتطبيع على وجوده.
ــ وبعضهم رغبة فى راحة البال تجاهل السؤال عن الرجل، واستعاض عنه بقبول جواب معبأ يصنعه إعلام يأتمر بالغلبة ــ غلبة السلطة ــ أو غلبة الثروة فى مصر، وكان لسوء الحظ إعلاما فقد تأثيره، وإن بقى هديره!!
ولعل.. ولعل.. وكلها علامات استفهام تحار فيها الظنون، لكن الواقع قبل وبعد أى شىء أن الرجل بقى على القمة فى مصر ثلاثين سنة!!
وأستأذن أن أؤكد وبوضوح أن هذه الصفحات وإن طالت عما توقعت ــ ليست قصة حياة، ولا هى سيرة رجل، وإنما هى لمحات قصرتها على ما رأيت بنفسى أو عرفت، وذلك هو عذرى ــ واعتذارى ــ عن استعمال صيغة المتكلم فى بعض الفصول، وعذرى ــ واعتذارى أيضا ــ عن استعمال ألفاظ وعبارات بالعامية نقلتها كما سمعتها طلبا لدقة التعبير.
وهنا أضيف أننى لم أسعَ إلى لقاء أحد ممن عملوا مع «مبارك» عن قُرب أو عايشوه، فتلك مهمة غيرى إذا حاول كتابة سيرته أو تتبَّع دوره.
ولقد راعنى ــ وأظنه راعَ غيرى ــ أن كثيرين من هؤلاء الذين عملوا معه ومباشرة، كانوا أوائل من انقلبوا عليه، والمعنى هنا أن الرجل لم يرتبط بعلاقات إنسانية عميقة مع محيطه، ولا تواصل بولاءات متبادلة أو حميمة مع الذين اقتربوا منه وخالطوه، وإنما كانت علاقاته بهذا المحيط ــ على الأرجح ــ خدوشا على السطح لا يتبقى منها غير ندوب على الجلد تشحب وتزول بعد أيام أو أسابيع لا أكثر!!
وتلك ظاهرة لافتة كذلك!!

●●●
ذلك هو الجزء الأول من هذا الكتاب!!
بقى الجزء الثانى، وذلك هو الجزء الأكبر فى الكتاب، وهو يشمل ما جمعت مما كتبت على الصفحات أو قلت على الشاشات، وكله مرتبط بقضايا العصر عرضا وتحليلا ــ شرحا وتفصيلا، وظنى أنه وقد امتد على مساحة ثلاثين سنة، قد يعوض بالكلمات بعض ما لم تستطع أن تستوفيه الألوان!!
وأملى ــ ربما ــ أن شيئا فى هذا كله قد يرسل شعاعا يكشف ولو لمحة من تلك الفجوة المجهولة التى أشارت إليها جريدة «واشنطن بوست» منذ اليوم الأول لعصر «مبارك»، حين قالت «إن الذين يظنون أنهم يعرفون الرجل هم فى الواقع لا يعرفون عنه شيئا»!!
وذلك ــ مع الأسف صحيح ــ فلقد فاجأت هؤلاء العارفين بدايته، وفاجأتهم نهايته!!
●●●
يتبقى أن هناك سؤالا لابد أن يصل إلى آذان الجميع: كيف استطاع هذا الرجل أن يجلس على رئاسة مصر ثلاثين سنة؟! ــ ثم كيف استطاع شعب مصر أن يصبر ثلاثين سنة؟!!
وبالنسبة لـ:«كيف» الأولى فالجواب على سؤالها: أنه حظه طالما استطاع البقاء!!
وأما «كيف» الثانية فجواب سؤالها: أنها مسئولية الشعب المصرى كله لأنه هو الآخر استطاع ــ استطاع بالصبر والصمت ــ وإظهار السأم والملل أحيانا ــ حتى جاءت ثورة 25 يناير 2011، وعندما لم يعد الصبر قادرا، ولا الصمت ممكنا، ولا الملل كافيا!!
بدأت متابعتى للرئيس «حسنى مبارك» ــ من بعيد بالمسافة، من قريب بالاهتمام ــ عندما ظهر على الساحة العامة لأول مرة قائدا لسلاح الطيران المصرى فى الظروف الصعبة التى تعاقبت بعد أحداث يونيو سنة 1967، ولم يخطر ببالى وقتها ــ لحظة واحدة ــ أن هذا الرجل سوف يحكم مصر ثلاثين سنة، ويفكر فى توريث حكمها بعده لابنه.

وعندما أصبح «مبارك» رئيسا بعد اغتيال الرئيس «أنور السادات» فى أكتوبر 1981، فقد رحت حتى ونحن لانزال بعد فى سجن «طرة» (ضمن اعتقالات سبتمبر الشهيرة سنة 1981)، اذكِّر نفسى وغيرى بالمثل الفرنسى الشائع، الذى استخدمه الكاتب الفرنسى الشهير «أندريه موروا» عنوانا لإحدى رواياته، وهو أن «غير المتوقع يحدث دائما!!».

●●●

وللأمانة فقد سمعت الفريق «محمد فوزى» (وزير الدفاع) يقدم لـ«مبارك» عند «جمال عبدالناصر» عندما رشحه له رئيسا للأركان فى سلاح الطيران أثناء حرب الاستنزاف، وكانت شهادة الفريق «محمد فوزى» تزكيه لما رُشح له، ثم كان أن أصبح الرجل بعد أن اختاره الرئيس «السادات» قائدا للسلاح ــ موضع اهتمام عام وواسع، لأن سلاح الطيران وقتها كان يجتاز عملية إعادة تنظيم مرهقة، وكانت هذه العملية تجرى بالتوافق مع قيام السلاح بدوره فى حرب الاستنزاف، وخلالها ــ تعاقب على قيادة الطيران خمسة من القادة هم: «صدقى محمود» و«مدكور أبوالعز»، و«مصطفى الحناوى»، و«على بغدادى»، ولم يستطع أيا من هؤلاء القادة إكمال مدته الطبيعية، وبالتالى فإن مجىء كل واحد منهم إلى قيادة الطيران كان حالة فوران لا يهدأ وسط أجواء مشحونة داخل واحد من أهم الأسلحة، فى لحظة من أشد اللحظات احتياجا إلى فعله!!

●●●

وكان أول ما التقيت بـ«مبارك» ــ لقاء مصادفات عابرة، فقد كنت على موعد مع وزير الحربية وهو وقتها الفريق «محمد أحمد صادق» ــ وعندما دخلت مكتبه مارا بغرفة ياوره ــ كان بعض القادة فى انتظار لقاء «الوزير»، وكان بينهم «مبارك»، وأتذكره جالسا وفى يده حقيبة أوراق لم يتركها من يده، حين قام وسلم وقدَّم نفسه، وبالطبع فإننى صافحته باحترام، قائلا له فى عبارة مجاملة مما يرد على أول لقاء: «إن دوره من أهم الأدوار فى المرحلة المقبلة، و«البلد كله» ينتظر أداءه» ــ ورد هو: «إن شاء الله نكون عند حُسن ظن الجميع»، ودُعيت إلى مكتب الفريق «صادق»، ودخلت، وكانت مصادفة لقائى بـ«مبارك» ــ قبلها بثوانٍ ــ حاضرة فى ذهنى بالضرورة مع زيادة الاهتمام بالطيران وقائده، وبدأت فسألت الفريق «صادق» عن «مبارك» وهل يقدر؟!، وكان رده «أنه الضابط الأكثر استعدادا فى سلاح الطيران الآن بعد كل ما توالى على قيادة السلاح من تقلبات»، ولا أعرف لماذا أبديت بعض التساؤلات التى خطرت لى من متابعتى لـ«مبارك»، منذ ظهر على الساحة العامة، وكان مؤدى ما قلته يتصل بسؤال من فوق السطح (كما يقولون): كيف بقى الرجل قرب القمة فى السلاح خلال كل الصراعات والمتغيرات التى لحقت بقيادة سلاحه ــ وكيف استطاع أن يظل محتفظا بموقعه مع أربعة من القادة قبله، وكل واحد منهم أجرى من التغييرات والتنقلات ما أجرى؟!!

زدت على هذه الملاحظة إضافة قلت فيها: أننى سمعت «حكايات» عن دوره فى حوادث جزيرة «آبا» قبل سنتين (وهى تمرد المهدية على نظام الرئيس السودانى «جعفر نميرى»، ونشوب صراع مسلح بين الفريقين سنة 1970)، وطبقا لـ«الحكايات» ومعها بعض الإشارات ــ فإن «مبارك» ذهب إلى السودان فى صحبة نائب الرئيس «أنور السادات»، لبحث ما يمكن أن تقوم به مصر لتهدئة موقف متفجر جنوب وادى النيل، ولتعزيز موقف «جعفر نميرى» فى تلك الظروف العربية الحرجة، وكانت أول توصية من بعثة «أنور السادات» وقتها هى الاستجابة لطلب الرئيس السودانى، بأن تقوم الطائرات المصرية المتمركزة أيامها فى السودان بضرب مواقع المهدية فى جزيرة «آبا» لمنع خروج قواتها إلى مجرى النيل، والوصول إلى العاصمة «المثلثة»، ودارت مناقشات فى القاهرة لدراسة توصية بعثة «السادات» فى «الخرطوم»، وكان القرار بعد بحث معمق ألا تشترك أية طائرات مصرية فى ضرب أى موقع، و«أنه لا يمكن لسلاح مصرى أن يسفك دما سودانيا مهما كانت الظروف».

ثم حدث بعدها بأيام أن اغتيل زعيم المهدية السيد «الهادى المهدى». وراجت حكايات عن شحنة متفجرة وُضعت داخل سلة من ثمار المانجو وصلت إليه، وقيل ــ ضمن ما قيل عن عملية الاغتيال ــ أن اللواء «حسنى مبارك» (وهو الرجل الثانى فى بعثة «الخرطوم» مع «السادات») ــ لم يكن بعيدا عن خباياها، بل إن بعض وسائل الإعلام السودانية وقتها ــ وبعدها حين أصبح «مبارك» رئيسا ــ اتهمته مباشرة بأنه كان اليد الخفية التى دبرت لقتل الإمام «الهادى المهدى».

وأشرت إلى ذلك كله بسرعة من اهتمام بالطيران وقتها وأحواله، وكان رد الفريق «صادق»: أنه سمع مثلما سمعت، لكنه لا يعرف أكثر. وأضاف «صادق»: «إذا كان «مبارك» قد دخل فى هذا الموضوع، فلابد أن الإلحاح والتدبير الأصلى كان من جانب «نميرى»، ثم إنه لابد أن «أنور السادات» كان يعلم» ــ ثم أضاف «صادق»: «بأن أول مزايا «مبارك» أنه مطيع لرؤسائه، ينفذ ما يطلبون، ولا يعترض على أمر لهم»، وانتقل الحديث بيننا إلى موضوع ما جئت من أجله لزيارته.

●●●

وكانت المرة الثانية التى قابلت فيها «مبارك» فى تلك الفترة أثناء معارك أكتوبر 1973 ــ وكانت هى الأخرى لقاء مصادفات عابر، فقد ذهبت إلى المركز رقم 10 (وهو مركز القيادة العامة للمعركة)، وكنت هناك على موعد مع القائد العام الفريق «أحمد إسماعيل»، وكنا فى اليوم الخامس للحرب (12 أكتوبر)، وكان اللواء «مبارك» (قائد سلاح الطيران) هناك، وأقبل نحوى بخطى حثيثة، وعلى ملامحه اهتمام لافت، يسألنى:

«كيف عرف الأهرام بتفاصيل المعركة التى جرت فوق قاعدة «المنصورة» ــ وكان هو موجودا فى القاعدة، وقابل طيارا إسرائيليا أسقطت طائرته، وجىء بالطيار الأسير لمقابلة قائد الطيران المصرى، ودار بينهما حوار، قال فيه «مبارك» للطيار الأسير: إنه تابع سربه أثناء الاشتباك، ولاحظ أخطاء وقع فيها، وسأله ماذا جرى لكم؟! ــ كنا نتصور الطيارين الإسرائيليين أكفأ، فهل تغيرتم؟!! ــ ورد الطيار الإسرائيلى قائلا: «لم نتغير يا سيدى، ولكن أنتم تغيرتم».

وسألنى «مبارك» ــ وهو يمشى معى فى الممر المؤدى إلى مكتب الفريق «أحمد إسماعيل»، بإلحاح:

«كيف عرفنا بهذه الحكاية؟! ــ مع أن المعركة جرت فى المساء أمس الأول، وهو نقل تفاصيلها على التليفون للرئيس «السادات» أمس، ثم قرأها كاملة فى «الأهرام»، وهو لم يحك إلا للرئيس وحده، فكيف «عرفنا» إذن؟!! ــ وقلت: «سيادة اللواء، أليست المسألة واضحة؟ ــ عرفنا من الرئيس نفسه»، ورد هو ودرجة الدهشة عنده تزيد:

ــ من الرئيس نفسه؟ كما نقلتها له بالحرف؟! ــ ثم أبدى ملاحظة قال فيها: «ياه.. ده أنتم ناس جامدين قوى!!».

وكنا قد وصلنا إلى مكتب «أحمد إسماعيل»، الذى ترك قاعة إدارة العمليات، وجاء إلى مكتبه قريبا منها يلقانى، ودخلنا إلى المكتب، وتركنا قائد الطيران ولا يزال يبدى دهشته من سرعة الاتصالات بين الرئيس وبين «الأهرام»!!

وربما كان علىَّ أن أستغرب أكثر منه من هذا الاتصال المباشر بين قائد الطيران وبين رئيس الجمهورية عن غير طريق القائد العام، لكنى وقتها لم أستغرب، فقد تصورتها لهفة الرئيس على الاتصال المباشر بقواده دون مراعاة لتسلسل القيادة!!

●●●

ومرت على هذه الأحاديث عدة سنوات، وقع فيها ما وقع وضمنه ذلك الصدام العنيف فى مايو 1971 ــ بين الرئيس «السادات» وبين ما سُمى وقتها بـ«مراكز القوى»، وفى أعقاب ذلك الصراع حدث إن الرئيس «السادات» ترك لى مجموعة أوراق كانت فى مكتب السيد «سامى شرف» (مدير مكتب الرئيس للمعلومات)، وكان الدكتور «أشرف مروان» الرجل الذى خلف «سامى شرف» فى مكتب المعلومات قد حملها إليه، وقال لى الرئيس «السادات» يومها وهو يشير إلى حقيبة أوراق أمامه «خذها ــ أنت تحب «الورق القديم»، وعندك الصبر لتقرأه، أما أنا فلا صبر عندى عليه!!».

سامي شرف مدير مكتب الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات

وبالفعل أخذت الحقيبة ــ لكنى لم أفحص محتوياتها إلا بعد أن تركت «الأهرام»، وتوافرت لى الفرصة كى أبحث وأراجع، خصوصا وقد بدأت فى إعداد كتاب جديد أقدمه للنشر الدولى فى «لندن» و«نيويورك»، وهو «الطريق إلى رمضان» The Road to Ramadan، ومع الغوص فى الأوراق ــ كانت الآثار الغارقة هناك!!

كان السيد «سامى شرف» (سكرتير الرئيس للمعلومات، ثم وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية مع «عبدالناصر» ثم مع «السادات») قد جرى فى أسلوب عمله على أن يسجل بخط يده ما يسمع على التليفون، من أى مسئول فى الدولة، حتى لا يضيع من تفاصيله شىء عندما يعرضه على الرئيس، إذا كان فيه ما يتطلب العرض، وفى بعض المرات فإن «سامى شرف» كان يبعث بأصول ما كتبه بخط يده فى لحظته ــ لأهمية ما فيه ــ إلى الرئيس، ثم تعود إليه تلك الأصول وعليها تأشيرة برأى، أو إشارة برفض أو قبول، وأحيانا بعلامة استفهام أو تعجب.

وداخل أحد الملفات المكدسة فى حقيبة السيد «سامى شرف» وجدت مذكرة مكتوبة بتاريخ أول أبريل سنة 1970 بخطه.

وكانت المذكرة تسجيلا للنقط المهمة فى محادثة تليفونية أجراها السيد «أنور السادات» (نائب الرئيس الجديد منذ ديسمبر 1969) مع «سامى شرف» (سكرتير الرئيس للمعلومات)، والمكالمة من العاصمة السودانية حيث كان، ومعه رئيس أركان حرب الطيران اللواء «حسنى مبارك» لمساعدة الرئيس السودانى «جعفر النميرى» على مواجهة ذلك التمرد على سلطته بقيادة الإمام «الهادى المهدى» (زعيم الأنصار) ــ والذى كان متحصنا فى جزيرة «آبا»، يهدد بالخروج منها والزحف على مجرى النيل إلى الخرطوم.

وكان الرئيس «نميرى» قد طلب ضرب مواقع «المهدى» فى جزيرة «آبا» بالطيران المصرى، وعندما رُفض طلبه فى القاهرة، لجأ الرئيس السودانى إلى السوفييت، وبالفعل فإن بعض خبرائهم قادوا ثلاث طائرات «ميج 17»، وحلَّقوا بها فوق جزيرة «آبا» فى مظاهرة تخويف حققت الهدف دون قصف، فقد شعر «المهدى» بقلق أنصاره فى الجزيرة، ومن أن يكون ظهور الطيران عملية استكشاف يعقبها سقوط القنابل، وهرول للخروج من «آبا» متجها إلى «كسلا» فى الشرق (وفى الغالب بقصد الوصول إلى أثيوبيا) ــ ثم حدث أن المخابرات السودانية استطاعت تحديد موقع «المهدى»، وهنا جرت محاولة اغتياله بسلة ملغومة وسط «هدية» من ثمار المانجو أُرسلت إليه ــ وفى تلك الظروف ثارت شكوك بأن «حسنى مبارك» كان اليد الخفية التى دبرت إرسال الهدية الملغومة، وظهرت أصداء لهذه الشكوك فى الصحف الموالية لـ«المهدى» فى «الخرطوم»!، وتلقى الوفد المصرى ــ وفيه «السادات» و«مبارك» ــ أمرا من القاهرة بمغادرة «الخرطوم»، والعودة فورا إلى القاهرة.

وبالنسبة لى فقد تابعت بعثة «الخرطوم» ومهمتها، وأبديت رأيى برفض طلب «نميرى» أن يشترك الطيران المصرى فى ضرب جزيرة «آبا»، وكان إبدائى لرأيى رسميا، ثم ضاع الموضوع من شواغلى وسط الزحام، لأننى وقتها كنت متحملا بمنصب وزير الإعلام ــ إلى جانب تكليفى بوزارة الخارجية ــ وبمسئولية مباشرة عن التغطية السياسية والدبلوماسية والإعلامية لعملية كانت خطيرة وحيوية فى ذلك الوقت، وهى تحريك حائط الصواريخ المشهور إلى الجبهة، بكل ما يتطلبه وما يستدعيه ذلك من جهد، سواء فى المراكز الدبلوماسية للسياسة الدولية، أو فى دوائر الإعلام الواسع وبالذات مع وزارة الخارجية الأمريكية، ووزيرها فى ذلك الوقت «ويليام روجرز» (وكنت أعرفه من قبل لأنه كان عضوا فى مجلس إدارة جريدة «الواشنطن بوست») والآن فإنه المسئول الأول عن مبادرة تحمل اسمه (مبادرة «روجرز») لوقف إطلاق النار تسعين يوما (تتيح فرصة للسفير «جونار يارنج» ممثل الأمين العام للأمم المتحدة كى يتوصل إلى حل على أساس قرار مجلس الأمن 242).

وعندما سمحت لى الظروف فيما بعد أن أتفرغ للكتابة وللنشر، وتوفرت على دراسة ملفاتى وما تحتويه ــ إذا بى وجها لوجه أمام السر كاملا كما أسلفت!!

●●●

ووسط ملفات مكدسة بالأوراق ظهرت أمامى تلك المذكرة بخط يد السيد «سامى شرف» كما سجلها أثناء مكالمة بينه وبين نائب الرئيس «أنور السادات» فى «الخرطوم».

مذكرة بخط سامي شرف

وسياق المذكرة واضح يبين أن «أنور السادات» يحكى على التليفون، و«سامى شرف» يلاحق ما يسمع ويسجله مكتوبا، وإن على عجل!!

والمذكرة على ورقة رسمية لسكرتارية المعلومات فى رئاسة الجمهورية بتاريخ 1 أبريل 1970.

ونصها الحرفى كما يلى:

رئاسة الجمهورية العربية المتحدة

سكرتارية الرئيس للمعلومات

1/4/1970

«خالد عباس» (1) ( ــ كانوا بيفكروا يعملوها إصلاح زراعى).

و«النميرى» كان بيفكر أنه يعملها سجن.

ــ موقف الرئيس معاهم رفع معنوياتهم جدا.

ــ «نميرى» و«خالد» عايزين اجتماع سريع لرؤساء أ.ح (أركان حرب) الثلاثة لوضع خطة كاملة للتأمين، وتنفذ تلقائيا.
ــ فيه 3 ملايين أنصارى فى «السودان».

ــ «الخرطوم» الناس كلها كانت ماسكة العصايا من النصف، ما حدش وقف على رجليه إلا بعد مكالمة الرئيس، طلع «النميرى» حكى لهم المكالمة، فطلع الحزب الشيوعى اللى كان برضه ماسك العصايا من الوسط قبل المكالمة.

ــ «مبارك» يحط تقرير عن سبت القنابل اللى بعتناه ــ سبب نجاح العملية ــ نتائجه قوية جدا (2).

ــ الجيش أغلبه عساكر أنصار.

ــ الإمام طلع من يومين بالعربيات على البحر الأحمر، وإحنا قاعدين عند «نميرى» جاء له خبر أن ضابط مسك الإمام (جريحا) فى عربية.

ــ قال بنفكر (أنكم فى) مصر تاخدوه عندكم، قلت له عندى تفويض من الرئيس اللى إنت عايزه أعمله لك كله، إنما ما يخلص وبلاش وجع قلب.

قام كلم «خالد حسن» وقال له خلصوا عليه وخلصت العملية».

●●●

وكذلك بان السر أمامى كاملا كما أملاه «أنور السادات» بالتليفون على «سامى شرف»، لكن كل سر فى العادة له ذيول ــ فقد حدث بعد انتهاء معارك أكتوبر وحتى خلال أيامها الأخيرة أن أسبابا للخلاف شابت العلاقات بين الرئيس السادات وبينى»، وتركت «الأهرام»، وانقطعت لشهور صلاتى به، وعلى أى حال فقد كان هو مشغولا بعلاقته المستجدة مع «هنرى كيسنجر»، وكنت من جانبى مشغولا بالتحضير لكتاب جديد عن «العلاقات العربية ــ السوڤيتية» بعنوان “The Sphinx & The Commissar”، وناشره وقتها مؤسسة «أندريه دويتش» فى لندن ونيويورك، والحد الأقصى المسموح لى به حتى أقدم النص لا يزيد على تسعة شهور، وكذلك توقفت كل صلات بيننا، حتى جاء يوم 8 أكتوبر 1974، وإذا بالرئيس «السادات» يطلبنى بنفسه ويدعونى إلى لقاء معه «الآن» فى بيته (وهو شبه ملاصق لمكتبى بالجيزة) ــ مقترحا أن أمر عليه، ثم نذهب معا لحديث صريح ــ عن خلافنا ــ فى استراحة الرئاسة فى «الهرم».

وفى كل الأحوال فإن «حسنى مبارك» لم يكن موجودا على شاشة الرادار فى اهتماماتى السياسية تلك الفترة.

●●●

وليس هذا مجال تفاصيل هذا اللقاء مع الرئيس «السادات» وما بعده، لكن الاتصالات واللقاءات تكررت بيننا طوال شهور شتاء 1974 وإلى ربيع سنة 1975، حتى جاء يوم ــ فى شهر مارس من تلك السنة ــ قضينا فيه الصباح بأكمله معا فى استراحة القناطر ومن الساعة العاشرة إلى الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان «مبارك» موجودا على مجرى الحوار، وليس فقط على شاشة الرادار!!

والذى حدث أن الرئيس «السادات» سألنى فجأة وسط حديثنا الطويل ــ تحت شجرة «الفيكس» العريقة وسط حديقة الاستراحة فى القناطر ــ بما ملخصه: «أنه يجد نفسه حائرا بشأن منصب نائب الرئيس فى العهد الجديد بعد أكتوبر».

واستطرد دون أن ينتظر منى ردا: «الحاج «حسين» ــ يقصد السيد «حسين الشافعى» (والذى يشغل بالفعل منصب نائب الرئيس) ــ لم يعد ينفعنى».

ثم أضاف: «بصراحة جيل يوليو لم يعد يصلح، والدور الآن على جيل أكتوبر، ولابد أن يكون منه ومن قادته ــ اختيارى لنائب الرئيس الجديد!!».

وأضاف الرئيس «السادات» ــ مرة أخرى ــ دون أن ينتظر ردا: «جيل أكتوبر فيه خمسة من القيادات، أولهم وهو «أحمد إسماعيل» توفى ــ والآن أمامى «الجمسى» (وكان مديرا للعمليات أثناء الحرب، وأصبح وزير الدفاع بعد «أحمد إسماعيل») ــ ثم «محمد على فهمى» (قائد الدفاع الجوى) ــ ثم «حسنى مبارك» (قائد الطيران)، ثم قائد البحرية (هكذا أشار إليه دون اسم)، وهو يقصد الفريق (فؤاد ذكرى)».

الفريق عبد الغني الجمسي

وأضاف: «لابد أن يكون اختيارى ضمن واحد منهم».

ورددت عليه بعفوية متسائلا: «ولماذا يحشر نفسه فى هذه الدائرة الصغيرة؟ ــ أقصد لماذا يتصور أن جيل أكتوبر هو فقط هؤلاء القادة العسكريون للمعركة؟!!».

ورد بطريقته حين يريد إظهار الحسم:

«أنت تعرف أن الرئيس فى هذا البلد لخمسين سنة قادمة لابد أن يكون عسكريا ــ وإذا كان كذلك، فقادة الحرب لهم أسبقية على غيرهم».

وقلت والحوار تتسع دائرته:

«إن أكتوبر كانت حرب كل الشعب، ثم إنك قلت لى الآن عن اعتزامك تكليف وزير الداخلية اللواء «ممدوح سالم» برئاسة الوزارة، وأخشى باختياره أنك تكون قد «بولست» (عن البوليس) الوزارة، ثم إنك بـ«مبارك» نائبا لك تكون قد «عسكرت» الرئاسة، وربما يصعب على الناس قبول الأمرين معا فى نفس الوقت».

ورد قائلا: «أنه مندهش لترددى فى إدراك أهمية أن يكون رئيس مصر القادم عسكريا، ثم سألنى: ألست تعرف أن ذلك كان رأى «المعلم» يقصد «جمال عبدالناصر» أيضا؟!».

وقلت: «إن الظروف ربما تغيرت، وليس لدىَّ تحيز ضد رئيس عسكرى، لكنه مع ضابط بوليس فى رئاسة الوزارة، وضابط طيار فى رئاسة الجمهورية ــ فإن صورة ما بعد الحرب سوف تبدو تركيزا على الضبط والربط لا تبرره الأحوال، وأما فيما يتعلق برأى «جمال عبدالناصر» فإن مسئوليات الحرب ــ وبالتالى منجزاتها ــ تغيرت كثيرا عندما التحق شباب المؤهلات بجيش المليون على الجبهة».

وشعرت أنه متمسك برأيه، واقترحت عليه ــ بمنطق حجته:

ــ ليكن ــ لماذا لم تفكر فى «الجمسى» مثلا؟!!

ورد بسرعة:

ــ لا، «الجمسى» لا يصلح للرئاسة ــ «الجمسى» فلاح وهو ليس من نحتاجه فى منصب نائب الرئيس الآن».

وأدركت أن لديه مرشحا، وسألته فيمن يفكر، ورد على الفور على السؤال بسؤال كما كان يفعل أحيانا:

«ما رأيك فى «حسنى مبارك»؟!».

ــ وقلت: «إن اسمه لم يخطر ببالى، وإنما خطر ببالى مع إصراره على عسكرى من جيل أكتوبر، أن يكون نائبه الجديد إما «الجمسى» (وزير الدفاع الآن والذى كان مديرا للعمليات) أو «محمد على فهمى» (قائد الدفاع الجوى، وهو السلاح الذى قام بالدور الأكثر تأثيرا فى المعركة بحائط الصواريخ)، فإذا أراد غير هؤلاء، فقد يفكر فى واحد من قادة الجيوش».

ورد: «لا، لا أحد من هؤلاء يصلح ــ «مبارك» أحسن منهم، خصوصا فى هذه الظروف!!».

وسألته بالتسلسل المنطقى للحوار: أية ظروف بالتحديد؟!!

وراح يشرح ويستطرد ويقاطع نفسه، ثم يعود إلى سياق ما يتكلم فيه، ثم يبتعد عنه، وكنت أشعر به كما لو أنه متردد فى الإفصاح الكامل عن فكره، وإن كانت بعض العبارات قد لفتت نظرى:

ــ قوله مثلا: «أن هناك قيادات فى الجيش لم تفهم بعد سياسته فى «عملية السلام» ومقتضياتها».

ــ وقوله مثلا: «أن هناك عناصر فى الجيش لاتزال مشايعة لـ«مراكز القوى» أو متعاطفة مع «سعد الشاذلى».

ــ وقوله مثلا وهو يستدعى تجربة شاه إيران «محمد رضا بهلوى» الذى وصفه بأنه «سياسى عُقر»، وهو فى رأيه أوعى سياسى فى المنطقة، بحكم تجربة طويلة وراءه ــ استفاد كثيرا منها.

وسألنى الرئيس «السادات» هنا: «ألا يلفت نظرك أن الشاه عين زوج شقيقته «فاطمى» (الجنرال «محمد فاطمى) قائدا للطيران؟!  عنده حكمة فى هذا الاختيار، لأن الطيران يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أى تمرد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب».

وسألته: «إذا كانت تلك نصيحة من شاه إيران؟!».

وارتفع صوته محتجا يسأل: «هل هو فى حاجة إلى نصيحة يقولها له «الشاه»، أليس يكفينا أن نرى ما نرى، ونفهم منه ما نفهم، ثم سألنى مباشرة كمن يريد إفحام محاوره: «جرى لك إيه يا محمد؟!!».

ولفت نظرى قول الرئيس «السادات»:

«إن «مبارك» منوفى (وضحك مقاطعا نفسه: «مثلى»، ثم عاد إلى استكمال عبارته)، وله فى الطيران مجموعات بين الضباط مسيطرة على السلاح، ثم يضيف:

و«التأمين» قضية مهمة فى المرحلة القادمة بكل ما فيها من تحولات قد لا يستوعبها كل الناس بالسرعة الواجبة».
وسألته:

«لكن «الشاه» عين زوج شقيقته قائدا للطيران، وليس نائبا لرئيس الدولة!! ــ و«مبارك» فيما أتصور لا خبرة له بشئون الحكم فى سياسة كل يوم، خصوصا ما يتعلق منها بمطالب الناس ومشكلاتهم، وسألته «ثم لماذا لا تتيح له فرصة التجربة وزيرا لإحدى وزارات الإنتاج أو الخدمات، حتى يتفهم الرجل أحوال الإدارة المدنية، وحتى يحتك ــ ولو من باب الإنصاف له ــ بمطالب الناس وحاجاتهم» ــ وكان رده:

ــ «لا، لو فعلت ما تقترحه، فسوف أحرقه.. الإنجاز السريع فى الوزارات التنفيذية مسألة فى منتهى الصعوبة».

●●●

ومرت فى ذهنى بارقة، فقد تذكرت ذلك التقرير الذى كتبه السيد «سامى شرف» بخط يده عن مكالمة تليفونية مع نائبه الرئيس «السادات» الذى كان فى الخرطوم سنة 1970، وضمن المكالمة ما يشيـــر التقرير عن محاولة اغتيال الإمام «الهادى» بسلة مانجو فى بطنها لغم!!

وقلت للرئيس «السادات» وأنا لا أعرف بالضبط ما أفضى به الآن، وما أحجب مما قرأت فى مذكرة «سامى شرف»:
ــ «ولكن «مبارك» دارت حوله إشاعات فى قضية اغتيال الإمام «الهادى»، وسوف تعود القضية كلها إلى التداول فى «الخرطوم» فور إعلان تعيينه نائبا للرئيس».

ورد «السادات» على طريقته حين يريد «الإقناع» بما يتشكك فيه سامعه بأن: «مشكلتك (يا «محمد») أنك تصدق الإشاعات، ويظهر أن فترة الشهور التى انقطعت فيها عنى (أى منذ تركت «الأهرام» (فى فبراير 1974)) قد «أبعدتك» عن مصادر الأخبار الصحيحة».

وقلت بأدب: «إن الأخبار الصحيحة متاحة فى كل مكان لمن يبحث عنها»، وتصور الرئيس «السادات» أنه بملاحظته ضايقنى، وإذا بابتسامة عريضة تملأ شفتيه مرة واحدة كما يفعل حين يريد إظهار سماحته، فأضاف بنبرته الودود المشهورة عنه: «المسألة أنك بغريزة الصحفى يشدك أى خبر مثير!!».

وقلت: «أى خبر مثير؟! ــ أنت بنفسك رويت القصة كلها على التليفون، و«سامى شرف» سجلها بخطه لعرضها على «جمال عبدالناصر»، وما كتبه «سامى شرف» عندى فى أوراقى التى تفضلت وأعطيتها بنفسك لى!!».

وبدا لى أنه فوجئ، وأول ما قاله فى التعبير عن مفاجأته «آه» ــ قالها خطفا، بمعنى الدهشة!!

وكان سؤاله التالى بسرعة مستفسرا «وعندك الورقة التى كتبها «سامى»، ثم استطرد بأنه يريدها.. يريد أن يراها!!

وقلت إن الورقة موجودة ولكنها ليست «هنا»، وذكَّرته بأننى استأذنته فى إخراج بعض أوراقى الخاصة بعيدا عن مصر، خوفا عليها من تربص صراعات السلطة التى لاحت نُذُرها بعد رحيل «جمال عبدالناصر».

وقلت «أننى سوف أجىء له بها فى أول سفرة إلى أوروبا»، لكنى ذكَّرته بضرورة أن يتصور أن الأمريكان سجَّلوا مكالمته الأصلية مع «سامى»، وكذلك السوفييت، وربما أيضا إسرائيل، وإذن فهناك من يعرفون القصة، وربما يحتفظون بتسجيل كامل لحديثه مع «سامى»، بصرف النظر عن أية «ورقة مكتوبة»!!

وأخذتنا بعد ذلك تطورات الحوادث، فلا الرئيس «السادات» عاد إلى طلب الورقة، ولا أنا عُدت بها معى من سفر!!

●●●

لكن المسألة الأهم بعد هذا الحديث أننى خرجت من استراحة «القناطر» يومها مدركا عدة حقائق:

1ــ أن اختيار «مبارك» لمنصب نائب الرئيس لم يكن اختيارا «بسيطا» ــ بل مركبا ــ حكمته اعتبارات أخرى، فهو لم يكن اختيارا من بين الرجال الذين ظهروا فى حرب أكتوبر، على أساس دور متفوق على غيره فيها، وإنما كان اختيار «مبارك» شيئا آخر إلى جانب أكتوبر يقدمه ويزكيه.

2 ــ أن الرئيس «السادات» اختار رجلا يعرفه من قبل، وقد اختبر قدرته على الفعل، واستوثق منه.

3 ــ أن اختياره للرجل وقع وفى ذهنه قضية حيوية بالنسبة له ولسياساته ــ هى قضية تأمين النظام فى ظروف تحولات حساسة!!

4 ــ أن الرجل من قبل اختياره أظهر استعدادا عنده يجعله مهيأ للمضى «وراء حدود الواجب» على حد التعبير المشهور فى العسكرية البريطانية Going beyond the call of duty ــ أى المضى بتنفيذ الواجب حتى بالزيادة عليه بما ليس منه إذا قضت الأسباب!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) «خالد عباس»: (أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ونائب رئيس الوزراء).
(2) أى أن «السادات» طلب من «مبارك» أن يضع تقريرا مفصلا عن عملية وضع القنابل فى سلة المانجو.

وتدفقت مياه كثيرة بين ضفاف كل الأنهار، حتى جاء «خريف الغضب» سنة 1981، ووقع اغتيال الرئيس «السادات»، وأصبح نائبه «حسنى مبارك» مرشحا لخلافته، وتقرر الاستفتاء على رئاسته، وكانت اعتقالات سبتمبر الشهيرة سنة 1981 قد زجت فى السجن بأعداد من الساسة والنقابيين والكُتَّاب، وراح المعتقلون فى سجن «ملحق مزرعة طرة» ــ وكنت بينهم ــ يتابعون ما يجرى خارج أسوار السجن، لكن مصادر المعلومات كانت شحيحة ومتقطعة داخل هذه الأسوار!!

●●●

وذات يوم فى تلك الفترة جاء إلى سجن «طرة» أحد مشاهير المحامين، وطلب لقاء ثلاثة من المعتقلين، كلا منهم على انفراد: «فؤاد سراج الدين» (باشا) ــ و«فتحى رضوان» ــ وكنت الثالث.

وفى غرفة مأمور السجن وقتها، العقيد «محمود الغنام»، التقى المحامى بكل منا على انفراد، وكان طلبه أن يسلمه المعتقلون السياسيون فى «طرة» بيانا بتأييدهم لانتخاب «مبارك» رئيسا، والإيحاء فيما يطلب بأن ذلك يسهِّل خروجهم من السجن، دفعة مقدمة لحسن المقاصد! ــ والمدهش أن الثلاثة ــ وكل منهم مع الرسول على انفراد ــ أبدوا نفس الرأى بما معناه: أنه لا يليق بسجين الرأى أن يؤيد مرشحا فى انتخابات الرئاسة، خصوصا إذا كان المرشح هو نفسه نائب الرئيس الآن، فذلك ليس مشرفا للسجين، وليس مشرفا للمرشح، لأن حرية الاختيار لا تُمارس من خلف القضبان، كما أن ممارسة الحرية من داخل زنزانة سجن لا تنفع صاحبها، ولا تنفع المقصود بها، لأنها معرَّضة للظنون والشبهات!!

وتم الاستفتاء، وجرى انتخاب «مبارك»، وتلقيت بعدها بأيام رسالة عنه نقلها إلىَّ على تليفون مكتب مأمور السجن الدكتور «أسامة الباز» (وهو المستشار الأول للرئيس الجديد) مؤداها: «أنه تقرر الإفراج عن المعتقلين السياسيين على دفعات، وأن ذلك سوف يبدأ تنفيذه بعد مرور الأربعين (يوما) من وفاة الرئيس «السادات»، والرئيس الجديد يرجو أن نتحمل البقاء حيث نحن (فى طرة) حتى تنقضى الأربعون!!».

●●●

وطلب «أسامة» أن أنقل ما أبلغه لى لمن أرى من رفاق السجن، وحين نقلت رسالة الليل إلى رفاق السجن فى «فسحة» الصبح، تفاوتت ردود أفعالهم.

كان رأى الأستاذ «فتحى رضوان» مستثارا: «إنها خرافة تقاليد القرية»، و«منطق كبير العائلة» يحكم الرئيس الجديد طبقا لعقلية سلفه!!».

وكان رأى «فؤاد سراج الدين» أكثر واقعية: «إن الرئيس الجديد ربما يخشى اتهامه بنقض قرارات سلفه، وأن إبلاغنا رسالة طمأنة مقصودة ــ لنا ولغيرنا».

وعلى أى حال قالها «فؤاد سراج الدين» موجها حديثه إلى «فتحى رضوان»: «لاحظ «أنهم» جميعا فى حالة صدمة، وكلهم فى موقف صعب، ويكفينا ــ الآن ــ أنهم قرروا الإفراج وأبلغونا به، وهذه إشارة واضحة».

وواصل «فؤاد سراج الدين» وكلامه مازال موجَّها إلى «فتحى رضوان»:

«وافرض أنهم أفرجوا عنا فورا، فماذا سنفعل، سوف يكون علينا أن ننتظر ما تتطور إليه الأمور، فإذا كان الانتظار، فلماذا لا يكون الانتظار هنا بدل أن نتوه بعد الخروج فى أحوال مضطربة كنا معزولين عنها ــ خصوصا أننى أتوقع بعد هذه الرسالة أن تتحسن المعاملة، وأن تنتظم اتصالاتنا بالخارج، عندما يجيئون لنا بالصحف، ويُصرحون بالزيارات، وأيضا فإن أبواب الزنازين سوف لا تُغلق علينا طول النهار والليل كما هو حاصل، (باستثناء نصف ساعة للفسحة يوميا)، وهنا سوف يختلف مناخ السجن عما هو الآن».

واحتج الأستاذ «مصطفى الشوربجى» (المحامى الشهير) قائلا لـ«فؤاد سراج الدين»: «لا يا باشا، لا مساومة على حق الحرية».

وكان رد «فؤاد سراج الدين»: عال.. لا تساوم، ولكن قل ماذا تستطيع أن تفعل؟!!».

وكان استمرار الجدل عقيما، لأن المتنفذين ــ خارج السجن ــ كانت لهم الكلمة العليا فى شأن القابعين وراء أسواره!!

السياسيون المفرج عنهم في لقاء مع الرئيس الجديد .. وسط الصورة مبارك وإلي اليسار فؤاد محيي الدين
والدكتورة نوال السعداوي والدكتور حلمي مراد وفتحي رضاون ومحمد حسنين هيكل وفؤاد سراج الدين

●●●

وحين انقضت الأربعون بدأ الإفراج عنا، وارتأى «مبارك» أن يكون إطلاق سراحنا بعد لقاء معه فى قصر «العروبة»، وفى الطريق إلى هذا اللقاء عرضت على أصدقاء المجموعة الأولى من المُفرج عنهم أن يتولى أحدنا الحديث نيابة عنا، حتى نحافظ خلال اللقاء على إطار الاحترام اللازم للمناسبة ولأنفسنا، واقترحت أن يكون المتحدث باسمنا «فؤاد سراج الدين» (باشا) لأنه أكبرنا سنا، وأقدمنا عهدا بممارسة السياسة، ووافق الجميع.

وكان عددنا (أى الدفعة الأولى من السياسيين المُفرج عنهم) ــ حوالى الخمسة والعشرين، وحملتنا سيارة نقل كبيرة من سجن «طرة» إلى قصر «العروبة»، مارة على عنبر المستشفى المخصص للمعتقلين بالقصر العينى، حيث كان بعض من تقرر الإفراج عنهم – تحت العلاج فيه!!

وصافحنا الرئيس الجديد واحدا واحدا، بينما وقف إلى جواره رئيس وزرائه الدكتور «فؤاد محيى الدين»، وعندما جلسنا حوله للحوار معه لاحظت أن الرئيس الجديد يبدى اهتماما بمعرفة رأيى، وقد وجَّه إلىّ الخطاب بوصفى «محمد بيه»، مضيفا: «تفضل» وأشرت إلى «فؤاد سراج الدين» الذى فوَّضناه بالحديث عنا، وكان ذلك السياسى المخضرم ممتازا فى عرضه وفى شرحه، وأظنه كان موفَّقا فيما تقتضيه المناسبة، ولكن «مبارك» التفت نحوى يسألنى إذا كنت أريد أن أضيف شيئا، وشكرته معتبرا أن «فؤاد» (باشا) قال كل ما يريد أينا قوله، (مع أن ذلك لم يمنع رغبة الكلام لدى آخرين ــ وبالفعل تكلم بعضهم وحدث شىء مما تمنيت تجنبه، ومما يفعله الساسة أحيانا عند لقاء الحُكَّام، خصوصا إذا خطر لهم أن يقدموا أنفسهم تعريفا ــ وربما تمهيدا)، ولزمت الصمت مؤثرا الاستماع!!

ومضت أيام ــ خمسة أيام بالعدد ــ ثم تلقيت مكالمة من مكتب الرئيس يقول فيها سكرتيره الخاص وقتها (وأظنه السيد «جمال عبد العزيز»): «إن سيادة الرئيس يدعوك إلى الإفطار معه فى الساعة الثامنة صباح بعد غد، وقد اختار موعدا مبكرا لأن معلوماته أنك تستيقظ مبكرا، وهو فى ذلك «مثلك» يحب أن يبدأ النهار من أوله».

أضاف محدثى: «إن «سيادة» الرئيس أمر بإبلاغى أننى المدعو على الإفطار وحدى» (أى أنه ليس هناك آخرون).

وزاد محدثى بسؤال: «إذا كان يستطيع الاتصال بمكتبى ليحصل على رقم سيارتى حتى يسمح لها الأمن بالدخول إلى حرم البيت».


السادات ومبارك ومصطفي خليل ومنصور حسن
●●●

عندما تلقيت دعوة الإفطار مع الرئيس الجديد، كان فى زيارتى (بمصادفة موفَّقة) صديقان قديمان، وهما الدكتور «أسامة الباز» والأستاذ «منصور حسن»، وكلاهما يعرف «مبارك» معرفة دقيقة، فـ: «أسامة الباز» أقرب المستشارين إليه ــ و«منصور حسن» زامله وزير دولة لشئون الرئاسة فى السنة الأخيرة لحكم «السادات»، وكان «مبارك» نائبا للرئيس، وبين الاثنين (نائب الرئيس ووزير الدولة لشئون الرئاسة) علاقات ملتبسة كثرت حولها الأقوال والروايات.

وقلت للاثنين:

«يظهر أننى سوف أقابل الرئيس الجديد بعد غد، وهذا رجل لم أره إلا فى مصادفات على عكس كليكما، فكل منكما عمل معه عن قرب، وتعرف على جوانب شخصيته». وأضفت: «إننى لا أريد علاقة وثيقة مع رئيس دولة آخر فى مصر، فقد أخذت نصيبى من هذه العلاقات مع «جمال عبد الناصر» من أول يوم إلى آخر يوم من دوره السياسى، ونفس الشىء طوال السنوات الأربع الأولى من رئاسة «أنور السادات» حتى اختلفنا فى إدارته السياسية لحرب أكتوبر، وأنا لم أعد أريد لا صداقات ولا عداوات مع رئيس دولة جديد فى مصر، وما أريده هو أن أحتفظ بحقى فى إبداء رأيى، ومن موقع الصحفى والكاتب ــ وليس أقل أو أكثر!!».

والمعنى أننى لا أريد علاقة خاصة، ولا أسعى إلى صدام، وإنما أريد ومن بعيد علاقات عادية، وهذه فرصة أن أسألكما: «كيف أتعامل مع «صاحبكما» فى هذه الحدود، خصوصا أننى كما قلت أعرف دواعى التزامه بسياسات لا أعتقد فى صحتها، ومن ناحية ثانية فإننى أراه أمامى شخصية أعقد بكثير من انطباع عام لدى الناس أشاع عنه نكتة «البقرة التى تضحك»، بينما هو فى ظنى شخصية أكثر تعقيدا».

ورد «أسامة الباز» على الفور: «بأننى على صواب فى طرح حكاية «البقرة التى تضحك» جانبا، لأنها بالفعل تبسيط لشخصية مركبة».

(لم أقل لهما أننى لمحت مبكرا بعض الجوانب المخفية فى سجل الرئيس الجديد (أى واقعة «الخرطوم»).

واستطرد «أسامة» قائلا: «إنه يعرفنى جيدا، وقد كان فى هيئة مكتبى عندما كنت وزيرا للإعلام ووزيرا للخارجية، ثم اختار أن ينتقل معى إلى «الأهرام» بعد انتهاء مهمة وزارية (محددة المدة والهدف)، ثم ظل معى فى «الأهرام» حتى تركته بعد الخلاف مع الرئيس «السادات»، فعاد إلى الخارجية مستشارا فى مكتب وزيرها «إسماعيل فهمى».

واستطرد «أسامة الباز»:

«إننى عملت معك وعملت مع الرئيس «مبارك» أيضا منذ كلفنى الوزير «إسماعيل فهمى» لأكون مستشارا منتدبا من وزارة الخارجية معه كنائب للرئيس، خصوصا أن «السادات» راح يكلفه بمهام فى الإقليم وفى اتصالاتنا الخارجية، هكذا فإن لى معه الآن أكثر من اثنى عشر عاما».

وأضاف «أسامة الباز»:

ــ وإذن فأنا أعرفك (يقصدنى) ــ وأعرفه (يقصد الرئيس الجديد).

ومضى «أسامة»:

ــ أكرر أنه من الصواب أنك استبعدت تماما حكاية «البقرة الضاحكة»!!

ــ وإذا طلبت رأيى بعد ذلك فلدى ــ أولا ــ ملاحظتان فى المنهج:

أولاهما: «لا تتطرق فى الحديث معه إلى أى قضية فكرية أو نظرية، فهو ببساطة يجد صعوبة فى متابعة ذلك، لأنه أقرب إلى ما هو عملى منه إلى ما هو فكرى أو نظرى، وإذا جرت معه محاولة للتبسيط بالشرح، فإنه سوف يشرد من محدثه، ويتوقف عن المتابعة!!».

والثانية: «أننى أعرف أسلوبك فى الحديث، تستطرد فيه أحيانا، ثم تذهب إلى خاطر يلوح أمامك، ثم تعود إلى سياقك الأصلى بعده. لكن «مبارك» لن يتابعك فى ذلك، كلِّمه فى موضوع واحد فى المرة الواحدة، ولا تدع الموضوعات تتشعب، وإلا فسوف تجد نفسك تتكلم بعيدا، وهو «ليس معك»!

وأضاف «أسامة»:

«تذكر أنه سمع كثيرا ــ أكثر مما تتصور ــ عنك من الرئيس «السادات»، وكثيرا ما سألنى: «كيف كانت صداقتك مع الرئيس «السادات» بهذا القُرب، ثم كان خلافكما إلى هذا الحد؟!! ــ وذلك موضوع أثار فضوله، خصوصا أنه كان يعرف عمق صداقتك مع الرئيس «عبد الناصر»، وكانت درجة هذه الصداقة تبهره، وقد حكى لى أنه تابعك أثناء عملية تحريك حائط الصواريخ إلى الجبهة، عندما كنت وزيرا، وأنه أحس من كل ما تابعه، أنك تتصرف دون أن تنظر وراءك، وهذا يعنى أنك تقف على أرضية «جامدة جدا» (وتذكرت أن هذه هى المرة الثانية التى أسمع فيها نفس الوصف، مرة من «مبارك» مباشرة فى الطريق إلى مكتب «أحمد إسماعيل» (أثناء حرب أكتوبر 1973)، ومرة جديدة الآن نقلا عنه فى ظروف لم أكن أعرف بها!!)».

ثم وصل «أسامة» ثانيا إلى ملاحظتين فى الأسلوب إضافيتين: «هو رجل يعرف «قوة السلطة» حيث تكون، وهذا مفتاح ثالث لشخصيته، ومفتاح آخر قدرته على الاحتفاظ لنفسه بنواياه.. ولذلك أرجوك ألا تحاول استكشاف فكره، لأنك سوف تستثير حذره، والحذر غريزة عنده مرتبطة بفهمه لقوة السلطة!!».

والتفَتُّ ناحية «منصور حسن» وكان يتابع الحديث باهتمام وبابتسامة زاد اتساعها عندما جاء الدور عليه أسأله ــ كان رد «منصور حسن»:

«إنه لن يقول لى شيئا، وإنما يؤثر أن يتركنى أكتشف بنفسى».

وأضاف «منصور حسن» :«كل ما سوف تسمعه لن يهيئك لما سوف تراه، والأفضل أن ترى بنفسك، وبعدها فأنا الذى سوف يسمع منك!».

(مبارك) يريد أن يعرف أكثر عن علاقة (عبد الناصر والسادات)
كان اللقاء مع «مبارك» وديا، ولا أستطيع أن أقول حميما، ولم تكن الحميمية متصورة بعد متابعتى له من بعيد، منذ ظهر أمامى فى «الخرطوم» ــ ثم نائبا للرئيس فى ظروف تشابكت فيها العلاقات بينى وبين الرئيس «السادات» ما بين سنة 1974 وسنة 1975، ثم انقطعت فى نفس الظروف التى أصبح هو فيها نائبا للرئيس، ومسئولا عن الأمن والتأمين، ثم رئيسا للدولة فى ظروف عاصفة!!
وصباح يوم موعدنا ــ السبت 5 من ديسمبر ــ وصلت إلى بيته فى الموعد المحدد ــ وعبرت باب البيت من ردهة إلى صالون فى صحبة ضابط برتبة عميد، ولم أنتظر أكثر من دقيقة فى الصالون، حتى دخل «مبارك» مادا يده ومرحّبا بابتسامة طيبة وملامح تعكس حيوية شباب وطاقة!!
وقال على الفور وهو ما زال واقفا: «لابد أنك جائع فأنا أعرف أنك تستيقظ مبكرا».
وقلت: «بصراحة ــ سيادة الرئيس ــ إننى أفطرت فعلا، ولكنى سوف أجلس معك وأنت تتناول إفطارك»، وضحك قائلا: الحقيقة أننى أيضا أكلت شيئا خفيفا، وقلت له: «إذن فلا داعى لإضاعة وقت على مائدة الإفطار، فلدىَّ الكثير أريد أن أسمعه منك»، وأبدى موافقته بعد تكرار سؤاله عما إذا كنت لا أريد أن آكل أى شىء مما جهزوه لنا، وكررت الشكر، وقال: إذن نطلب فنجانين من القهوة ونجلس.
قدم لى الرئيس «حسنى مبارك» دون أن يقصد من ناحية، ودون أن أقصد أيضا ــ مفتاحا لم أتوقعه من مفاتيح شخصيته، ولسوء الحظ فإن ما قدَّمه لى فات علىَّ فى وقته، مع أنه استوقفنى فعلَّقت عليه!!
●●●
قلت للرئيس «مبارك» فور أن جلسنا: «إننى فكرت بالأمس أن أطلب مكتبه، راجيا تغيير موعدنا، لأنى قرأت فى الصحف عن مشاورات يجريها لتعديل وزارى أعلن عنه، وقد خطر لى أن موعدى معه اليوم قد يُحدث التباسا وخلطا لا ضرورة له، بين لقاءاته فى إطار التعديل الوزارى، وبين لقاءاته العادية الأخرى وضمنها موعدى معه، وأول الضحايا فى هذا الخلط والالتباس ــ سوف يكون فريق الصحفيين الذين يغطون أخبار رئاسة الجمهورية».
ورد «مبارك» وهو يبتسم بومضة شقاوة فى عينيه:
- وماذا يضايقك فى ذلك.. «اتركهم يغلطوا!».
ولم يتضح لى قصده، وسألته، وجاء رده بما لم أفهمه فى البداية حين قال (يقصد الصحفيين): دول عالم «لَبَطْ»، وأبديت أننى لم أفهم المعنى، واستنكر بُطء فهمى فقال: «لا تعرف معنى «لَبَطْ» ــ هل أنت «خواجة»؟!، وأكدت له أننى أبعد ما أكون، وراح يشرح معنى «لَبَطْ»، ثم واصل شرحه: «اتركهم يغلطوا» حتى يتأكد الناس أنهم لا يعرفون شيئا».
ومرة ثانية لم يتضح لى قصده، ومرة ثانية سألته، ورد، وعلى شفتيه ما بدا لى «ابتسامة من نوع ما»: «إن الصحفيين يدَّعون أنهم يعرفون كل شىء، وأنهم «فالحين قوى»، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس على حقيقتهم، وأنهم «هجاصين» لا يعرفون شيئا».
قلت:
ــ ولكن سيادة الرئيس هذه صحافتك، أقصد «صحافة البلد»، ومن المفيد أن تحتفظ لها بمصداقيتها، ولا بأس هنا من جهد لإبقاء الصحفيين على صلة بالأخبار ومصادرها.
ورد بقوله: «الدكتور «فؤاد» (يقصد رئيس وزارته وقتها «فؤاد محيى الدين») يقابل الصحفيين باستمرار، ويطلعهم على الحقائق، لكن بلا فائدة، هم «يخبطوا على مزاجهم» ولا يسألون أحدا!».
وقلت: «إنه ليس هناك صحفى يحترم نفسه تصل إليه أخبار حقيقية ويتردد فى نشرها».
وظل على رأيه: «المسألة أنهم لا ينشرون، إما أن لهم مصالح خاصة، وإما أنهم لا يفهمون».
وأحس أننى لم أقتنع، وتفضَّل بما ظن أنه مجاملة ــ قائلا:
ــ «محمد بيه» أنت تقيس الصحفيين الحاليين بتجربة زمن مضى، ليس هناك صحفى الآن له علاقة خاصة بالرئيس (وكانت الإشارة واضحة)، وقلت إن «جمال عبدالناصر» كان متصلا بكثيرين من الصحفيين، ثم إن هذا لا يمنع قيام صداقة مع أحدهم بالذات، ولكن المهم أن يكون أصبع رئيس الدولة على نبض الرأى العام طول الوقت».
وانتقل والدهشة عندى تزيد قائلا:
«على فكرة نحن كنا نتصور أنك تجلس على حِجْر الرئيس الرئيس «جمال»، لكنه ظهر أن الرئيس «جمال» كان هو الذى يجلس على حِجْرك، واستطرد: لم أكن أعرف أن العلاقة بينكما إلى هذا الحد حتى شرحها لى (أشار إلى اسم الأستاذ «أنيس منصور)»!!
واستهولت ما سمعت، وبان ذلك على ملامحى، وربما فى نبرة صوتى حين قلت له:
«سيادة الرئيس أرجوك لا تكرر مثل هذا الكلام أمام أحد، ولا حتى أمام نفسك، أولا لأنه ليس صحيحا، وثانيا لأنه يسىء إلى رجل كان وسوف يظل فى اعتقادى واعتقاد كثيرين فى مصر وفى الإقليم وفى العالم قائدا ورمزا لمرحلة «مهمة» فى التاريخ العربى».
أضفت:
«فيما يتعلق بى فقد كان يمكن أن يرضى أوهامى أننى كنت «كل شىء» وقت «جمال عبد الناصر»، ولكن ذلك غير صحيح، لأن «جمال عبد الناصر» كان هو «جمال عبد الناصر»، وقد أسعدنى ــ ولا يزال ــ أننى كنت صديقا له وقريبا منه ومتابعا لدوره وهو يصنع للأمة كلها تاريخا يمثل على الأقل لحظة عز وقوة لها فى عالمها وعصرها، وأنا أقول ذلك بعيون مفتوحة، مدركا أن تجربة «عبد الناصر» كانت إنسانية قابلة للخطأ أحيانا كما للصواب، كما أنها ليست أسطورية معصومة بالقداسة، لأن ذلك غير إنسانى، وهذه هى الحقيقة»!.
وقاطعنى:
ــ «أنا أعرف كم كان الرئيس «جمال» شخصية عظيمة، وما قلته لك كان كلام (أعاد الإشارة إلى اسم «أنيس منصور»!)، وهو لم يقله لى فقط، وإنما نشره أيضا، أما أنا فلم أقل من عندى إلا ما قلته أنت فى وصف علاقتك به، من أنك كنت صديقا له وقريبا منه هذا ما قصدته، وقصدت أنك كنت تعرف كل شىء، بينما الصحفيون الآن لا يعرفون».
وقلت:
ــ «إن علاقته هو (أى «مبارك») بالصحفيين فى عهده اختياره، وله أن يوصفها كما يرى، لكنى أتمنى لو استطاع أن يسهِّل على الصحافة أن تعرف أكثر، لأن تلك مصلحة الجميع، وأولهم هو شخصيا».
وظل على رأيه لم يغيره، وأكثر من ذلك فإن رده علىَّ كان بقوله: «أنه إذا عرف الصحفيون أكثر، فسوف يتلاعبون به».
وقلت فى شبه احتجاج:
ــ «سيادة الرئيس أنت تسىء الظن بإعلامك، وأنا أعرف بعضا من شيوخ المهنة وشبابها، وأثق أنهم لن يتلاعبوا فى أخبار، فضلا عن أسرار».
وشرحت لمحات عن مهنة الصحافة فى مصر وتاريخها ورجالها، ومع أنى أسهبت إلى حد ما فى الحديث عن تاريخ الصحافة المصرية، فقد أحسست أنه يتابع، وكانت له عدة أسئلة واستفسارات عن الأشخاص وعن الوقائع.
ثم آثرت أن أنتقل من هذا الموضوع إلى غيره مما يعنينى فى أول لقاء مع رئيس الدولة الجديد فى مصر، وفى ظروف عاصفة يندر أن يكون لها مثيل ــ هبت على مصر نارا ودما!!
●●●
وكذلك عُدت بالحديث إلى مدخله الطبيعى، فقلت للرئيس: إننى متشوق إلى سماعه.
ورد قائلا: ولكن أنا أريد أن أسمعك هذه المرة وأن أسألك، وفى المرة القادمة أنت تسألنى ــ أضاف بتواضع أنه يعتبر نفسه هذه الفترة فى «مهمة استكشاف»، يتعرف فيها على «الجو» الذى يتعين عليه العمل فيه!»، وأضاف: «أنا طلبت منك أن تتكلم يوم جئت إلى قصر «العروبة» بعد الإفراج عنكم، ولكنك لم تتكلم». وقلت: «إننى اعتذرت لأن اتفاقنا قبل المجىء إلى عنده كان أن يتكلم واحد منا بالنيابة عنا جميعا، وقد اخترنا «فؤاد سراج الدين» لأنه أكبرنا سنا، وأسبقنا جميعا إلى ممارسة العمل السياسى».
قاطعنى بسؤال: هل عرفت «سراج الدين» وأنتم فى «طرة»؟!! ــ وقلت: إننى أعرفه من قبل ثورة 1952، وحين كان سكرتيرا عاما لحزب الوفد ووزيرا للداخلية، وقتها (فى أواخر العشرينيات من عمرى) ــ كنت رئيسا لتحرير «آخر ساعة»، ومديرا لتحرير «أخبار اليوم»، وعلى علاقة بمعظم الساسة فى مصر، وكان «فؤاد سراج الدين» من أبرزهم، ولم تتغير علاقتى به أو بهم، بل توثقت مع مرور الأيام، وحتى بعد ثورة يوليو.
وقاطعنى «مبارك» بسؤال:
هل كان الرئيس «عبد الناصر» يعرف ذلك ويقبل به؟!! ــ قلت له: «جمال عبد الناصر» كان يحب «مصطفى النحاس» مثلا (رئيس الوفد) ويحترمه، وكان يرى مزايا كثيرة لـ«فؤاد سراج الدين»، ويعتبره سياسيا ذكيا مجربا، حتى وإن اختلف معه».
وتوقف «مبارك» للحظة مترددا ثم سأل:
ــ ولكن ألم يحدث أن الرئيس «جمال» اعتقل «النحاس» (باشا)؟!!
وقلت:
ــ بالمعنى الحقيقى لم يعتقله، وإنما أصدر قرارا بتحديد إقامته فى بيته، وكان ذلك سنة 1955، وفى الظروف الخطرة على الطريق إلى حرب السويس، وكانت المعلومات وقتها أن الإنجليز يبحثون عن حكومة بديلة لنظام 23 يوليو، وخشى «جمال عبد الناصر» أن يقوم أحد بتوريط «النحاس» (باشا) فى حديث عن حكومة بديلة، خصوصا وأن المعلومات وقتها كانت أن المخابرات البريطانية M.I.6 تقترح إما «النحاس» (باشا)، وإما اللواء «محمد نجيب» لرئاسة حكومة يستطيعون الاتفاق معها، وأظنه أراد حماية «النحاس» (باشا) أكثر مما أراد الإساءة إليه، وأنا أعرف أن الأسلوب غريب فلا أحد يستطيع حماية رجل يحرص عليه بتحديد إقامته فى بيته، لكن «جمال عبد الناصر» وفى الكلام معى أشار إلى هؤلاء الذين ورطوا «النحاس» (باشا) فى حادثة 4 فبراير 1942)، وأتذكر أننى وقتها استأذنته أن أذهب قبل تطبيق القرار بتحديد إقامة «النحاس» (باشا) وأشرح له دواعيه، وأن «عبد الناصر» وافق، وذهبت إلى مقابلة «النحاس» (باشا) بالفعل.
وكنت وما زلت حتى الآن على خلاف مع الأسلوب، رغم تفهمى لدوافعه».
●●●
ــ وقاطعنى «مبارك»:
تريد أن تقول إن الرئيس «عبد الناصر» كان يحب «النحاس»؟!!
واستطرد:
«لا مؤاخذة ــ الرئيس «أنور» قال لى إن «عبد الناصر» لم يكن يحب أحدا».
ــ وابتسمت وقلت: هذا رأى الرئيس «السادات» – بأثر رجعى كما يبدو لى، لأنه هو من وصفه فى كتاب بأكمله بـ «القلب الكبير الذى يتسع لحب كل الناس وللإنسانية كافة».
وقاطعنى:
ــ «محمد» بيه ــ أنا أحببت الرئيس «جمال» ــ لا تنسى أننى أسميت أحد أبنائى على اسمه».
وقلت:
ــ وكذلك فعل الرئيس «السادات».
وسألنى: هل أسميت أحدا من أبنائك باسم الرئيس «جمال»؟!!
ــ وأجبت بالنفى، بل اخترت لأبنائى أسماء عربية ــ تقليدية ــ وسهلة: «على» ــ و«أحمد» ــ و«حسن».
ــ وسألنى الرئيس «مبارك»:
«حيرتنى علاقة الرئيسين «أنور» و«جمال» ــ لماذا اختلفا معا ــ أنت كنت شاهدا على العلاقات بينهما، وكنت قريبا من الاثنين، حتى وقعت الواقعة بينك وبين الرئيس «أنور».
ــ وقلت:
«فى علاقتى بالاثنين لم أعرف عن خلاف بينهما، ولم يكن هناك لا موضوع للخلاف ولا مجال لوقوعه، فـ«أنور السادات» كان دائما وراء «جمال عبد الناصر»، مناصرا، متحمسا، وبعد رحيله 1970، وحتى بعد حرب أكتوبر 1973، وحين اختلفت معه وابتعدت فإن علاقته بـ«عبد الناصر» كانت كما عهدتها، ثم بدأت ــ بعد سنة 1974 ــ أسمع ــ من بعيد ــ بالتلميح أولا وبالتصريح ثانيا عن خلاف كان، وعن مواقف وقع فيها هذا الخلاف «المزعوم» واستفحل، وفى البداية بدا لى ذلك غير مفهوم، أو حتى غير منطقى!!».
●●●
وتداعى هنا حديث حول العلاقات بين الرئيسين السابقين.
وانتقل الرئيس «مبارك» من هنا إلى خلافى شخصيا مع الرئيس «أنور»، وقال: كثيرا ما أستغربت، فأنا أعرف أنك وقفت معه «جامد» فى أول ولايته، ثم وقفت معه «أجمد» فى معركة مراكز القوى ــ مايو ــ وكنا جميعا نعرف أنك موضع ثقته، وقد رأيت ذلك بنفسى فى القيادة أثناء الحرب ــ وأضاف: «أنه عرف أننى كاتب التوجه الإستراتيچى الذى صدر للمشير «أحمد إسماعيل» بتحديد أهداف حرب أكتوبر، وهذا فى رأيه «قمة الثقة»، ولهذا فاجأه خلافى مع الرئيس حول فك الارتباط، لكنه لم يقرأ ما كتبت عنه ــ هو يعرف أن الخلاف وقع، لكنه لا يعرف لماذا؟! ثم استدرك ضاحكا:
ــ «لا تزعل يا «محمد» بيه، إذا قلت لك إننى لم أكن أقرأ مقالاتك رغم «أننى أسمع أن كثيرين يقرأونها»، ولا أخفى عليك أننى كنت أمنع ضباط (الطيران) من قراءتها».
ــ وقلت بعفوية: «ياه… لعل السبب خير».
ــ قال: «ما كان يحدث أن مقالك «بصراحة» يُنشر فى «الأهرام» يوم الجمعة، ثم يجىء الضباط يوم السبت وقد قرأوه، وكلهم متحفزون لمناقشته، وكثيرا ما كانوا «يتخانقون»، وأنا لا أريد فى السلاح «خناقات» ولا سياسة!!».
ــ أضاف: «أما عنى أنا، فقد كنت لا أقرأ مقالاتك لأنى عندما حاولت ــ لم أفهم ماذا تريد أن تقول فى نهاية المقال».
ــ بصراحة (على رأيك ــ أضافها وهو مازال يبتسم ــ «مقالك دائما ينتهى دون أن «نرسى على بر» ــ ولا نعرف بعده نتيجة Conclusion، قالها بالإنجليزية).
ــ وقلت: «سيادة الرئيس ــ هناك مدرسة فى الكتابة لا ترى أن الـConclusion واجب الكاتب، وإنما واجبه: معلومات صحيحة، واجتهادات فى التحليل واسعة، واختيارات فى المسالك المتاحة للحل مفتوحة، ثم يكون للقارئ أن يختار ما يقنعه، بمعنى أننى لا أريد أن يكون ما أكتبه «مقفولا» على نتائج Conclusion «تعلِّبه»، وإنما أفضل أن أترك للقارئ حريته ــ بمعنى أن تبدأ علاقته بالمقال بعد أن ينتهى من قراءته، وليس حين يهم بقراءته، لأن هدفى تحريضه على التفكير وهو يقرأ، ورجائى أن يصل بتفكيره إلى حيث يقتنع. وقال: «يا عم» ما الفائدة إذن أن يقرأ الناس «لكاتب كبير»؟! ــ لابد أن «يرسيهم على بر». وقلت: أنا أريد للقارئ أن يرسو على «بره هو»، وليس على «برى أنا»، وعلق بابتسامة مرة أخرى قائلا: «يعنى عاوز تدوخ الناس يا أخى، قل لهم وريحهم»..
واختصرت قائلا: «على أية حال فهناك مدارس متعددة فى الكتابة!!».
ــ وعاد «مبارك» إلى سؤاله عن العلاقات بين الرئيس «السادات» وبينى ــ فقال:
«الغريب جدا أننى أحسست أن علاقته بك كانت Love – Hate Complex، قالها أيضا بالإنجليزية (عقدة محبة وكراهية فى نفس الوقت).
هو بالحق كان يتحدث كثيرا عنك بالتقدير، لكنه يأخذ عليك أنك تريد أن تفرض عليه رأيك».
قلت مستغربا:
«سيادة الرئيس ــ كيف يمكن لصحفى أن يفرض رأيه على رئيس الدولة؟!!».
رئيس الدولة عنده السلطة كلها ــ وأدواتها تحت يده ــ فكيف أستطيع أنا أو غيرى ــ من الكُتَّاب والصحفيين ــ أن نفرض شيئا عليه؟! ــ ربما يفرض عليه قائد جيش لديه سلاح، أو رئيس حزب لديه تنظيم، أو وزير داخلية عنده بوليس، أما الصحفى فلا يملك غير عرض وجهة نظره ولا أكثر، وهو يضعها أمام الرأى العام إما أن يأخذ بها أحد أو يعرض عنها، فتلك مسألة أخرى خارج قدرة أى صحفى!!
ثم قلت: العكس هو الصحيح فيما أظن، فرئيس الدولة هو فى العادة من يريد فرض رأيه على الصحفى، وهنا المشكلة!!
أضفت بوضوح يجعل موقفى واضحا أمامه:
«وفيما يتعلق بموقفى مع الرئيس «السادات»، فإننى لم أقتنع بما اتخذ من سياسات أثناء أكتوبر وبعدها عندما جاء «هنرى كيسنجر» وأقنع «السادات» وتصرف الرئيس على أساس أن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط، وأن «هنرى كيسنجر» هو من يمسك بالقرار السياسى الأمريكى ــ وكان لى رأى مختلف، وقد تمسكت به وفى ذهنى أن الرئيس الأمريكى بنفسه أو بوزير خارجيته غير قادر على الفعل لأسباب كثيرة، حتى لو أراد، وفى الأوضاع الحالية فإن الإدارة الأمريكية فى شلل بسبب ورطة الرئيس فى فضيحة «ووترچيت».
واستطردت:
«ومن جانبى فلم أستطع غير التحفظ على هذه السياسة الجديدة، وقد عبَّرت عن أفكارى فى أكثر من عشر مقالات ضايقت الرئيس «السادات»، واعتبر أننى بكتابتها أعرقل توجهاته، ومن هنا كان ضيقه.
وفى هذا الموضع من الحديث قلت للرئيس إن ذلك الخلاف قصة طويلة، ولا أريد أن أضيع وقته فيها، لكنه طلب أن يسمع، واستدعى أحد سكرتيريه وأمره بتأجيل موعد كان لديه فى الساعة العاشرة والنصف.




No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.