في مثل هذا اليوم من عام مضى، شيعت جنازة مهندس حرب أكتوبر رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية الفريق سعد الدين الشاذلي، الذي توفي في الخميس7 ربيع الأول 1432 هـ الموافق 10 فبراير 2011، عن عمر بلغ 88 عامًا قضاها في خدمة وطنه بكل كفاءة وأمانة وإخلاص، وبعدما هتف الثوار باسمه في ميدان التحرير، أثناء تحديهم لمبارك، مطالبين برفع الظلم عنه، وهو ما حدث بالفعل بعد تنحي مبارك بأسبوعين، حيث أعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة لأسرته "نجمة سيناء"، وهو الوسام الذي جرده منه الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
وشاءت الأقدار أن تكون جنازته في نفس اليوم الذي أعلن فيه عمر سليمان تنحي الرئيس حسني مبارك عن منصبه كرئيس للجمهورية، ليتم تشييع جنازته في مشهد مهيب وقف له الشعب المصري إجلالا، في اليوم نفسه الذي خرج فيه نفس الشعب يحتفل بسقوط مبارك ومغادرته للحكم ويشيعه باللعنات.
وليتم وضع مبارك بعد أيام من تنحيه في المركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة، الذي قضى به الفريق الشاذلي أيامه الأخيرة، يقاوم المرض.
لقطات من حياته
الفريق سعد الدين الشاذلي، قائد أركان حرب القوات المسلحة المصرية في فترة حرب أكتوبر، وتحديدا في الفترة من 16 مايو 1971 وحتى 13 ديسمبر 1973، أحد الذين أعادت لهم ثورة يناير اعتبارهم، ووضعتهم في مكانتهم اللائقة بعد ظلم دام لما يزيد على 19 عاما، بسبب خلاف في وجهات النظر بينه وبين الرئيس السابق السادات، انتهت بعزله عسكريا وسياسيا وتجريده من كل رتبه وألقابه.
كانت التهمة التي أطاح بها السادات بالشاذلي، الذي حمل عدة ألقاب منها: "بطل ومهندس حرب أكتوبر" وصاحب خطة "المآذن العالية"، و"الرأس المدبر لخطة الهجوم على خط بارليف"، هى إفشاء أسرار عسكرية، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة سنوات مع الشغل، وتجريده من حقوقه السياسية، ووضع أملاكه تحت الحراسة، وذلك ردا على مذكرات الشاذلي التي نشرها في منفاه بالجزائر، واتهم فيها السادات صراحة باتخاذ قرارات خاطئة أثناء حرب أكتوبر، أدت إلى "وأد النصر العسكري والتسبب في الثغرة وتضليل الشعب بإخفاء حقيقة الثغرة وتدمير حائط الصواريخ وحصار الجيش الثالث لمدة فاقت الثلاثة أشهر كانت تصلهم الإمدادات تحت إشراف الجيش الإسرائيلي".
نقرأ القصة من مذكرات الفريق الشاذلي "حرب أكتوبر"، التي أرخ فيها بالتفصيل القصة من بدايتها.
* "المآذن العالية" وخطة الشاذلي لاستعادة سيناء بحرب خاطفة
تتلخص فلسفة الفريق الشاذلي في خطته "المآذن العالية"، التي أراد فيها إسقاط إسرائيل في حرب خاطفة، في أن ضعف قواتنا الجوية وضعف إمكاناتنا في الدفاع الجوي ذاتي الحركة آنذاك والتي كانت تجعل من القيام بعملية هجومية كبيرة أمر صعب، يمكن تلافيها بالقيام بعملية محدودة، يعبر فيها الجيش المصري القناة ويدمر خط بارليف ويحتل من 10 إلى 12 كيلومترا شرق القناة، وتعتمد الخطة على أن لإسرائيل نقطتي ضعف:
الأولى: عدم قدرتها على تحمل الخسائر البشرية نظرًا لقلة عدد أفرادها.
والثانية: إطالة مدة الحرب، فإسرائيل في كل الحروب السابقة كانت تعتمد على الحروب الخاطفة التي تنتهي خلال أربعة أسابيع أو ستة أسابيع على الأكثر؛ لأنها خلال هذه الفترة تقوم بتعبئة 18% من الشعب الإسرائيلي وهذه نسبة عالية جدًا، تتسبب في توقف الحياة الاقتصادية والتعليم والزراعة والصناعة تمامًا.
وشاءت الأقدار أن تكون جنازته في نفس اليوم الذي أعلن فيه عمر سليمان تنحي الرئيس حسني مبارك عن منصبه ليتم تشييع جنازته في مشهد مهيب وقف له الشعب المصري إجلالا، في اليوم نفسه الذي خرج فيه نفس الشعب يحتفل بسقوط مبارك ومغادرته للحكم ويشيعه باللعنات.
كما كان هناك بعدان آخران لتلك الخطة يحرمان إسرائيل من أهم مزاياها القتالية، يقول عنهما الشاذلي: "عندما أعبر القناة وأحتل مسافة بعمق 10: 12 كم شرق القناة بطول الجبهة (حوالي 170 كم) سأحرم العدو من أهم ميزتين له؛ فالميزة الأولى تكمن في حرمانه من الهجوم من الأجناب؛ لأن أجناب الجيش المصري ستكون مرتكزة على البحر المتوسط في الشمال، وعلى خليج السويس في الجنوب، ولن يستطيع الهجوم من المؤخرة التي ستكون قناة السويس، فسيضطر إلى الهجوم بالمواجهة وعندها سيدفع الثمن فادحًا".
وعن الميزة الثانية قال الشاذلي: "يتمتع العدو بميزة مهمة في المعارك التصادمية، وهي الدعم الجوي السريع للعناصر المدرعة التابعة له، حيث تتيح العقيدة القتالية الغربية التي تعمل إسرائيل بمقتضاها للمستويات الصغرى من القادة بالاستعانة بالدعم الجوي، وهو ما سيفقده لأني سأكون في حماية الدفاع الجوي المصري، ومن هنا تتم عملية تحييد الطيران الإسرائيلي من المعركة".
رفض خروج قواتنا من تحت الغطاء الجوي وكشفها لطيران العدو... والسادات أصر بعد استغاثة سوريا وطلبها تطوير الهجوم لتخفيف الضغط على جبهتها فحدثت الثغرة، وخطته للقضاء على "الثغرة" التي رفضها السادات وأحمد إسماعيل وأوصلت الأمور بينهم إلى مرحلة الطلاق
* حرب أكتوبر والنجاح الباهر لـ"المآذن العالية"
في يوم 6 أكتوبر 1973 في الساعة 1405 (الثانية وخمس دقائق ظهراً) شن الجيشان المصري والسوري هجومًا كاسحًا على إسرائيل، بطول الجبهتين، ونفذ الجيش المصري خطة "المآذن العالية" التي وضعها الفريق الشاذلي بنجاح غير متوقع، لدرجة أن الشاذلي يقول في كتابه "حرب أكتوبر": "في أول 24 ساعة قتال لم يصدر من القيادة العامة أي أمر لأي وحدة فرعية.. قواتنا كانت تؤدي مهامها بمنتهى الكفاءة والسهولة واليسر كأنها تؤدي طابور تدريب تكتيكي".
* تطوير الهجوم لتخفيف الضغط على الجبهة السورية
كما جاء في مذكرات الفريق الشاذلي "حرب أكتوبر": كانت الأمور تسير لصالح الجيش المصري تماما، حتى أرسلت القيادة العسكرية السورية مندوبًا للقيادة الموحدة للجبهتين، التي كان يقودها المشير أحمد إسماعيل، تطلب زيادة الضغط على القوات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس لتخفيف الضغط على جبهة الجولان.
وهو ما استجاب له الرئيس السادات وطلب من إسماعيل تطوير الهجوم شرقًا لتخفيف الضغط على سوريا، فأصدر إسماعيل أوامره بذلك على أن يتم التطوير صباح 12 أكتوبر.
وهنا عارض الشاذلي هذا القرار بشدة، رافضا أي تطوير أو تحريك للقوات خارج نطاق الـ12 كيلو، التي تغطيها حماية مظلة قوات الدفاع الجوي، مؤكدا أن أي تقدم خارج مظله الدفاع الجوى معناه أننا نقدم قواتنا هدية للطيران الإسرائيلي، وهو الرأى الذي تجاهله السادات وأحمد إسماعيل.
ويكمل الشاذلي: تم تطوير الهجوم شرقا، فدفعت قوات الجيش الثالث الميداني بعدد 2 لواء (في اتجاه السويس)، هما اللواء الحادي عشر (مشاة ميكانيكي) في اتجاه ممر الجدي، واللواء الثالث المدرع في اتجاه ممر "متلا"، وفي (اتجاه الإسماعيلية) هاجمت الفرقة 21 المدرعة من الجيش الثاني الميداني في اتجاه منطقة "الطاسة"، وعلى المحور الشمالي لسيناء هاجم اللواء 15 مدرع في اتجاه "رمانة".
* فشل تطوير القتال وتنفيذ إسرائيل لخطة "غزالة"
انتهت خطة تطوير القتال بالفشل كما توقع الشاذلي، وخسرت القوات المصرية 250 دبابة من قوتها الضاربة الرئيسية في ساعات معدودات من بدء التطوير، وأصبحت المبادأة في جانب القوات الإسرائيلية التي استعدت لتنفيذ خطتها المعدة من قبل والمعروفة باسم "الغزالة" للعبور غرب القناة، وحصار القوات المصرية الموجودة شرقها خاصة وأن القوات المدرعه التي قامت بتطوير الهجوم شرقا هي القوات التي كانت مكلفة بحماية الضفة الغربية ومؤخرة القوات المسلحة وبعبورها القنال شرقا وتدمير معظمها في معركة التطوير الفاشل، فأصبح ظهر الجيش المصري مكشوفا غرب القناة، فيما عرف بعد ذلك بثغرة الدفرسوار.
* طائرة استطلاع أمريكية تكتشف الثغرة
طائرة استطلاع أمريكية اخترقت تحصينات الدفاع الجوي المصري بسبب سرعتها التي بلغت ثلاث مرات سرعة الصوت وارتفاعها الشاهق اكتشفت وجود ثغرة بين الجيش الثالث والثاني فنفذت إسرائيل العملية "غزالة".
خروج قواتنا من تحت الغطاء الجوي وكشفها لطيران العدو... والسادات أصر بعد استغاثة سوريا وطلبها تطوير الهجوم لتخفيف الضغط على جبهتها فحدثت الثغرة، وخطته للقضاء على "الثغرة" التي رفضها السادات وأحمد إسماعيل وأوصلت الأمور بينهم إلى مرحلة الطلاق
في تلك الأثناء كانت أمريكا تأكدت من تفوق الجانب العربي في الحرب، وقررت مساعدة طفلها في الشرق الأوسط بكل إمكانياتها، فدفعت بطائرة استطلاع اخترقت تحصينات الدفاع الجوي المصري بسبب سرعتها التي بلغت ثلاث مرات سرعة الصوت وارتفاعها الشاهق، فاكتشفت وجود ثغرة بين الجيش الثالث في السويس والجيش الثاني في الإسماعيلية، وعلى الفور أبلغ الأمريكان إسرائيل، ونجح أرئيل شارون قائد إحدى الفرق المدرعة الإسرائيلية بالعبور إلى غرب القناة من الثغرة بين الجيشين عند منطقة "الدفرسوار" القريبة من البحيرات المرّة بقوة محدودة ليلة 16 أكتوبر، وصلت إلى 6 ألوية مدرعة، و3 ألوية مشاة مع يوم 22 أكتوبر، احتل شارون المنطقة ما بين مدينتي الإسماعيلية والسويس، ولم يتمكن من احتلال أي منهما وكبدته القوات المصرية والمقاومة الشعبية خسائر فادحة.
تم تطويق الجيش الثالث بالكامل في السويس، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس القاهرة، ولكنها توقفت بسبب عنف القتال غرب القناة، خصوصا بعد فشل الجنرال شارون في الاستيلاء على الإسماعيلية، وفشل الجيش الإسرائيلى في احتلال السويس، مما وضع القوات الإسرائيلية غرب القناة في مأزق صعب وجعلها محاصرة بين الموانع الطبيعية والاستنزاف والقلق من الهجوم المصري المضاد الوشيك.
* خطة الشاذلي للقضاء على "الثغرة" التي رفضها السادات
في يوم 17 أكتوبر طالب الفريق الشاذلي بسحب عدد 4 ألوية مدرعة من الشرق إلى الغرب ؛ ليزيد من الخناق على القوات الإسرائيلية الموجودة في الغرب، والقضاء عليها نهائيًّا، علماً بأن القوات الإسرائيلية يوم 17 أكتوبر كانت لواء مدرع وفرقة مشاة فقط وتوقع الفريق الشاذلي عبور لواء إسرائيلي إضافي ليلا لذا فطالب بسحب عدد 4 ألوية مدرعة تحسبا لذلك، مؤكدا أن القوات المصرية ستقاتل تحت مظلة الدفاع الجوي وبمساعدة الطيران المصري، وهو ما يضمن التفوق المصري الكاسح وتدمير الثغرة تدميرا نهائيا "وكأن عاصفة هبت على الثغرة وقضت عليها"، وهذه الخطة تعتبر من وجهة نظر الشاذلي تطبيق لمبدأ من مبادئ الحرب الحديثة، وهو "المناورة بالقوات"، علمًا بأن سحب هذه الألوية لن يؤثر مطلقًا على أوضاع الفرق المشاة الخمس المتمركزة في الشرق.
لكن السادات وأحمد إسماعيل رفضا هذا الأمر بشدة، بدعوى أن الجنود المصريين لديهم عقدة نفسية من عملية الانسحاب للغرب منذ نكسة 1967، وبالتالي رفضا سحب أي قوات من الشرق للغرب، وهنا وصلت الأمور بينهما وبين الشاذلي إلى مرحلة الطلاق.
ورغم بلاغه إلى النائب العام، الذي يوجد بنصه على العديد من مواقع الإنترنت، والذي طالب فيه بمحاكمة السادات مبديا استعداده لتقديم كل الأدلة التي تثبت اتهامه، فإن أحدا لم يلتفت طوال سنين إلى هذا البطل، بل على العكس، واصل الرئيس المخلوع حسني مبارك سياسة التعتيم والتضليل تجاه البطل، لدرجة أن قام بتعديل صورة الشاذلي في غرفة عمليات حرب أكتوبر ووضع صورته بدلا منه، وهى الصورة الشهيرة التي تم رفعها بقرار من القوات المسلحة من المتحف الحربي ببورسعيد.
وينتظر أهالي بورسعيد والعاملون بالمتحف ان يتم وضع صورة الفريق سعد الدين الشاذلي، تكريما له، خاصة أننا نحتفل هذه الأيام بذكرى انتصارات أكتوبر التي كان للشاذلي دور كبير في رسم خطوطها والخروج بها إلى حيز التنفيذ، وهو ما نتمنى أن تحققه احتفالات هذا العام، أن تضيف جديدا رغم مرور 38 عاما عليها، من خلال إلقاء المزيد من الضوء على البطل، لمن لا يعرفه وللأجيال القادمة
ولأن الحق يجب أن يعود لأصحابه مهما طال الزمن، قررت القوات المسلحة المصرية بعد ثورة يناير إعادة وسام "نجمة سينا" لاسم البطل الراحل، الذي شاءت الأقدار أن يكون يوم وفاته هو نفس يوم إعلان تنحي الرئيس تحت ضغط الشعب، ليكتب القدر نهاية مشرفة للأول سيظل يحفظها له التاريخ، ونهاية مخزية للأخير سيحفظها له التاريخ أيضا.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.