في يوم 14 مارس عام 1922 نشرت الوقائع المصرية «أمرا سلطانيا كريما»، كان آخر الأوامر السلطانية .. جاء هذا الأمر علي شكل خطاب لرئيس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا من السلطان فؤاد، وتضمن فقرة موجهة «إلي شعبنا الكريم»، كان نصها:
«لقد منّ الله علينا بأن جعل استقلال البلاد علي يدنا وإنا لنبتهل إلي المولي عز وجل بأخلص الشكر، وأجمل الحمد علي ذلك، ونعلن علي ملأ العالم أن مصر منذ اليوم دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال ونتخذ لنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها من مظاهر الشخصية الدولية وأسباب العزة القومية.
«وهانحن نشهد الله ونشهد أمتنا في هذه الساعة العظمي أننا لن نألو جهدا في السعي بكل ما أوتينا من قوة وصدق عزم لخير بلادنا المحبوبة والعمل علي إسعاد شعبنا الكريم.
«صدر بسراي عابدين في 16 رجب سنة 1340 (15 مارس سنة 1922) ــ رقم 18 سنة 1922»
«فـؤاد»
وكان هذا الأمر الكريم نهاية قصة طويلة وبداية قصة قصيرة .. الأولي: بدأت قبل 117 سنة، وعلي وجه التحديد في عام 1805، بعد أن تولي محمد علي باشا حكم مصر، ونجح من خلال صراعات دموية مع السلطان العثماني في أن يجعل الحكم وراثيا في أسرته، مما تقرر بمقتضي تسوية 1840 ــ 1841، والثانية: انتهت بعد 31 عاما حين ألغي النظام الملكي عام 1953، بعد قيام ثورة يوليو بأقل من سنة واحدة.
وقد تعددت ألقاب الحاكم من أبناء الأسرة العلوية خلال المرحلة الأولي؛ باشا، خديو، سلطان، وكان لكل من هذه الألقاب قصة ..
اللقب الأول تمتع به كل من محمد علي وإبراهيم وعباس الأول وسعيد وإسماعيل، وكان هو ذات اللقب الذي يتمتع به سائر ولاة الإمبراطورية العثمانية حيث انتشر الباشوات في عديد من أرجاء الإمبراطورية العجوز، ولم يكن الأمر مناسبا بالنسبة لمصر بعد أن حصلت علي وضعية خاصة مغايرة لوضع الولايات الأخري بعد حروب الشام خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
حاول إسماعيل (1863 ــ 1879) أن يجعل لقب الحاكم من أبناء الأسرة متفقا مع هذه الوضعية المغايرة، وهو ما نجح فيه بعد أربع سنوات من اعتلائه لكرسي الحكم في مصر حين حصل من الباب العالي علي حق التلقيب بالخديو ضمن مزايا عديدة نالها من السلطان العثماني، الأمر الذي أصبحت معه مصر دولة شبه مستقلة.
صحيح أن هذا الحاكم الأشهر في التاريخ المصري الحديث قد دفع «دم قلبه»، أو بالأحري «دم قلب مصر» للحصول علي تلك المزايا، غير أن ما فعله، وإن زاد من حجم الديون وقاد في النهاية إلي زيادة التدخل الأجنبي وخلعه عن مسند الخديوية، فقد أدي إلي تقطيع كثير من روابط التبعية بين بلاده وبين الدولة العلية، الأمر الذي قاد صاحبنا إلي أن يتصرف في كثير من الأمور كحاكم مستقل .
من تلك الأمور، فيما يتصل بوصفه حاكما، أن الرجل كان أول من طبق فكرة البلاط Court التي كانت قد عرفتها أوربا مع قيام الممالك القومية خلال القرن التاسع عشر، والتي بلغت أوجها في عصر الملك لويس الرابع عشر في فرنسا (1643 ــ 1715)، وهو ما بدأ إسماعيل في القيام به بعد بناء عدد من القصور، وانتقاله بعد فترة غير طويلة من القلعة، من حيث كان يحكم الباشوات إلي سراي عابدين، التي أصبحت مقرا للحكم وموضعا للمناسبات الاجتماعية ومؤسسة لها موظفوها الذين عرفوا برجال القصر.
الملاحظ أن هذه المؤسسة ظلت تنمو علي عهد خلفاء الخديو المرموق، ويقدم لنا أحد رجالها، أحمد شفيق باشا، وصفا تفصيليا لها في كتابه المعروف «مذكراتي في نصف قرن» نتعرف من خلاله علي كثير من تفاصيل هذا البلاط الذي اكتسب اسما عربيا .. «المعية السنية»، أي أولئك العاملين (مع) سيد قصر عابدين، والذي تميز عن سائر باشوات الدولة بلقب صاحب السمو الخديو المعظم.
التسمية الثالثة لحكام مصر من أبناء أسرة محمد علي أطلقت في أواخر عام 1914، نتيجة لهذا الحدث الجلل الذي تمثل في إعلان الحماية البريطانية علي مصر وقطع علاقة التبعية القانونية التي ظلت تربط بينها وبين حكومة الآستانة بامتداد القرون الأربعة السابقة منذ أن نجح السلطان سليم الأول في دخول القاهرة عام 1517 .
وقد جاءت هذه التسمية بعد قرار حكومة لندن خلع الخديو عباس حلمي الثاني الذي لم تطمئن إلي بقائه علي عرش البلاد بعد تاريخه الحافل بالصراعات بينه وبين ممثلي الدولة المحتلة في العاصمة المصرية، وبعد أن بدا صعوبة زحزحة ولائه للدولة العثمانية التي كانت قد دخلت وقتئذ الحرب العظمي في صف المعسكر المعادي لبريطانيا والمعروف بدول الوسط.
التسمية كانت (بالسلطان)، والتي لم تأت اعتباطا بل بعد مشاورات عديدة بين إدارات وزارة الخارجية البريطانية من جانب، وبين الأمير حسين كامل، ابن إسماعيل وعم الخديو المخلوع، والمستر شيتام Cheetham ممثل الحكومة البريطانية في القاهرة، وذلك بعد أن تم ترشيح الأمير ليحل محل ابن أخيه القابع في الأستانة.
فمن ناحية: لم يكن مقبولا أن يتسمي الحاكم المصري الجديد بالخديوي بعد إنهاء التبعية المصرية للدولة العلية بحكم تركية اللقب، مما كان يشير إلي أن استمراره يعني الإبقاء علي أحد مظاهر تلك التبعية، هذا فضلا عن تخوف السلطات البريطانية من أن تسمية الحاكم الجديد بنفس اللقب قد يعني وجود «خديويين» وما يمكن أن يترتب علي ذلك من البحث عن الشرعي بينهما، وهي مقارنة يمكن أن تنتهي بفوز عباس علي عمه، بحكم أنه حصل علي لقبه بفرمان سلطاني وليس بقرار من وزارة الخارجية البريطانية.
من ناحية أخري: إمعانا في قطع العلاقات بين القاهرة والأستانة فقد تقرر أن يكون اللقب البديل للحاكم المصري الجديد «السلطان»، وهو نفس اللقب الذي يتمتع به الإمبراطور العثماني، مما كان يعني ببساطة استحالة وجود «سلطانين» في دولة واحدة.
غير أن الحاكمين، الجالس علي عرش الدولة العلية والجالس علي عرش مصر، قد اختلفا في ألفاظ التفخيم الملحقة باللقب، فبينما كان سلطان الأستانة «صاحب جلالة»، لم يحظ سلطان مصر سوي بوصف «صاحب العظمة»، وهي تسمية لها قصة..
ذلك أنه بعد إعلان الحماية، وبعد حصول حسين كامل علي لقب السلطان جرت مشاورات حول خيارات التفخيم التي تلحق باللقب .. صاحب الجلالة، وهو الخيار الذي استبعد حيث رأي المسئولون البريطانيون عدم لياقة أن يتمتع حاكم البلد المحمي بنفس لقب ملك بريطانيا، وهي الدولة الحامية، أو أن يبقي لفظ التفخيم صاحب السمو، وهو ما رفضه البرنس حسين كامل بحكم أن عديدا من أمراء الأسرة الحاكمة يتمتعون بهذا اللقب، وأنه من الأفضل أن يتميز عنهم بتفخيم مغاير، وجاء اختيار تسمية صاحب العظمة بمبادرة من حسين كامل نفسه، ولم تجد الخارجية البريطانية بأسا في القبول بها.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.