تسوء ظروف نمو المحاصيل الزراعية في آسيا الوسطى بسبب فترات الجفاف الطويلة والتربة الشديدة الملوحة.
وهو ما دفع باحثين في مدينة بون الألمانية لاستحداث أصناف من القمح ذات عوائد حصاد كبيرة حتى في مثل هذه الظروف القاسية.
رغم وجود مساحات كافية للزراعة في أوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وتوفر تربة خصبة مناسبة لزراعة المحاصيل تبرز مشكلة الملوحة الشديدة الموجودة بشكل طبيعي في مياه أنهار هذه البلدان. ولا تنحصر هذه الأملاح على ملح الطعام (كلوريد الصوديوم) فحسب بل منها كميات هائلة من ملح كبريتي وهو كبريتات الصوديوم.
وقلما تهطل فيها أمطار خالية من الأملاح في فترات الجفاف الطويلة الممتدة لأشهر عديدة.
وهي عوامل جعلت الأملاح تتركز على مدى آلاف السنين في التربة ما أدى إلى نشوء ظروف سيئة لنمو المحاصيل الزراعية، ومن ذلك القمح. من جانب آخر أدى الإنتاج المكثف للقطن في الماضي، حين كانت تلك الدول ضمن الاتحاد السوفييتي، إلى استنزاف المياه وندرتها ونجم عنه تقلص مياه بحر آرال وتفاقم مشكلة ملوحة التربة. ومثل هذه الظواهر حفزت الباحثين في جامعة بون الألمانية لمحاولة إنماء حبوب زراعية ذات منتوج حصاد جيد حتى في مثل هذه الظروف الزراعية السيئة.
تحسين الخصائص بتهجين القمح البري مع المستنبت
طالب الدكتوراه سعيد دادشاني هو أحد الباحثين القائمين على هذه الدراسة العلمية في جامعة بون. يفتح سعيد باباً معدنياً ثقيلاً يوصل إلى غرفة مكيَّفة هوائيا تُجرى فيها تجارب استنبات القمح المقاوم للملوحة، وتسود في الغرفة شدة ضوئية مناسبة وحرارة 20 درجة مئوية ونسبة رطوبة 50 في المئة. وعلى طاولة في هذه الغرفة يتم استنبات بذور القمح وهي موضوعة "على أوراق فيها مسامات يُصَبّ على بعضها ماء دون ملح وعلى البعض الآخر ماء يحتوي على ملح ليتم بعد ذلك رصد مدى نموها" والتحقق من النتائج، كما يقول الباحث سعيد.
يقارن سعيد بين أنواع نباتات القمح الهجينة ليعرف أيّاً منها تتحمل الجفاف وتقاوم الملوحة.
ينحدر الباحث في علم الأحياء سعيد دادشاني من أفغانستان وتتركز تجاربه البحثية في جامعة بون على استنبات أصناف قمح خاصة. يقوم سعيد في بحثه بتهجين نوع قمح نباتي بري مع نوع آخر مستنبَت في حجرة التجارب. ورغم أن القمح الناتج عن التهجين لا يحب التربة المالحة لكن عوائده عالية من حيث وفرة المحصول. في حجرة التجارب المكيفة تنمو 160 نبتة من نباتات القمح الهجينة وفي وقت لاحق يظهر جيل ثانٍ وثالث ورابع من هذا الصنف الهجين.
زميل سعيد هو النيجيري بنديكت أوييغا الباحث في جامعة بون، وهو يجري تجاربه بشكل مختلف قليلا: فقد اختار 150 صنفا من أنواع قمح يختلف بعضها عن بعض اختلافا شديدا من حيث القرابة. ويستخدم طالب الدكتوراه بنديكت في بحثه ما يسمى بأحواض الاستنبات المائية. في حوضين بلاستيكيين يوجد فيهما ماء وحصى ويحتوي كل منهما على 150 نبتة، "وفي أحد الحوضين يحتوي الماء على ملح في حين لا يتضمن الحوض الآخر أملاحاً. وفي كل ساعة تملأ مضخة من الخزان الحوض بالمياه وتستغرق العملية نحو 15 دقيقة ليمتلئ كل حوض امتلاءً كاملاً. وبعد ذلك يتدفق الماء رجوعيا من جديد إلى خزان المياه. وتتكرر هذه العملية لمدة ثلاثين يوماً"، كما يقول الباحث بنديكت.
محاكاة الجفاف
وفي تجربة ثالثة بمنطقة كلاين ألتِن دورف على بعد عشرين كيلومترا من جامعة بون يعمل الباحثون على محاكاة ظروف الجفاف ساعين لتطوير أصناف زراعية تتحمل مواسم انقطاع المياه. ففي أحد حقول المنطقة بنى الباحثون حجرة زجاجية عملاقة تحتوي على مئات الأصناف التجريبية الهجينة من نباتات القمح، ويَحُول سقف الحجرة الزجاجي دون تدخل مطر السماء المتساقط ودون تغيير نتائج التجارب.
قياس زاوية ميلان جذر النبتة: زاوية ميلان جذر النبتة يعطي معلومات حول مدى جودة انغراس الجذر في المياه العميقة.
استنباط المعلومات من جينات النباتات
التجارب الثلاث التي قد تبدو مختلفة لأول وهلة لكن لها هدف واحد كما يقول سعيد وبنديكت وزملاؤهما في الفريق البحثي. فهم يسعون لمعرفة أيةٍ من هذه النباتات الهجينة تتمتع بقدر عال من مقاومة ملوحة التربة وتحمل جفاف المناخ وفي الوقت ذاته تتمتع بحصاد زراعي كبير. ويقول سعيد في هذا السياق: "نحن نراقب تطور نمو النباتات من حيث عدد الجذور وأحجامها وكثافتها وعدد أوراق النبات وأطوالها وما إلى ذلك من الخصائص الأخرى التي نحتاج إليها في إحراز قياساتنا ومقارنة النتائج".
وبعد مقارنة هذه القياسات يتم أخذ عينات من النباتات الأفضل من حيث الخصائص وإرسالها إلى المختبر حيث يتم استنتاج نتائج البحث الحقيقية بتفحص أحماضها النووية (دي إن إيه) الذي يتألف من جينات وراثية مميزة لكل نوع على حدة. ويقوم الباحثون، في عملية معقدة للغاية ومتطلبة للكثير من الوقت والجهد، بتمثيل معلومات الجينات على شاشات الحواسيب بترميزات ملونة مميزة لكل نوع من الأصناف المرغوبة. ويعرفون ويحللون ويحددون بذلك الصفات الوراثية لنباتات القمح الأكثر مقاومة للأملاح والأشد تحملاً للجفاف.
النيجيري بنديكت مع زملائه في أحد حقول أوزباكستان أثناء اختبار النباتات المقاومة للجفاف والملوحة.
العثور على إبرة في كومة من القش
يقول البروفيسور جينس ليون إن فريقه في جامعة بون توصل حتى الآن إلى نتيجة مثيرة للاهتمام بل ومذهلة. ويضيف موضحا: "اكتشفنا صنفاً وحيداً (من نباتات القمح) قادراً على مقاومة المحتوى العالي للأملاح وأيضاً يتحمل موجات الصقيع الشديدة" دون درجة الصفر. وهذه نتيجة مهمة في الظروف الحقيقية لبلدان وسط آسيا التي تتعاون جامعاتها أيضاً مع جامعة بون. ويضيف بابتهاج: "اكتشافنا يشبه العثور على إبرة في كومة قش".
لكن البحث العلمي للحصول على نباتات مقاومة للملوحة والجفاف لم ينته بعد بهذا الاكتشاف كما يقول زميله البروفسور أغيم بالفورا، ويشدد على ذلك قائلاً: "ليس هناك نبات مثالي، تماماً مثل البشر ليس فيهم إنسان مثالي". إذ يتطلب كل نوع من أنواع التربة وكل شكل من أشكال المناخ والطقس مواصفات نباتية وراثية جينية معينة. ولذلك ليس من المجدي تماماً السعي لاستنبات أصناف غذائية للبشر قادرة على النمو بكميات وفيرة في كل أنواع التربة وأشكال المناخ الموجودة على الأرض إلا بتوفر أعداد هائلة من الصفات الوراثية الجينية التي بإمكان الباحثين من خلالها استخلاص نباتات غذائية قادرة على التكيف مع ملوحة التربة وجفاف المناخ في أنواع التربة وأشكال الطقس المختلفة.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.