«الغالى علينا غالى ولا عمره هيتنسى»
سيد مكاوى أحد أهم الموسيقيين الذين عرفتهم مصر والوطن العربى فى تاريخ الغناء، وصاحب رصيد كبير من الألحان والأغانى التى تركت أثرا كبيرا فى نفوس المستمعين، وأصبحت علامات لا يمكن إغفالها أو نسيانها، بصوته كانت أو بأصوات كبار المطربين على اختلافهم، محولا أصعب القصائد والأشعار إلى مادة صوتية عذبة، وكان له الفضل الأول فى وضع أساس لحنى خاص لتقديم المسحراتى، وله أيضا الفضل فى وضع أساس لتقديم الأغانى الجماعية بالإذاعة، وأول من لحن أغانى المجاميع. ترك مكاوى من ورائه – بجانب أرشيفه الموسيقى- تاريخا ملهما، من لحظة ميلاد وسط أسرة شعبية بسيطة، تعيش داخل حارة صغيرة بحى عريق فى منطقة تاريخية، قبودان بالناصرية فى السيدة زينب، يوم 8 مايو عام 1928.
كان طفلا حلوا، هكذا تراه أمه حسبما قالت فى حوار نادر معها بمجلة «الموعد»: «عيناه عسليتان ودموعه سريعة»، وهذا أحد أسباب فقدان بصره، ففى ليلة وفاة والده بكى كثيرا بلا توقف، حتى ابيضت عيناه، وفى المستشفى أخبروها أنه صار كفيفا.
كانت أمام مكاوى فرصتان ليستعيد نظره ورؤية العالم، الأولى يوم قرأت الأم بإحدى الجرائد خبرا عن «بنك العيون»، الذى أنشأته الدولة لإعادة البصر إلى الذين حرموا رؤية النور، ففكرت أن تتبرع بإحداهما، والثانية عندما عرضت عليه الدولة فى زمن عبدالناصر التوجه إلى الاتحاد السوفيتى لإجراء جراحة ربما تعيد له نظره –حسب رواية ابنته أميرة فى حكاية عن والدها- لكنه رفضهما، خوفا على أمه مرة، وخوفا على خياله فى أخرى، قائلا بسخريته المعهودة: «يعنى أنا متخيل الشجرة حاجة، أفتح ألاقيها حاجة غيرها؟ أتصدم فيها ليه؟ الحمار مثلا أفتح أنا ألاقيه حاجة تانية، أقوم أزعل منه وأنا بحبه؟».
لم تنتهِ حكايات الأم عند رغبتها فى التبرع بالعين لابنها سيد، فاكتشافها المبكر لصوته العذب، وقدرته الهائلة على حفظ الموشحات والابتهالات الدينية دفعتها لشراء عشرات الأسطوانات لابنها من بائعى الروبابيكيا، ليسمعها ويحفظها ويرددها وتكون هى أول مريديه، ومن بعدها صار شغوفا بالغناء، حتى إنه أول ما تقدم للإذاعة المصرية فى الخمسينيات تم اعتماده كمطرب، ليقوم بغناء التراث الشرقى من أدوار وموشحات، ومن بعدها تم تكليفه بغناء ألحان خاصة فقدم «محمد» من ألحان عبدالعظيم عبدالحق، و«تونس الخضرا» من ألحان أحمد صدقى، وهما الأغنيتان الوحيدتان التى غناهما سيد مكاوى من ألحان غيره.
فى منتصف الخمسينيات، اعتمدت الإذاعة مكاوى كملحن، وبدأ فى التعامل معها بجانب كونه مطربا، وقدم العديد من الأغانى الدينية، مثل «تعالى الله أولاك المعالى، آمين آمين، يا رفاعى يا رفاعى قتلت كل الأفاعى، وحيارى على باب الغفران».
قدم مكاوى أيضا فى تلك الفترة بعض الأغانى الشعبية التى حظيت بمكانة كبيرة بين المستمعين، ووضعته تحت أنظار كبار الملحنين والمطربين آنذاك، ووصفوه بامتداد سيد درويش وزكريا أحمد، فى شدة بساطتهما وعمق مصريتهما، ولعل أهم هذه الأعمال أغنية شريفة فاضل «مبروك عليك يا معجبانى يا غالى» و«اسأل مرة عليا» لمحمد عبدالمطلب.
تهافت عليه المطربون بعد هذه المرحلة، وصارت أواخر الخمسينيات والستينيات نقلة جديدة فى حياته الفنية المليئة بالعذوبة، فقدم للمطربة الكبيرة ليلى مراد «حكايتنا إحنا الاتنين»، وللمطربة شادية «هوى يا هوى ياللى انت طاير» و«همس الحب يا أحلى كلام»، ولنجاة الصغيرة «لو بتعزنى» ولصباح «أنا هنا يا بن الحلال»، حتى كانت المفاجأة الكبرى بطلب أم كلثوم منه تلحين أغنية «يا مسهرنى» فى مطلع السبعينيات، لتصبح واحدة من أشهر أعمالها وأجملها فى مسيرة طويلة لا تعد فيها الأغانى الحِسان ولا تحصى، كما كان من المفترض أن تغنى من ألحانه «أوقاتى بتحلو» إلا أنها رحلت قبل إتمامها، لتغنيها وردة الجزائرية، ومن بعدها جورج وسوف.
إهتم سيد مكاوى بقضايا الوطن العربى وشارك فى الكثير من المناسبات القومية المهمة، ففى أثناء عدوان 1956 قدم أغنية «حنحارب حنحارب كل الناس ح تحارب»، وفى حرب 1967 وعقب قصف مدرسة بحر البقر قدم أغنية «الدرس انتهى لموا الكراريس» للفنانة شادية، وبعد قصف مصنع أبوزعبل قدم أغنية جماعية هى «إحنا العمال اللى اتقتلوا» والأغنيتان للشاعر صلاح جاهين.
إشترك مكاوى فى بداية الستينيات فى الحفل الذى أقيم بأسوان احتفالا بالبدء فى بناء السد العالى بحضور جمال عبدالناصر ورئيس الاتحاد السوفيتى نيكيتا خروشوف والرئيس السورى شكرى القوتلى وكذلك نخبة من رواد الفضاء الروس ومعهم «فالنتينا» أول رائدة فضاء، حيث غنى أغنية ترحيب بها من كلمات صلاح جاهين وهى «فالنتينا.. فالنتينا.. أهلا بيكى نورتينا».
شهد عام 1969، بداية اشتراك سيد مكاوى بتقديم ألحانه للمسرح الغنائى والذى كان كثيرا ما يحلم به، بأوبريت «القاهرة فى ألف عام»، واستمر تألقه فى هذا النوع سنوات طويلة قدم خلالها أشهر الأعمال منها «الحرافيش» و«الليلة الكبيرة» التى أعيد تسجيلها لمسرح العرائس وحققت نجاحا غير مسبوق، بجانب تقديمه لـ«المسحراتى» مع الشاعر فؤاد حداد فى الإذاعة المصرية.
إستمر بريق مكاوى ينير المدينة المليئة بالتحولات والأزمات فى سنوات صعبة بين ثورة وحروب ومعارك فى مواجهة العدو، واستطاع حتى الانتصار على انكساراته الخاصة أمام محبيه، أبرزها رحيل صديق عمره صلاح جاهين، إلا أنه بينه وبين نفسه بقى متأثرا بحضرته إلى الحد الذى شاء فيه القدر أن يرحل فى نفس يومه، 21 إبريل، بعد 11 عاما بالتمام، وكأنه اختار ميعاده بنفسه ليواكب نفس الذكرى، ويجمعهما سطر واحد فى «حدث فى مثل هذا اليوم».👌
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.