المدينة تتلألأ وتسطع أنوارها .. كان مشروع إنارة بيوت وشوراع مدينة بورسعيد من أهم القضايا التى تشغل بال المسئولين فى المدينة ، بالطبع سوف يساعد على ازدهار المدينة ورواج التجارة بها ، واستمتاع الأهالى بحياة جديدة ..
وكان استخدام غاز الإستصباح فى الإنارة هو المتاح وقتئذ حيث تستمتع بإستخدامه المدن الكبرى كالقاهرة والأسكندرية ..
وقد اضطلع " مسيو مونورى " بهذا المشروع الحيوى بعد دراسة مستفيضة قام بها ، وخاصة أن العائد من هذا المشروع كبير ، فقام بتوقيع عقد من شأنه انارة شوارع المدينة بواسطة غاز الإستصباح مع الحكومة المصرية وتعهد بمقتضاه بهذا الأمر ، وعلى الفور قامت الحكومة من جانبها بمنحه قطعة أرض لإقامة المنشآت اللأزمة للمشروع بلغت مساحتها خمسة آلاف متر مربع .
ونص البند الأساسى فى العقد على عدة شروط منها أن يكون " الوابور " الخاص بالعمل جاهزاً أعتباراً من يوم 23 أبريل 1875م .
بدأ العمل على قدم وساق من أجل إنجاز هذا المشروع التاريخى ليزيد وجه الحسناء الجميلة رونقاً وتزدان به الشوارع والميادين ، إلا أن الرياح جاءت بما تشتهى السفن فتأخر العمل لأكثر من عام ولكن التشغيل الفعلى بدأ فى يوم 27 أكتوبر 1876م بعد نجاح أول تجربة للتشغيل فى اليوم السابق عليه.
بورسعيد باريس الشرق
فى بادئ الأمر تم انارة المدينة بواسطة 201 فانوساً وضعت فى الميادين العامة والشوارع الرئيسية ، وبالطبع تم إنارة ديوان المحافظة وبعض المواقع الهامة التابعة لها مثل الجمرك فيما عدا قرية العرب التى تم استبعاد اقامة عشرين فانوساً لإنارتها .
وقد جذب مشروع إنارة المدينة اهتمام العديد من الهيئات والإدارات فقام وكيل مكتب التلغراف بطلب تقدم به إلى ادارة عموم المرور بضرورة إنارة المكتب بالغاز وتم بالفعل تركيب أربع لمبات فى المكتب بلغت تكلفتها عشرة جنيهات مصرية وكان استهلاك المكتب من الغاز شهرياً يبلغ 92 قرشاً .
لم يمر وقت طويل حتى تقدم وكيل قنصلية هولندا هو الآخر بطلب مماثل لإنارة الشوارع الموصلة للقنصلية على نفقة الحكومة المصرية ، ولكن تأجل تلبية طلبه قليلاً لحين الإنتهاء من تسوية الحسابات مع متعهد الإنارة .
ومن الملاحظ أن الطريقة التى تمت بها انارة مدينة بورسعيد اختلفت تماماً عن الطريقة التى اتبعت فى القاهرة والأسكندرية ، لأن المبانى فى بورسعيد كانت خفيفة وأكثرها كان مشيداً بالأخشاب بينما كانت فى العاصمة والثغر تشيد بمواد البناء ، ولهذا كان من العسير تنفيذ تركيب الأعمدة والكوابيل على الحوائط الخشبية أو على أعمدة حديدية ، لذا قامت شركة الغاز بإنشاء أعمدة خشبية فى الشوارع الكبرى ببورسعيد ولكن المحافظة رأت أن ذلك لا يليق بمدينة جميلة مثل بورسعيد .
أحيل الأمر موضوع الخلاف إلى القضاء المختلط للبت فيه إلا أن الحكومة المصرية اقتنعت تماماً بأن المبانى الموجودة فى المدينة هى مبانٍ مؤقتة ، وبالتالى يصبح من الممكن تغيير مثل هذه الأعمدة الخاصة بالإنارة بعد تجديد المبانى وتنظيمها تدريجياً مع إلتزام الشركة بتغيير هذه الأعمدة مستقبلاً .
ولمتابعة استهلاك الغاز وإمكانية محاسبته وفرت الشركة عدادات خاصة لحساب الإستهلاك تم تركيبها فى أماكن استخدام اللمبات أو الفوانيس وكان الإستهلاك يسجل فى كشوف لابد وأن يقوم السيد مفتش البوليس بالتوقيع عليها وإعتمادها .
حي العرب زمان
كانت تعريفة الإستهلاك فى هذه الآونة مرتفعة بسبب التكاليف التى تم أنفاقها على المشروع منذ بدايته .
ومن الطريف أن نجد أن كشف حساب استهلاك الغاز فى الفترة من يوم 27 أكتوبر 1876م تاريخ بدء الإنارة وحتى نهاية آخر أيام الشهر التالى (نوفمبر) يسجل ما بلغت قيمته أكثر من 4432 فرنكاً .
وفى المقابل كانت الحكومة عاجزة عن فرض فوائد على الإنتفاع بـ " فوائد إنارة مدينة بورسعيد " فمعظم السكان المقيمين بها كانوا من الأجانب فى حين كان عدد الأهالى أقل بالنسبة لهم .
وهنا وجدت الحكومة المصرية نفسها تقع فى مازق شديد لا محالة ولابد لها من الخروج منه لأنها لم تشأ فرض رسوم فوائد الإنارة على الأجانب لأنها تخشى من عدم انصياعهم لأوامرها او تنفيذ تعليماتها على الرغم من أنهم هم الغالبية العظمى من جمهور المستهلكين كما انهم كانوا يتمتعون بإمتيازات لا حصر لها فى كل أنحاء المدينة ، وكانوا بالتالى يرفضون دفع أى مبالغ مقابل مايتمتعون به من خدمات ، بل ويصل بهم الحال إلى التعلل بأن مثل هذه الأمور من اختصاص الحكومة المصرية ويجب عليها القيام بها أكثر منهم.
شارع التلاثيني ومسجد التوفيقي ويلاحظ انه رغم عدم رصف الشوارع الا ان هناك تنظيم لأماكن البناء
ومن هنا كانت المبالغ المطلوب سدادها من قبل محافظة بورسعيد لتسديد قيمة مبالغ الإستهلاك لشركة الغاز على مدار الشهر المنصرم تسدد فعلياً قبل غروب يوم الثامن من الشهر التالى دون تجاوز الموعد المضروب للسداد حتى لوكان السداد يتم على حساب الصرف من إيراد اعتمادات سابقة .
وهنا كان العبء يقع على كاهل المستخدمين فى عموم المحافظة ، قالحكومة التزمت بالسداد من حساب الخصم من أجورهم ورواتبهم خشية أن تقع الحكومة تحت طائلة القانون أو أن تقاضيها شركة الإنارة أمام القضاء المختلط.
ما أشبه الليلة بالبارحة ، ألا يحق لنا أن نتعجب فى حال المواطن المصرى الذى ناء كاهله بأحمال لا حصر لها ، ولكن حب الوطن فرض علينا لا نتنازل عنه ولا نفرط فيه .. ولله الأمر .
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.