لو تأخر الحاج احمد لحظه واحده ....
كان من المتوقع ان يكون اخر شخص في بورسعيد يحارب و يستشهد في المعركه الرهيبه التي دارت بيننا و بين القوات المعتديه في شارع محمد علي
انه الحاج احمد الزند كان اهل بورسعيد يعرفونه جميعا هو شيخ اشرف علي السبعين لا يسير الا حاملا عصاه الغليظه التي يتوكأ عليه اثناء خروجه من بيته الي المسجد العباسي او خلال عودته من المسجد الي البيت.
شارع 23 يوليو ببورسعيد عام 1956 أثناء العدوان الغاشم على بورسعيد حيث تظهر آثار القصف والدمار على مباني الشارع
كان الحاج احمد و اسرته يقطنون في عماره القطاوي الواقعه عند تقاطع شرعي محمد علي و صفيه زغلول و علي بعد خمسين متر من العماره يقع المسجد العباسي و قد كانت توجد مساحه من الارض امامه تفرش بالسجاد ايام الجمعة.
شارع عرابي بجوار سور نادي المعارف ببورسعيد عام 1956 أثناء العدوان الغاشم على المدينة الباسلة
إن اهل بورسعيد لا يذكرون ان الحاج احمد تخلف عن الصلاه يوما واحدا بل و لم ينقطع عن المسجد حينما كانت الطائرات تقذف بورسعيد بنيرانها.
لقد كانوا يحاربون حتى الموتى ببورسعيد 56
لقد تحولت كل الاماكن المقدسه وحتى المقابر الي اهداف عسكريه في نظر المعتدين و كانت اخر مره صلى فيها الحاج هي فجر يوم الثلاثاء في ذلك اليوم بدأت الطائرات الفرنسيه تقذف المدينه بجنون و وحشيه و اضطر الرجل لاول مره في حياته الي ان يعتكف في بيته مع اولاده و ظلت نوافذ بيته كلها مغلقه كان يجلس في ضوء شاحب لشمعه صغيره مع اسرته نظرا لانقطاع التيار الكهربائي عن المدينه.
جرحى من أبناء بورسعيد الباسلة يوم 20 نوفمبر 1956 ، وهم يفترشون الأرض داخل صالة محطة سكك حديد بورسعيد انتظارا للقطار الذي سينقلهم إلى القاهرة
و فجأه انتفض و سأل زوجته "فين الاولاد سامي و صالح"
و في عينيها دموع تحاول اخفائها " نزلو امبارح الصبح عشان يقدموا نفسهم لجيش التحرير و من ساعتها مارجعوش"
و هنا حول الرجل بصره الي ابنه الواقف بجواره " انت ماتعرفش عنهم حاجه يا بيومي يكونش جرى ليهم حاجه امبارح واحنا مانعلمش".
و رد عليه بيومي بلهجه مطمئنه "لا ابدا انا شفتهم النهارده الصبح و كنت رايح اخد سلاح و احارب وياهام لكن صالح اتخانق معايا و قال لازم حد يستنى في البيت"
"و ماتعرفش هما موجودين فين دلوقتي"
"انا سمعت ان هما كانو بيحاربوا علي الشط الصبح و الساعه دلوقتي اتنين و اظن ان هما قربوا مننا شويه لان صوت الرصاص قرب مننا خالص "
و نظر الرجل الي ابنه مليا ثم اتجه الي باب البلكونه التي تطل على محمد علي و كان مغلقا ففتحه و اخذ يتطلع الي الشارع .
و همست زوجته "حاسب يا حاج اقفل باب البلكونه" و لكنه لم يعبأ بكلامها كانت هناك دبابتان تسيران و من خلفهما حوالي مأتين من جنود الاعداء و علي مسافه قريبه يكمن صف من المجاهدين يرقد خلف سور المسجد العباسي الذى يرتفع عن الارض بحوالي نصف متر فقط كان هناك خمسون شابا تقريبا بخلاف عشرون آخرون وقفوا يحاربون خلف متراس ضخم اقيم بعرض الشارع و شاهد الحاج منظرا غريبا جعله يبكي لاول مره في حياته اخذت الدبابه تقذف المتراس الضخم فتتناثر اشلاء المحاربين معه فتحاول بقيه المحاربين خلف المتراس ان تسد الثغره التي احدستها القذيفه و الدبابات ايذاء هذا لم يمكنها ان تتقدم شبرا واحدا لقد كانت المقاومه عنيفه برغم ان النار كانت مشتعلة في جزء كبير من شارع محمد علي و كان جنود الاعداء لا يستطيعون ان يحتمون بمنازل هذه المنطقه خوفا من اللهب المندلع كم انهم كانو في رهبه من التقدم خوفا من الرصاص الذي ينطلق عليهم من كل ناحيه و من كل شارع و أحس الحج احمد بنشوه غريبه عندما شاهد الجنود الانجليز و الفرنسيين يتساقطون صرعى برصاص ابناء المدينه.
البطولات النسائية فى بورسعيد لا تحتاج الى تعريف الا انني اقول ان كل سيدات بورسعيد كانوا فدائيات بمعنى الكلمة
إقترب منه ابنه بيومي و نظر الي الشارع فرأى المحاربين من ابناء بورسعيد من ظهورهم و لمح شقيقيه يرقدان بخلف سور المنزل و بيد كل منهم مدفع رشاش يومض بأستمرار و صاح بيومي "سامي و صالح اهم يا حاج" و حدق الرجل في السور و تركز بصره علي ولديه و هما يقاتلان وانطلقت من فمه الادعيه و الصلوات.
و فجأه ساد الشارع سكون رهيب فنظر بيومي نظره لآخر الشارع فشاهد اكثر من ثلاثمائة جندي انجليزي يتقدمون من ناحيه الشاطئ لتعزيز القوه التي تحاول اقتحام شارع محمد علي و لمح شاب يقفذ من بين انقاض المحافظه و يقذفهم بقنبله يدويه فسقط منهم عدد كبير وصوبوا نيرانهم نحوه فأردوه قتيلا و تابع الجنود تقدمهم بعد ان نقص عددهم نقصا ملحوظا حتي وصلو الى مواقع زملائهم المحاصره و انبطحو علي الارض و لم يطلقوا رصاصه واحده و اثار هذا دهشه الحاج.
و فجأه احس الحاج احمد بحركه فوق سطح المنزل سمع ازيز طائره حيث كانت شقته تقع في الدور الرابع و بينها و بين السطح دورين اخريين و نظر لأبنه بيومي فوجده ينظر هو الاخر اليه و مرت خمس دقائق انطلق بعدها مدفع رشاش علي باب شقه الحاج و صرخ الاولاد و حضنوا امهم التي اخذت تحدق في وجه زوجها و ابنها التي ازهلتهما المفاجأه ثم سمعوا وقع أقدام خائفه تجتاز ردهة الشقه ثم فتح باب الغرفه التي كانو بها بعنف و برزت منه فوهة مدفع رشاش و من وراءها اطل وجها احمر و بعد لحظات امتلئت الغرفه بعدد من جنود الاعداء كان بعضهم انجليزين و البعض الاخر فرنسيين و قد طلب الجندي الذي دخل اولا من الموجدين رفع ايديهم فوق رؤسهم حتى الاطفال طلب منهم ذلك ايضا و امرهم بعدم التحرك و كان يتحدث العربيه بطريقه سقيمه و لمن ينسى الحاج ان يسند عصاه العزيزه لجانبه قبل ان يرفع يديه الي اعلي و تقدم قائد القوه و كان انجليزيا و دار بعينيه في الغرفه و فوهة مدفعه تدور مع عينيه ثم لمح باب الشرفه فتقدم منه و نظر من خلاله بمنظار مكبر كان يعلقه في رقبته و شاهد صفوف المجاهدين خلف المتراس و عندها التفت و تحدث الي بقيه الجنود لمح الحاج احمد في عينيه نظره خبيثه غادره و في الحال ادرك الخطه الدنيئه التي حدثت لأقتحام الشارع.
لقد ارسلو جنودهم بطائرات هليكوبتر الي ما وراء خط دفاع المقاتلين في المدينه ليدحروهم من ظهورهم و يحتلوا الشارع دون اي مقاومه و يعرف الحاج ان ولديه بين هؤلاء الذي سيطلق الرصاص علي ظهورهم و بصوت مبحوح من الالم المكتوم طلب من الجندي التي يتحدث العربيه ان يدخل الاطفال مع امهم غرفه اخرى حتي لا يشهدوا علي الاقل اعدام سامي و صالح و رفض الجندي و امره بالسكوت و تقدم منه جندي اخر يحمل مدفعا رشاشا و رقد علي وجهه و صوب مدفعه من بين فتحات البلكونه و انتظر الأمر بالضرب من القائد الذى كان لا يزال ينظر بالمنظار المكبر و طلب منه قائده الغادر ان يوجه مدفعه الي اليسار و ان يحصد به صف المقاتلين الذين خلف المتراس و خلف سور المنزل و استعد الجندي و صوب مدفعه الي الهدف و في اللحظه التي امره فيها قائده بالضرب ارتفعت عصا الحاج عاليه و هوت بعنف و قوه فوق رأس الجندي الذي كان قد بدأ يطلق الرصاص و لم يكن الجندي قد اطلق سوى رصاصتين فقط استقرا في ظهر احد الفدائين الواقفين خلف المتراس و التفت الجندي بسرعه مذهولا و بيديه المدفع الرشاش و اطلق منه رصاصتين اخرتين و سقط الحاج احمد امام زوجته و اولاده مدرجا في دمه و التفت الجندي مره ثانيه ليكمل قتل بقيه الفدائين ولكن الموقع كان قد خلي منهم تماما حيث تنبهوا الي ان هناك من يطلق الرصاص عليهم من الخلف فاخلوا الموقع فورا و انطلقوا الي موقع اكثر امانا.
و لو تأخر الحاج احمد عن ضرب الجندي بعصاه لحظه واحده لما بقي منهم شابا واحدا يدافع عن بورسعيد
مصطفي شردي
آخر ساعة العدد 1157 فى 26 ديسمبر 1956
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.