Free Web Submission http://addurl.nu FreeWebSubmission.com Software Directory www britain directory com education Visit Timeshares Earn free bitcoin http://www.visitorsdetails.com CAPTAIN TAREK DREAM: غني يا سمسمية لرصاص البندقية

Friday, March 9, 2012

غني يا سمسمية لرصاص البندقية

غزالي.. أغنية في القلب و"بارودة" في الذراع 


السمسمية .. الآلة التي قدم بها أولاد الأرض أغانيهم أثناء حرب الاستنزاف

"غني يا سمسمية 

لرصاص البندقية 

ولكل إيد قوية 

حاضنة زنودها المدافع 

….. 

غني للمدافع 

وللي وراها بيدافع 

ووصي عبد الشافع 

يضرب في الطلقة مية 

.....

هذه الأغنية وغيرها كان وراءها الملتحف بسُماره ونبله العنيد الضارب في الزمان نيفا وسبعة عقود، المولود في جنوب مصر، الشاعر والفدائي والرياضي والرسَّام "محمد أحمد غزالي"، الذي يؤكد في كل حواراته أن أهم هواياته: جمع الأصدقاء والنهي عن البكاء على الأطلال. 

اشتهر بـ"الكابتن" بين أوساط المثقفين والمحبين، وُلِد في "أبنود" في العاشر من نوفمبر عام 1928م، ويعيش –متعه الله بالعافية- بالسويس منذ أمد، مناضلاً ومكافحًا للاستعمار فترة الاحتلال، وشاعرًا يكتب الأغاني للفرقة التي كان على رأسها، واشتهرت به واشتهر بها؛ فرقة "أولاد الأرض". 

بعد الهزيمة.. "عايزين تغيير" 

كان اختلاف أشعار كابتن غزالي عن بعض معاصريه من الشعراء المشهورين يكمن في كون هذه الأشعار والأغنيات نتاجًا مباشرًا وطازجًا للأحداث العسكرية يشحذ الهمم ويقويها ضد العدو، إلا أنه كان لها دور على الصعيد السياسي الداخلي أيضًا. 

يقول الغزالي: كانت فرق المقاومة الشعبية أثناء حرب 1967م تقوم ببعض العمليات العسكرية، مثل إدخال الذخائر إلى الجيش المصري عن طريق معبر السويس، كما قمنا بتضميد الجرحى وعلاجهم، وكتبنا وغنينا القصائد الشعرية الشعبية التي لم تقف عند حد المعركة والبارود، بل طالبت بالبحث عن المتسببين في الهزيمة مثلما في أغنية "عايزين تغيير" التي خاطبت من خلالها الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" مطالبًا بتغيير شامل، كما كانت الأغنيات تشير إلى بعض الفاسدين مثلما في أغنية "أنا صاحي يا مصر" التي تم تلحين وغناء جزء منها في الفيلم المصري "حكايات الغريب"، وحين كانت العمليات الفدائية في أوجها في فترة الاستنزاف وقفت الأغنيات ساعدًا قويًّا يساند الجنود في معاركهم، مثل أغنية "هانحارب". 

مطلوبون داخل الناس 

غزالي ذلك الوطني الصامد ذو الـ 13 حفيدًا، وذو المرسم الشهير في مدينته، رفض ترك السويس أثناء عمليات التهجير الجماعي بعد حرب 1967م – شاهد عيان على أحداث مهمة يتكلم قليلاً ويبدع كثيرًا، وعن هذا قال في حواري معه: يقول الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- فيما يروى عنه: "إنما أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم" هذا الحديث الشريف يُعد إحدى أهم مرجعياتي في الكتابة الشعرية والعمل معا، فأنا أرى أن الكل –مثقفين وغير مثقفين- مسؤولون عن تصحيح كتابة التاريخ، خاصة الحديث منه؛ من أجل توصيله سالما غير مشوه إلى الأجيال القادمة. 

فإننا إذا ما وجدنا الناس وخاصة المثقفين يتقاعسون عن العمل الجماعي فإنهم يتحولون إلى ما يسمى "النخبة الثقافية"؛ مما يوصل إلى حد انغلاق الإبداع على أصحابه، إنني أرى أن الوصول إلى حقيقة مشتركة هو أكبر دور للمبدعين؛ حتى لا يكون هناك تكريس للخطاب الواحد.. إذن نحن مطالبون بالتواجد أطول مدة ممكنة داخل الناس، بتواضع لا باستعلاء لمجرد كوننا مبدعين.. شعراء أو قصاصين أو تشكيليين... إلخ. وفي المواقف التي تستدعي المغامرة يجب على المبدعين والمثقفين المبادرة؛ فإنني أرى أننا ليست لنا ذوات خاصة. 

التهجير.. "هاتقول السويس" 

لم تكن الهزيمة هي الغصة الوحيدة في قلب الوطن المصري آنذاك، كان للتهجير أثره الفاعل في النفوس والأشعار أيضا (والكلام لكابتن غزالي) فرغم خروج المواطنين من مدن القناة إلي باقي محافظات مصر، وخاصة القاهرة وما حولها، فإن فكرة تركك لبيتك مرغما ليست بالأمر الهين؛ فجاءت أغنيات "بكرة" و"ليه يا حمام" و"هاتقول السويس" و"غني يا سمسمية"… إلخ؛ دعما لفكرة الأمل في العودة، وإعادة البناء بعد الانتصار على العدو، وجنبا إلى جنب مع حرب الاستنزاف والصمود الشعبي والمقاومة؛ حيث لا مجال للبكاء بل للتواجد داخل صفوف الناس. 

يقول كابتن غزالي: أثناء فترة يونيو 1967 بدأت في تقديم الأمسيات الأدبية والسياسية لتوعية الجماهير مع زملائي في العمل الوطني آنذاك، كما كنا نغني للجيش الذي سيعبر إلى سيناء، ونحن في انتظار عودته. وأثناء ذلك عرفنا بالهزيمة قبل غيرنا؛ فشكلنا فرقًا للمقاومة الشعبية في محاولة لجمع شتات آلاف العساكر العائدين من الحرب لمداواة جراحهم ماديًّا ومعنويًّا، فتولدت فكرة "أولاد الأرض".. شباب من عمال السويس: عازف السمسمية: إبراهيم محمد حسن، والأعضاء: فوزي عبد المجيد، محمد حسن حسين، فتحي السيد طه، محمد مازن مبروك، السيد أحمد سليم، مصطفى حنفي، صلاح عبد الحميد، غزالي أحمد غزالي، غريب محمد، محمد عويضة، أبو ضيف، منصور نصار، مصطفى غزالي. 

"أولاد الأرض".. ربع مليون 

كانت الفِرقة في البداية تسمى "فرقة البطانية"؛ لأننا كنا نفرش "بطانية" لنجلس عليها ونغني من أجل الوطن والحرية، مستخدمين "السمسمية" –الآلة الوترية المعروفة في السويس- و"الجركن" البلاستيك كأنه "طبلة". 

ثم بدأت الفرقة في التجول في معظم مدن مصر، وقد بدأت بالإسكندرية ثم القاهرة ثم باقي الجمهورية، وقد كبُرت فرقة "أولاد الأرض" حتى كان بكل مدينة من مدن مصر فرقة للمقاومة الشعبية كنتاج مباشر لها، وقد وصل عدد رجال المقاومة الشعبية قبل معركة 1973 إلى نحو ربع مليون إنسان كانوا مسلحين بالغناء والبنادق أيضًا. 

لقد نجحت الفرقة بهذا الشكل الواسع (والكلام لا يزال لغزالي) لأن الناس كانوا في شوق إلى سماع كلمة مختلفة بطريقة مختلفة؛ لأن الغناء والشعر أقرب الوسائل إلى الوجدان الشعبي أكثر من المحاضرات، و"الكلام في السياسة" كما يقال؛ فجاءت أغنيات "عمر البارودة" و"صوت المعركة" و"إحنا ولاد الأرض"… إلخ أقوى الأسلحة التي انتصرت على الانكسار داخل الإنسان العادي، وعبرت به محنة الهزيمة، وقد لفتت الفرقة أنظار شعراء عديدين فكتبوا لها الأغاني، ومنها أيضًا خرجت "منظمة سينا الفدائية" المعروفة. 

الحق واحد.. الدم واحد 

وعن نصيب الوطن العربي –الذي كان شريكًا في الأسر والحرب في تلك الفترة- من أغاني فرقة أولاد الأرض يقول غزالي: الحق واحد، وكذلك الوطن، نحن أبناء فترة كانت تبحث عن فكرة الجسد العربي الواحد، وقد كانت ولا تزال شوكة العدو الصهيوني مزروعة في القلب، ولا يمكن لمبدع في أي مكان من الوطن أن يتناسى أو يتجاهل البقية، فجاءت أغنيات من نوع "نشيد فتح": 

اشتد يا "فتح" اضرب واشتد 

هد عدو عروبتك.. هد 

حول الزيتون.. قنابل 

وازرع بيارتك.. مناجل 

سجل بالدم سطور المجد 

وكذلك أغنيات "يا شعب العروبة"، "أنا عربي"… إلخ. 

ثم جاء الانتصار عام 73 الذي تم التمهيد له بحرب الاستنزاف وبالمقاومة الشعبية، وجاء أحد أدوار المبدعين الذين استشرفوا الأمل في المستقبل والانتصار؛ ذلك الأمل النابع من الإيمان القوي بالله تعالى، وبوجوب الانتصار للحق يومًا ما، فجاءت أغنيات مثل: "أنا جي يا سينا" و"للحرب غنوة" و"النصر قرب" و"هم يا ولدي"… إلخ. 

أولاد الأرض عادوا إليها 

يقول كابتن غزالي: لقد عبرت فرقة "أولاد الأرض" بحق عن النبض الجماهيري الشعبي؛ لأنها لم تحصل على أي تمويل من أي جهة، فلم يستطع أحد أن يملي عليها أفكاره أو شروطه، كما أنها وُلدت من رحم الأرض وعلى صوت البنادق شابة فتية من بين جموع "أولاد البلد السوايسية"، ولم تكن لتحترف الغناء أو تعيش عليه، لكن كان لها ثقلها الشعبي العام الذي يروج لإبداعها بنفسه. 

ولسبب أو لآخر؛ فقد تقرر تسريح المقاومة الشعبية وإيقاف نشاط الفرقة، التي لم تعد قائمة فعليًّا –كما كانت أيام الاستعداد للحرب- في فترة المعركة عام 1973، ولكنها ما تزال في الوجدان الشعبي ثورة وأغنية ضد كل ما هو مزيف. 


أشعار وأغاني الكابتن غزالي





غني يا سمسمية 

أبوح 

يا عم حمزة 

نشيد الجبهة 

يا إسماعيلية 

راية النصر 

----------------------- 

غني يا سمسمية

غني يا سمسمية 

لرصاص البندقية 

ولكل إيد قوية 

حاضنة زنودها المدافع 

* * * 

واللي وراها بيدافع 

ووصي عبد الشافع 

يضرب في الطلقة مية 

* * * 

في الغيط وفي المعامل 

بيأدي الواجب كامل 

واديله وردة هدية 

* * * 

في الجامعة وفي المدارس 

لمجد بلاده حارس 

من غدر الصهيونية 

-----------------------



أبوح

أبوح يا أبوح 

دم البلد مسفوح 

يا صاحب البقرة 

يا زارع الشجرة 

تتطرح ونديهم 

ولا تمر فيهم 

باعونا للكفرة 

* * * 

كدابة ضحكتنا 

ندابة غنوتنا 

كرامتنا ثورتنا 

مخنوقة في القهرة 

* * * 

أبوح يا أبوح 

أصرخ ألم وأبوح 

دا العدل بات مدبوح 

-----------------------



يا عم حمزة 

يا عم حمزة 

كبروا التلامذة 

وقالوا لأ لأ 

بألف همزة 

* * * 

غني للمدافع 

يا عم حمزة 

ماعدش ينفعنا الكلام 

ولا أي شنطة 

مهما شالت من سلام 

غني لكل عامل 

أصل التلامذة 

كبروا يا حمزة 

وعرفوا إيه معنى الآلام 

ولجل ذلك 

غني لكل دارس 

طلعوا التلامذة 

وقالوا لأ لأ 

بألف همزة 

-----------------------


نشيد الجبهة 

إن يسألوك يا خي 

قولها وعلي صوتك 

عربي فدائي من الجبهة 

وتكمل بندقيتك 

* * * 

إيش أنت وإيش هويتك 

اصرخ: فدائي من الجبهة 

وفلسطين قضيتك 

* * * 

ويحاولوا يكفوا سلاحك 

اضرب اضرب ما تخلي 

أحدًا يعوق كفاحك 

-----------------------



يا إسماعيلية 

يا إسماعيلية 

مسير الصبح يبتسم ويملا 

يملا الحواري ملاغية 

شايل صباح الفل لولادك 

يا إسماعيلية 

يا مدينتي يا غنوة سلام 

ورجالة فدائية 

يا إسماعيلية 

* * * 

يا إسماعيلية يا حاضنة القنال والناس 

يا أم التاريخ بالدم متسطر 

إحنا ليكي حراس 

يا حمام مدينتي 

يا بو الخطا.. ينباس 

-----------------------



راية النصر 

ولا عمر راية النصر هاتفارق جبينك يا وطن 

إحنا فداك 

ولا عمر دقة كعبنا فوق أرضنا 

تفارق خطاك 

دا الشعب هو البندقية والمدافع والرصاص 

وإن يسألوك يا فدائي 

إحنا السوايسية الفدائية 

جند المقاومة والخلاص 

ولا عمر راية النصر هاتفارق جبينك 

وإن يسألوك رفيقي 













أنغــــام المــدافـــــع

الأغنية الشعبية سلاح المقاومة والتأريخ

محـمــــــد الشــــافعــــى

الأغنية الشعبية جزء شديد الأهمية من تراث أية أمة لأنها تحمل بكارة الإبداع وعفويته وصدقه أيضا والاهم أنها تحظى بإجماع واتفاق (الجماعة الشعبية) مما يجعلها أغنية كل الشعب حيث أبدعها وتبناها واحتضنها وتوارثها على مدى الأجيال والأزمان ..

وقد تحولت الآلات الموسيقية مثل السمسمية والناى والربابة إلى أدوات للمقاومة، تصمد وتدعو وتبعث الأمل فى النصر النهائى وقد تواجد هذا السلاح المصرى الخاص فى مراحل التاريخ المختلفة، ولكنه أصبح أكثر فاعلية وأكثر تواجد اً منذ بداية عملية حفر قناة السويس عام 1859. حيث وقع المصريون تحت ضغوط أليمة ورهيبة من الظلم والعدوان والسخرة.


ومن السهل على أى باحث فى التراث أن يكتشف تلك الثروة المصرية العظيمة من أغانى المقاومة وخاصة فى مجال الأغنية الشعبية وتوجد آثار لهذه الظاهرة منذ العصر الفرعونى حيث خرجت جموع الشعب لتستقبل البطل أحمس بعد طرده للهكسوس بالنشيد الحماسى الذى يعتبر أقدم الاناشيد الوطنية المعروفة ويقول مطلعه «هذا الجيش عاد منتصرا .. هذا البطل له الخلود».

ويمثل سلاح الأغنية الشعبية جزءًا مهماً من الأسلحة غير التقليدية يتمتع بها الشعب المصرى والتى تتمثل فى سرعة البديهة وخفة الظل والقدرة على الابتكار.

وكما ذكرنا فإنه سلاح الاغنية الشعبية بدا واضحاً وجليا مع بداية عملية حفر قناة السويس عام 1859 حيث فقد المصريون، 120 ألف شهيد طوال فترة الحفر التى استمرت عشر سنوات فزفر المغنى الشعبى شكواه الساخرة :

على الكنال جالس .. تحكم وبتوالس .. دمك خفيف خالص .. وروح يا الغريب .. تانى معايا تانى .. شيل العلم تانى .. فوق الصارى تانى، وجاء افتتاح قناة السويس ليزيد عملية (الاستهداف) لمصر. ولذلك سارعت بريطانيا بقمع ثورة عرابى واحتلال مصر وخرج عبد الله النديم خطيب الثورة وأحد زعمائها بالعديد من المنظومات التى رددها كل الشعب المصرى مثل (بدال ما أقلد أوربى .. فى أكلى وشربى .. م اعيش أنا عيشة بلدى .. وأرضى ربى) ويقول أيضا (كانت بلادنا لنا جنة .. وشنه ورنه .. صبح لأهليها نيران .. شرم برم حالى غلبان)

وعندما استطاعت الخيانة أن تقهر ثورة عرابى نشر يعقوب صنوع فى مجلته أبو نضاره قصيدة أصبحت لسان حال الشعب كله يقول فيها:

يا راوى الدهر حدث عن أبى العجب

واندب زمان التعافى يا أخا العرب

هذا (العزيز) تخلى عن سيادته

بالإنجليز ولم يقبض سوى الكذب

وبعد أن أصبح الاحتلال الانجليزى واقعاً مراً خرج الفن الشعبى ليقول :

ساكن بلادى بالقوة وعدو الدين

أنا مصرى ودمى مانيش بايعه ولا بالملايين

ونيجى نفاتحه فى حقوقنا يعمل مسكين

وده يده حش بيت الكلوه بأحمى السكاكين

وبدأ الفن الشعبى فى السخرية من قادة الانجليز من خلال اغانيه مثل .. ياسيمور يا وش القملة ..مين قال لك تعمل دى العملة) وسيمور هو قائد الاسطول الانجليزى الذى دك قلاع الاسكندرية.

وتمضى أحداث الاحتلال حتى تحدث مذبحة دنشواى عام 1906 تعلو صيحة وينطلق المغنى الشعبى فى موال درامى معبر عرف باسم : (موال شنق زهران) ويقول فيه:


من بعد حكم المحاكم والشاويش والباش

غلايين (وسجها) كرومر مخرب

والانجليز فرعنوا بعد ما كانوا أوباش

نزلوا على دنشواى ماخلو نفر ولا أخوه

اللى (إتشنج) مات واللى فضل جلدوه

واللى فضل من الجلد جوا سجنهم ورموه

يوم (شنج) زهران كانت صعب (وجفاته)

أمه بتبكى عليه (فوج) السطح وأخواته

لوكان له أب ساعة (الشنج) لم فاته

صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.

ويتمتع الفن الشعبى بذاكرة قولة لا تنسى أبداً ثاراتها ولذلك نجد هذا المغنى يستعيد حادثة دنشواى بعد أن استردت مصر حريتها بعد قيام ثورة يوليو 52 بقيادة جمال عبد الناصر حيث يقول المغنى الشعبى :

أمانه يا دنشواى إذا عاد الزمان تانى

شاورى على الظلم وابكى دم من تانى

شاهد وخصم وحكم ايه راح يكون تانى

وبعد خمسين سنه جاد الإله بجمال

وخد بتارنا وطرد خصم البلد منه

وصبحت دنشواى تقول

جدد حياتنا يا جمال

المهم أن الأحداث تسارعت بعد حادثة دنشواى حيث قامت الحرب العالمية الأولى ووجد المصرى نفسه بين شقّى الرحى : الاحتلال والقصر فلجأ المغنى الشعبى إلى موال يس وبهية وأسقط من خلاله على الاحتلال وظلم القصر ولم ينس أيضا وجود الشوام فى أتون هذه الحرب فقال المغنى الشعبى :

يا وابور الساعه 12 يا مجبل ع الصعيد

سلم لى على الحبايب وبزايد ولدى

وزغروطه يا شاميه غربة ومروحين

وفى مثل هذه الأغانى تسجيل لمعاناة المجندين فى السلطة بدءا من سوق المواطنين المكتوفين إلى ميادين القتال فى الشام ثم التعريض بالقصر الحاكم.

وبعد انفجار ثورة 1919 تحول فنان الشعب سيد درويش إلى صوت الأمة الذى يصرخ بطموحاتها وآمالها وقد اكد فى أغنياته على وحدة وادى النيل من خلال أغنيته التى تقول :

جالت لى خالتى أم أحمد

كلمايه فى متلايا

سرجوا الصندوق يا محمد

لكن مفتاحه معايا

بحر النيل راسه فى ناحيه

رجليه فى الناحية التانىه

فوقانى يروحوا فى داهية

إذا كان سيبو التحتانى

وقد ساهم سيد درويش بالاشتراك مع بديع خيرى ومحمد تيمور وبيرم التونسى ومحمود مراد فى عملية ميلاد المسرح الوطنى الذى مهد بشكل فاعل لثورة 19.

وفى أوساط الطلبة خرجت الأغانى الوطنية لتعبر عن الثورة مثل نشيد زكى الطويل وتلحين محمود الحفنى الذى يقول :

ياعم حمزة إحنا التلامذة

مايهمنا م السجن ده ولا المحافظة

واخدين ع الاكل الحاف

والضرب ع الكتاف

والنوم من غير لحاف

وفى منطقة القناة تمركزت القاعدة الأساسية للأغنية الشعبية وذلك لأن هذه المنطقة هى البوابة الشرقية لمصر ومنها دخل كل غزو ومنها أيضا خرج كل فتح مصرى ولذلك اتسم الفن الشعبى فى هذه المنطقة بحساسية خاصة جعلته فى الطليعة دوماً... وقد تحول المغنى الشعبى فى القناة إلى لسان حال الوطن. فعندما تحول اللورد اللنبى إلى دكتاتور يبطش بالمصريين عمد المغنى الشعبى فى القناة إلى تحقير الطاغية فى أغنيات كثيرة مثل:

يا اللبنى يا بن حلنبوحة

ومراتك وحشة ومفضوحه

يا اللنبى ياوش القملة

مين قالك تعمل دى العملة

ولم تتوقف عمليه تحقير اللنبى عند سلاح الأغانى ولكن الإجماع الشعبى ابتكر احتفالية حرق اللنبى التى مازالت حتى الآن تمارس فى ليلة شم النسيم رغم المحاولات الرسمية لوأد هذا الطقس بعد أن استطاع الوعى الشعبى أن يستخدمه للإسقاط على كل طاغية مثل شارون ونيتنياهو - ألخ

وعندما بدأت الحرب العالمية الثانية أصبحت أهواء معظم المصريين مع ألمانيا ودول المحور ضد انجلترا ودول الحلفاء ظنا منهم أن ألمانيا يمكن أن تنقذهم من الاحتلال الانجليزى وقد واكب المغنى الشعبى ما حدث فى الحرب العالمية الثانية وتمنى أن يكون طياراً ليكشف أسرار الحرب فيقول :

ياريتني أكون طيار

وفتنا على خط ماجينو

ياخى فل عليه

وأقولك إزاى عاملينو

يا سلام يا سلام

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تف إنجلترا بوعودها لمصر فانفجرت العلميات الفدائية فى منطقة القناة وارتفعت الروح الوطنية وراح المغنى الشعبى يعبر عن تحدى مصر للاحتلال فيقول للمحتل :

كون دبابات .. كون مدافع .. حانفجر بركان .. كون حاوى .. كون نمس .. كون تعلب .. أكون شيطان - كون سل فى العضم - كون زهرى - كون سرطان .. يا تلم نفسك وترحل من سكات بدرى - يا أخلى عيشتك على شط القنال قطران).

وتتصاعد الاحداث حتى تصل إلى مذبحة البوليس فى الاسماعيلية يوم 25 يناير 1952 ليخرج الفن الشعبى يهتف (إحنا الثوار - إحنا الاحرار - إسماعيلية بلد ثوار .. فى يناير خمسة وعشرين - من عام اثنين وخمسين .. واستشهد فيها الابطال - ودماهم فى الثورة شرار .. إسماعيلية بلد احرار).

وقد أكدت أحداث الاسماعيلية وبعدها حريق القاهرة حتمية قيام ثورة يوليو بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر حيث احتضن الشعب الثورة وانفجر طوفان الاغانى الوطنية بداية من أغنية محمد قنديل الشهيرة (ع الدوار ع الدوار.. راديو بلدنا فيه أخبار .. ياللى فى قاعة ياللى فى خص .. قوم دى الساعة تمانية ونص .. كنا عبيد وبقينا أحرار .. ع الدوار)

وتوالت قرارات الثورة التى انحازت الى الشعب قبل قرار الاصلاح الزراعى فخرج الفن الشعبى يهتف (بعد التعب والشقا والغلب راح ترتاح .. والمش يبقى مربه والبصل تفاح .. يعنى اللى شفته كان حلم غم وراح - افرح وهيص حايبقى لك خمس فدادين - تزرع وتقلع ياريتنى كنت أنا الفلاح).

وتواصلت قرارات الثورة حتى وصلت إلى ذروتها بقرار تأميم قناة السويس فهتف المغنى الشعبى (يا كنالنا تأميمك عيد .. ولا عاد أسياد وعبيد .. أنا مصري وبأسى شديد) وغنى أيضا (محلا البواخر فى المينا .. ورايتنا فوق كل سفينه.. والمرشدين الاحرار .. ع الدفه ليل ونهار .. محلا البواخر فى المينا)

وقد اتخذ الاستعمار القديم (إنجلترا وفرنسا) من تأميم القناة (شماعة) لتصفية الحسابات مع مصر التى أصبحت قوة إقليمية كبيرة من خلال مساندتها لحركات التحرر الوطنى فى كل العالم ومشاركتها فى إنشاء منظمة عدم الانحياز وبدأت عملية التحرش بمصر والتهديد بالحرب فعلق الفن الشعبى (ع يهددوا بالاساطيل والغواصى والطيايير - أما إحنا فمعانا وحين- ومعين نقابل رب كريم - ونجاهد فى الحرية - لأجل كنالنا البحرية).

وبدأ العدوان الثلاثى (انجلترا - فرنسا - اسرائيل) ضد مصر وانحصرت الحرب فى مدينة بورسعيد وقامت المقاومة الشعبية فى المدينة بعمليات عظيمة أصبحت حديث العالم كله فهتف المغنى الشعبى (فى بورسعيد الوطنية .. شباب مقاومة شعبية .. دافعوا بشهامة ورجولية.. وحاربوا فيها جيش الاحتلال .. مبروك يا جمال .. إيدن وبن جوريون وموليه - جايين يحاربونا على إيه - طارت عقولهم ولا إيه - علشان ما أممنا القنال .. مبروك يا جمال).

وعندما أعلن نبأ انسحاب إنجلترا وفرنسا من بورسعيد خرج المغنى الشعبى يهتف (مع التلامه إلى لندن يا جنس خسيس .. مع التلامه يا أمة عايشه ع التدليس .. مع التلامه مع الخيبة مع التفليس .. إيه اللى نابكم وإيدن جاب لكم نايبه .. حطت عليكم وقسمتوها ويا باريس)

ولأن حرب العدوان الثلاثى كانت قصيرة وخاطفة فإن الفن الشعبى قد سجل كثيرا من أغانيه وأشعاره للتعليق على هذه الحرب بعد انتهائها ويتضح ذلك فى اكثر من اغنية مثل (حلمت حلم بيتفسر إن المدينة بتتكسر .. تلات دول على مدينة.. ياما جرى لهم منينا .. ولوا من أول مشوار) ورغم فشل مؤامرة العدوان الثلاثى إلا أن مؤامرات القوى الاستعمارية لم تتوقف ضد مصر التى أصبحت نموذجاً يحتذى به فى دول العالم الثالث ووصلت هذه المؤامرات الى ذروتها بعدوان 5 يونيه 67 وبعد أن تكشفت أبعاد النكسة خرج المغنى الشعبى ليصرخ (مش حانسلم لا .. لا .. لأ .. رأى الشعب صاحب الحق) .. ثم حمل المغنى الشعبى سلاحه رافعا راية المقاومة وطالبا للثأر فيقول (من عيون برج الحمام بيطل مدفعى .. طلقاته فى صدر عدوى زغرودة فى موقعى).

وبدأت حرب الاستنزاف بضربات موجعة للعدو وتدمير المدمرة إيلات ويواكب المغنى الشعبى هذه الضربات مبتهجاً وساخراً (يا دنيا غنى واشجينا .. راحت إيلات المسكينة.. راحت إيلات اليهودية ..

بالصواريخ المصرية .. يا دنيا غنى واشجينا)

وكان رد العدو على عمليات الاستنزاف ضرب المدنيين في مدن القناة فكان القرار السياسى بتهجير كل سكان مدن القناة ولم يبق إلا أفراد الجيش والشرطة والدفاع الشعبى وخرج المغنى الشعبى يرفض الحزن واليأس (هجرنا المصنع والولاد .. وعشقنا المدفع والجهاد .. دوس دوس دوس يا بطل .. دوس ع الزناد).

واشتدت حرب الاستنزاف فأمسك المغنى الشعبى بالسمسمية يشد من أزر الناس ويزرع فيهم الصمود خاصة بعد أن تكونت العديد من فرق المقاومة الغنائية والتى تم استنساخها من فرقة «ولاد الأرض» التى أنشأها شيخ شعراء المقاومة الكابتن غزالي فى السويس، وبعدها ظهرت فرقة «الصامدين» فى الاسماعيلية وفرقة «شباب النصر» فى بورسعيد كما تم استنساخ هذه الفرق فى كل الجامعات والقرى والنجوح ولكن ظلت ولاد الارض فى المقدمة دوماً ليقول الكابتن غزالى (البحر دم دم دم .. والسما نار نار نار .. وحنمشى حنمشى حنمشى .. لنهاية المشوار).

ويقول أيضا (عطشان يا رفاقه .. للتار من إسرائيل .. عطشان والجرح ملح .. م الوقفه فى الهجير .. يا عناد غيطانا أطلع .. قوم فتش ع السبيل).. وتجاوب المغنى الشعبى (الكابتن غزالى) مع الصيحة التى أطلقها عبد الناصر (لاصوت يعلو فوق صوت المعركة) فقال .. (ملعون أى صوت - يعلى صوت المعركة .. ملعونه المداين - ملعونه الجناين لو سبت أى خاين - يرعش يوم النضال). ويهتف أيضا بالأمل قائلا (فات الكتير يا بلدنا .. ما بقاش إلا القليل .. بينا يا للا بينا .. نحرر أراضينا وعضم إخواتنا نلمه نلمه .. نسنه نسنه - نعمل منه مدافع وندافع - ونجيب النصر هدية لمصر - وتحكى الدنيا علينا).

وقال الكابتن غزالى أيضا (غنى يا سمسمية - لرصاص البندقية- ولكل إيد قوية - حاضنة زنودها المدافع)

وعندما سقط الفريق عبد المنعم رياض شهيداً فى مارس 69 كتب حافظ الصادق شاعر فرقة «الصامدين» (موج الكنال غنى وقال .. رياض يا مصر سقط شهيد - راجل ولا كل الرجال .. جرىء وقلبه من حديد .. قائد وكان من موقعه - طاقه محبة بتدفعه - طالل وقلبه ع الكنال - كأنه كان بيودعه)

وعندما تحقق الحلم بانتصار أكتوبر العظيم كتب الصادق (يارمل سينا يوم العبور .. كنت تنادينا وتقول يا نور .. يا أولادى مدوا للشرق عدوا .. إياك تهدوا .. هدوا الغرور).

وكتب الشاعر كامل عيد لفرقة شباب النصر فى بورسعيد (قفلوكى يا بورسعيد منعونا من الزيارة وإزاى نفضل بعيد .. عن بيتنا وكل حارة .. راح ييجى اليوم وأجيلك - حاسرج ليكى شموع وحاقول يوم الرجوع بالحضن يا بورسعيد).

وهكذا يتأكد لنا من خلال هذا الاستعراض السريع لأهم ملامح حركة الاغنيــة الشعبية فى المقاومة والنضال أن هذه الاغنية تمثل جـــــزءاً شديد الاهمية فى التراث الوطنى والوجدان القـــومى وأنها تستحق أن يبذل من أجلها أكبر الجهد للحفـــاظ عليها وتقديمها خاصة فى ظل ما نعانيه من هجمـــة لثقــافة العولمة ورغم قوة هذه الهجمة إلا أن الاغنيــة الشعبية مع غيرها من مفردات الثقافة الوطنية يمكنها أن تصمد لها وتقاوم ..


السمسمية عالم قائم بذاته ، علي أنغامها يتحرر الإنسان من مخاوفه و أحلامه .. و مباهجه و أحزانه .. يتحرر من كل شيء ، و يقترب من الحرية و السلام في أقصي معانيهما شفافية ، يصبح أمام نفسه مجردا من كل شيء ، لا يريد إلا الغناء و الاندماج . و الوصول إلي ذروة المعني .
السمسمية طقس إنساني نحتاجه جميعاً ، من أجل أن نعود مرة إلي ذواتنا و قد صارت بيضاء كحمامات السماء . 


والسمسمية آلة وترية مثلثة الشكل ذات خمسة أوتار . نعرف ملامحها من شاعرنا / كامل عيد عندما يتغني بها باعتبارها أصل الأشياء و مبعث الأحلام و أداة التعبير عن حب الوطن و التغني بالمدينة و الحبيبة
و البحر و الفنار و كل ذرة من رمال الوطن .


أصيلة يــــا سمسمية

يا أم التلت خشبات

يا أم الطـبق بالذات 

يا شايلة حزن الوطن 

في الشدة و مفرقـــة

يوم الفرح شـربات



وهذه الآلة التي يعرفها كل أبناء القناة ، خاصة الأجيال القديمة منهم ، تحولت في الفترة من هزيمة يونيو 67، حتى عودة المهجرين إلي مدنهم عام 74 بعد هجرة طالت لأكثر من سبع سنوات إلي معني من معاني الوطن، وإذا شئنا الدقة إلي معني الوطن نفسه،فلم تكن – السمسمية - في تلك الفترة آلة موسيقية يلتم علي أنغامها أبناء مدن القناة ، بقدر ما كانت حالة من حالات حب الوطن ، تامهت العلاقة فيها بين الناس و الوطن حتي صاروا شيئاً واحداً . فالوطن هو هؤلاء الناس الذين ذابوا عشقا في حب أرضهم .. و غنوا و رقصوا علي أنغام السمسمية . حتي تركوا أجسادهم علي الأرض ، وطارت أرواحهم تحلم بجلاء الهزيمة ، و العودة إلي مدنهم البعيدة .


و لهذا الطقس الإنساني جداً تاريخ طويل متعدد الأوراق و الصفحات . نقرأ في أول أوراقه عن الآلة الأم –الطنبورة – ذات الصوت الحنون الدافء و التي عرفتها مصر في عهد الأسرة الوسيطة عام 2000 ق.م . و كانت أداة من أدوات بعث الروح في قلب و عقل المصري القديم ، فعلي أنغامها داخل المعابد توحد المصري القديم مع نفسه و أرضه و صارت بينهما علاقة أبدية . ندركها الآن و نعرف معناها خاصة في أوقات الألم و الانكسار ،
و ما يؤكد هذه العلاقة الأبدية بقاء أرض مصر طوال التاريخ بنفس ملامحها الحضارية و الجغرافية رغم توالي الغزاة و الفاتحين ، و تعاقب الثقافات و الحضارات المختلفة التي لم تؤثر علي هذه الأرض أو هؤلاء البشر .


و عرفت مصر الطنبورة في تاريخها الحديث إبان حملة محمد علي في السودان ، فقد عادت الآلة القديمة لتجد نفسها بعيدة عن المعابد و الكهنة ، و قريبة من عالم الجن المليء بالحكايات و الأسرار ، و تحولت أنغامها إلي ألحان لطرد الجان في غرف الزار المتوهجة و الصاخبة .


ولاستعانة محمد علي بالسودانيين في جيشه ، عادت الطنبورة في مصر ، ليخطفها الإنسان من يد الجان ، و يخرج بها إلي بياض النهار و سكون الليل و وشيش الأمواج 



.................





و في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ، تواجد في مدن القناة الثلاث ، خاصة في بورسعيد العديد من الطرق الصوفية ، التي احتوتها الخلوات والتكايا المنتشرة آنذاك في تلك المدن .و ظهرت الطنبورة مرة أخري بين أيدي المتصوفة كآلة ملازمة لحلقات الذكر التي تتطوح فيها الأجساد حباً و عشقاً في الله و الرسول عليه الصلاة


و السلام . تزامن ذلك مع وجود آلاف المصريين يعملون بالسخرة في حفر القناة و يتعرضون لظروف إنسانية عصيبة و مؤلمة تحول الغناء فيها إلي أصوات حزينة تأتنس بالنار الطبية و تغني
بلدي يا بلدي و السلطة خطفت ولدي


يا عزيز عيني و أنا نفسي أروح بلدي 


فهؤلاء المصريون الذين تم جمعهم إلي تلك الأراض البعيدة ، و حفروا القناة تحت سياط القهر و الألم ، وجدوا في الغناء سر البقاء ، و الأمل في العودة و الانفلات من قسوة العمل و جبروت السلطة التي قتلت بطغيانها مائة و عشرون ألفاً . غابوا في رمال الحفر ، و غاموا تحت مياه القناة ، إلا أن أجسادهم تحولت إلي ورود بيضاء تطفو أحياناً عند قدوم أمل جديد .


و من قهر المظلومين و خلوات المتصوفين خرج فن – الضمة – في بداية القرن العشرين بعد أن شعر أبناء مدن القناة بالاستقرار النسبي ، بعد انتهاء حفر القناة عام 1869 ، و ظهور ملامح تلك المدن و خروجها إلي الحياة .


و تتعدد معاني فن الضمة فهو بمعني – اللمة – لمة أو إلتمام مجموعة من البشر يأتنسون بالغناء و الصحبه و السمر . أو بمعني – ضمة – للأغاني و الموشحات و الأدوار و المواويل المختلفة . خاصة أن فن الضمة تضمن في تلك الفترة الأغاني الصوفية البحتة و الأغاني التي ظهرت علي اسطوانات الجرامفون ، بعد أن أعاد الفنان الشعبي إبداعها و صياغتها من جديد و تطويعها لأدوار الضمة التي تؤدي غالباً علي إيقاعين رئيسين ، أحدهما بطيء في أول الدور ، و الثاني سريع في النصف الأخير منه ، و عند تأمل كلاً منهما تجد أن الأول يحمل إيقاع الحضرة الصوفية ببطئه المناسب لجو التراتيل و الترانيم . أما الثاني فهو نفسه إيقاع الذكر المليء بالحركة ، و هو يساعد علي خلق حالة من التجليات الروحية . و الضمة حالة غنائية و إنسانية لمجموعة من البشر ، يشتركون معاً في كل شيء ، فكل منهم قادر علي العزف و الغناء و الرقص ، و يتبادلون الأدوار في حرية مطلقة وسرور حقيقي . 
و لكي تصل هذه الحالة لمنتهاها لابد لكل فرد من أفراد الضمة أن يكون في حالة سلام مع نفسه ، و لديه شعوراً و إحساساً برفاقه في الضمة ، و هكذا فإن كل فرد من أفراد الضمة لابد أن يتمتع بلياقة عالية في الإحساس و الأداء و الشعور بالآخر ، و إفساح المجال له ليعبر عن ذاته و حريته و سلامه الداخلي . و الضمة صورة لارتباط الفن بالحياة ، و دليل لاحتياج الإنسان الطبيعي للفن كجزء من حياته اليومية ، و لابد أن يكون للضمه ريس ، وريس الضمه هو الشخص الأكثر حفظاً لادوارها ، و يتمتع في الوقت نفسه بحب رفاقه و مشاركيه . و هناك تشابه ما لسيطرة و نفوذ ريس الضمة و شيخ الطريقة الصوفية ، لتمتع كل منهما بحب الجماعة و القبول من أفرادها ، و إن اختلف مجال الاثنين . و لنا أن نستحضر تلك الحالة الأقرب إلي الروحية ، و التي تتلاقى فيها الأرواح كموجات بيضاء في بحر منعم بالسحر و الأسرار . في هذا الدور 


الفن صورة لتوحد الإنسان بذات عليا أو حقيقة مطلقة يبحث عنها ، أو يتوحد مع عالمها وفن الضمة صورة لتوحد الإنسان البسيط و العادي مع حقيقته و حقيقة أشيائه ، التي هي بالتالي بسيطة و عادية ، لكنها تمثل له معني الوجود و الحياة . إذ لا زال ذلك المشهد القديم الذي إلتم فيه الصحبجية أمام البحر ، ناسين أحزانهم و أفراحهم . مستغرقين في الرقص و الغناء ، منتظرين لحبات الندي تتساقط علي رؤوسهم من فرط النشوة و السرور . مثل حي و حقيقي لمعني السعادة و اليقين .


فما السعادة و اليقين إلا التمتع بتلك اللحظات التي تحمل من البراءة و النقاء ما تعجز عنه آلاف الكتب و المحاضرات ، لأن السعادة هنا نراها بيننا و نتحدث معها و نشعر بها ، و لا تغيب عنا في طيات الكتب أو غياهب الأسرار .


فن الضمة هو الذي أنقذ أبناء مدن القناة ، من إحساس حسره الهزيمة ، و شعور إلتياع الغربة ، فاللمه و التعارف و الاقتراب مع تلك الألحان جعل الأجساد و الأرواح تذوب في حب الأرض التي بعدت ، و الوطن الذي ينتظر طعم الخلاص . ولعل طقس حرق دمي "الألمبي" في مدن القناة ، خاصة في بورسعيد ، ما يقرب تلك الصورة و يوضحها ، فاللورد اللمبي الذي مارس قهراً علي أبناء بورسعيد تحول مع الوقت إلي دمية تتشكل أشكالا لا حدود لها ، و تعبر دوما عن الرفض للظلم و القهر و العدوان . 


و تحولت ليلة حرق " الألمبي" إلي معني من معاني توهج الحياة و لمعانها . فالجماعة الشعبيه تنتظر تلك الليله ، حتي تلقي بما ترفضه في النار التي يغيب في أوارها كل شيء ثم تتطهر بالرقص و الغناء حتي الصباح و تتخلص من مخاوفها و أحزانها علي أنغام السمسمية 


يا ألمبي يا ابن ألمبوحه 

و مراتك عرة و شرشوحه

يا تربه يا أم يا أم بابين ..

وديتي الالمبي فين 

والله ده كان بيصلح عند الاسطي

الاسطي مين 

ما انتم عارفين

ابكي عليه و قولي

ده كان بيحب البوري

ابكي عليه و اتحسري

ده كان بيحب الجمبري 

يا ألمبي يا ابن ألمبوحه

و حكايتك صبحت مفضوحة . 


فلعلنا نلاحظ أننا لسنا أمام آية من آيات الشعر ، بقدر ما نحن أمام صورة إنسانية و طقس احتفالي به من التلقائية و التدفق الغنائي و الشعبي ، ما يجعلنا نتمني أن نشارك مع تلك الجماعة ، بل مع أي جماعة تمارس توحداً مع ذاتها و مع العالم الذي ترغبه و تريده .
و فعل القدر فعلته و خرجت السمسمية تلك الآلة الصغيرة – السمسمية – من عزلتها لتحلق ألحانها في الأرض و السماء ، فرغم أنني من أبناء جيل مختلف ـ مواليد عام 1971 ـ جيل أدركته فوضي الأسئلة عن كل شيء ، و غابت منه العلامات و الأفكار خلف تلال من الكتب و النظريات . إلا أن شيئان لهما هدوء اليقين في مخيلتي ، الأول : تلك الحالة المدهشة التي يتوحد فيه الإنسان مع ذاته و عالمه بحثاً عن السعادة و البهجة عند رقصه و غنائه علي أنغام السمسمية ، و التي نقلت شذراً منها في حديثي عن الطنبورة ، و طقس حرق دمي – الالمبي – فهي حالة تنتقل بك من البسيط فالأعمق فالأكثر عمقاً ، هي رحلة بحث متوهجة عن المعني ، لكنها تأتيك عندما تغيب بين الأجساد الراقصة ، و لا تتذكر أي شيء ، سوي انك إنسان و أن الحلم حتما سيسطع من البحر أو سيتساقط من غمامات السحب . أما الشيء الثاني : فهو لا ينفصل عن الأول بل يصير الاثنان في بعض الأحيان شيئاً واحداً ، و أقصد حالة حب الوطن ، التي شكلت و بحق هواء تلك الفترة و أريحها . خاصة في مدن القناة الثلاث التي تحولت إلي مدن من الضوء و النور و الصمود و التحدي ، تلك المدن حديثة النشأة و التي أخرجها البحر من طياته ، لتتناثر أمامه ، صارت مطمعاً لكل الغزاة و الفاتحين و المتمردين و العشاق .
و تحولت مدن القناة في بعض اللحظات إلي حالة من حالات الألق الإنساني النبيل في الدفاع عن الوطن و عشقه . فمن منا لا يتذكر مذبحة البوليس في الإسماعيلية يوم 25 يناير 1952 .علي يد قوات الأحتلال الأنجليزي



إحنا الثوار .. إحنا الأحرار

إسماعيلية بلد ثوار

في يناير خمسه و عشرين

من عام اثنين و خمسين

و استشهد فيها الأبطال

و دماهم في الثورة شرار

إسماعيلية بلد أحرار



كذلك من ينسي أغنية " في بورسعيد الوطنية " التي رددتها الجماعة الشعبية إبان حرب 1956 ، و التي تحولت بمرور الوقت إلي تميمة الحرب ، و أغنيتها المثال ، حتي أنك لا تستطيع أن تتخيل الحرب دون تتابع مشاهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر و هو يعلن تأميم قناة السويس ، و هو يخطب في الأزهر معلناً الحرب ، و هذه الأغنية التي كانت تتمه لحالة من حب الوطن . بدأت بالتأميم ، و انتهت بانحدار العدوان و مغادرته البلاد . 


" في بور سعيد الوطنية "

في بور سعيد الوطنيــــــــة شباب مقاومة شعبيـــــــة

دافعوا بشهامة ورجوليــــة و حاربوا جيش الاحتــلال

مبروك يا جمال

إيدن و بن جوريون و موليه جايين يحاربونا علي إيــه

طارت عقولهم واللا إيـــــه عشان ما أممنا القنـــــــال

مبروك يا جمال

هو القنال ده في أراضيهـــم واللا إحنا 

خداناه منيهـــم

ده قنبلة و ضربت فيهــــم واللي ضربها رئيسنا جمـال

مبروك يا جمال 




أيضاً من يستطيع أن ينسى الكابتن غزالي شيخ شعراء المقاومة بمدن القناة ، والتي شاءت أقداره مع الشاعر كامل عيد ببور سعيد ، والشاعر حافظ الصادق بالإسماعيلية أن يصيروا رموزاً للنضال والصمود ، ويتحولوا إلى ثالوث وطني وإنساني خاصة في أوقات النكسة والتهجير ،وكذلك الحصار


طالعة السويس 00/ طالعة

شامخة / كما / 00 قمم / الجبال

طالعة / السويس / 00والعه

مارد ح / يتخطى / 00 المحال

ولا فيش / محال

قدام شبابك 00 / يا سويس

لا مستحيل / يقدر / 00 على / عند الرجال



********

دائماً كانت الحرب مقترنة بالدم والقتل ، وافتقاد الأهل والصحبة والأصدقاء. فالحرب ملازمة للموت ، مقتفية لأثره ، تبحث عنه أينما وجد . والموت نهاية الأشياء ومبعث الألم ، وباعث الذكريات من إسارها المغلق العتيد .الموت هو لحظة الحقيقة التي نعرفها جميعاً ، وتغيب عنا عند اختلاج الجسد كل صباح ، و تأوهات الروح في بحثها عن معني الحياة . الموت معني أشمل من الحرب ، به ينتهي الجسد و الذكريات و الأحلام و الأفكار التي ارتبطت بإنسان 
ما في زمن و مكان ما . 


قد تكون أشياء لها معني ، و قد لا تمثل أية قيمة ، لكنها بالتأكيد هي كل ما يملك هذا الإنسان ، و كل ما عرفه أو حلم به ، كذلك هي رحلته من لحظة ميلاد إلي لحظة نهاية ، و بينهما حياة اعترتها كل صنوف الأيام من أحزان و مباهج . و لم تكن مصادقة أن تقوم الحضارة المصرية القديمة علي فكرة البعث و الخلود و أن يقدس المصري القديم – الموت – و يتعامل مع حقيقته علي أنه حياة أخري مقدسة لابد أن يستعد لها . بأن يحتفظ بجسده بعيداً عن عبث الأيدي و عن عوامل الزمن ، و أن يبقي صامدا أمام لحظته الخالدة ، أمام قضاه الحياة الأخرى ، و عالم الخلود . و أسطورة إيزيس و أوزوريس المصرية القديمة ، و التي لملمت إيزيس فيها جسد أوزوريس المبعثر و أعادت له الحياة ، لم تكن مرتبطة بالحضارة المصرية القديمة فحسب ، بل بكل الحضارات . لأنها باختصار عبرت عن أكثر المعاني تجريداً .. الحياة و الموت . و رغم تباعد السنوات بيننا و بين المصري القديم ، بل بيننا و بين أول إنسان ظهر علي الأرض ، إلا أن فكرة الموت و الحياة ، هي أكثر الأفكار حضوراً في كل الحضارات القديمة و الحديثة و المعاصرة . و ما تقدمه الأديان السماوية و غير السماوية ، و الفلفسات القديمة و الحديثة إلا أجوبة مختلفة عن حقيقة الموت و الحياة . 




***********


هزيمة حزيران لم تكن هزيمة عسكرية منيت به مصر بقدر ما كانت هزيمة لأحلام و آمال طالت السماء و تلألأت كنجوم و اضحة و منيرة في سماء تلك الفترة فمن يعيد مشاهد تلك الأيام يجد أن مصر تحولت إلي وهج ثوري لا ينطفئ بل و يمتد توهجه إلي بقاع أخري في أسيا و أفريقيا و أمريكا اللاتينية . فالثورة المصرية التي نجحت في محاصرة قصر عابدين بالدبابات ، و إجبار الملك في التنازل عن عرشه و مغادرته البلاد بلا عودة . تحولت إلي ثورة لكافة شعوب المنطقة خاصةً في لحظاتها المضيئة مثل تأميم القناة عام 56 و بناء السد العالي و الوحدة مع سوريا عام 58 ، و قيادتها لحركات عدم الانحياز ،و قراراتها الاشتراكية و بداية عصر التصنيع . إلا أن بقدر ما كان الحلم بازغاً ، كان السقوط و الانهيار مريعاً ، فمع ظهور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر علي شاشة التلفاز ، و قد زال عنه ذلك البريق و اللمعان النبيل الذي لازمه طوال تاريخه ، و هو يعلن قراره بالتنحي عن الحكم شعر المصريون بأن الصباح لن يأت في الغد ، و أن النيل ستتوقف مياهه عن الجريان ، و أن تلك الأحلام التي رويت بكلمات الزعيم ، لم تكن إلا أحلاماً من ورق تطايرت مع هبوب أول ريح . الهزيمة كانت فاجعة أفقدت المصريين توازنهم و إحساسهم بالعالم و الحياة خاصة مع توالي أخبارها و تكشف مدي الخسارة التي منينا بها . فأقدام جيش الدفاع الإسرائيلي الثقيلة داست علي أنفاسنا و أرواحنا ، و لم نعد نتنفس أحلام الحرية و الاستقلال و عودة فلسطين بل صرنا أجساداً خاوية من الروح و ذلك الوهج الذي نسميه حب الوطن . الهزيمة هزمت أرواحنا و كللتها بالسواد و الغضب ، و جثث شهداء الحرب تناثرت علي رمال سيناء بدون حرب ، و بللت أجسادهم دموع الأمهات و الزوجات و الأبناء الذين عرفوا انهم خرجوا بلا عودة . لكن الروح المصرية التي عرفت معني – الأبدية – في حضارتها القديمة ، و معني التضحية و الفداء عندما اعتنق أبناؤها المسيحية ، و ضحوا من أجلها بالنفس و النفيس سيما في عصر الشهداء . و عرفت معني الشهادة عندما اعتنق أبناؤها الإسلام و صارت الشهادة في سبيل الله و الوطن معناً أصيلاً من معاني الوجود . أبت أن تتخلى عن تلك الروح . بل بحث أبناؤها عن هذه الروح و حاولوا استحضارها كي يواجهوا المحنة و الهزيمة . و لم تكن السمسمية تلك الآلة الصغيرة الدقيقة ، التي وجدناها بين أيدينا في بدايات القرن العشرين بعد أن قطعت رحلة طويلة ، امتزج فيها الإنسان مع التاريخ و الفن و السحر و الأسرار ، بغائبة عما يحدث في سماء الوطن .


بل تحولت إلي قيثارة اورفيوس التي نادي بها حبيبته يوروديكي ،التي غابت عن العالم بموتها ، و صارت السمسمية قيثارة للوطن و لحناً للأمل و العودة .


***********


فنحن لا نستطيع أن نتخيل مصر في هذه الفترة دون أن تكون السمسمية أحد ملامحها الأساسية و العميقة ، و لم يحدث في تاريخ مصر تلك الحالة من ديمقراطية الفن ، الذي صار حقاً من حقوق الحياة . إلا مع السمسمية . فقد تماهت العلاقة بين الإنسان و الآلة – السمسمية – و الوطن ، حتي صاروا شيئاً واحداً لا ينفصل ، لا تقدر أو تستطيع أن تري أحدهما دون الأخر ، تحول الثلاثة معاً إلي حالة روحية و فنية واحدة ، اعتقد أنها لم تتكرر ، اللهم إلا في ظاهرة الشيخ إمام و الشاعر أحمد فؤاد نجم ، ففي الحالتين من التشابه ما يجعلنا نقر أن الوطن عندما يمر بإحدى محنه الحادة و الأليمة ، تنبثق دوماً مشاعر يتآلف فيها الإنسان مع معني الوطن في أعمق حالاته تجريداً .فرغم مرور سنوات عديدة إلا أن ما تجلي عن هاتين الحالتين ما زال حاضراً بيننا ، و ذلك لم و لن يتكرر لآن ظروف خروجهما إلي الحياة لم و لن تتكرر .


ففي الحالتين لا نتعامل بمذاهب نقدية أو جمالية لمحاولة الفهم أو التفسير بقدر ما نحن أمام حالة من حالات الوجد أو الوله بالوطن و الأرض ، يعود فيها الفن إلي حالة البراءة الأولي ، و البكارة التي لم يلوثها أحد .


********


و نبدأ رحلتنا مع السمسمية التي ترقرقت محبة للوطن ، و تلهبت أوتارها بنار المعركة و صارت مزيجاً من الحب و التضحية .. من السلام و الصمود .. من الحلم و المقاومة .


فمصر التي صارت ندهة و غنوة و نقش .. هي التي ستبقي مهما طالت الحياة ، فستخرج دائماً من النيل و الهرم و الأرض ، لتثبت أنها أبدية المعني ثابتة المكانة و المكان .

مصر يا ندهتي .. في الضيق

و غنوتي .. ع الريق

عاشقك حقيق

ناقشك .. علي زنودي

بيارق .. نصر

مهما تدور الدواير

الكل فاني

و انتي باقية

يا مصر


******* 


عندما بدت صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ، و قد زال عنه ذلك الو ميض الذي لازمه منذ بداية الثورة المصرية عام 52 ، و حل محله الحزن و الحسرة و مرارة الحدث و هو يعلن التنحي ( ... أنني أتنحي عن أي منصب رسمي و أعود إلي صفوف الشعب كأي مواطن عادي .... ) صوته كان دموعاً بللت وجوه الأمهات الطيبات اللائى فقدن أبناءهم .. و حسرة ووجع للزوجات و الأباء و الأبناء .. الهزيمة لها ملامح الموت ..


و أبناؤنا تناثروا علي رمال سيناء بينما أشجار الحلفا و الصبار تخرج و تعلو شاهدة علي الهزيمة و لكن أبي الشعب أن يرضي بالظلام ، و اندفعت حشوده تطلب الحرب .


طوابير الشعب الشعب الشعب

في ساعة النكسة اللعنة الصعب

خرجت طوفان تتحدي الصعب

يوم 9 يونيو اليوم الصــــــعب

خرجت جماهير عمالنا الصعب

زي البراكين طوابير مع بعض

حالفين لبلدنا ندوس الصعب



و لم تكن السمسمية بمعزل عن المعركة و الحرب ، فبعد أيام من الهزيمة ، أعلن جمال عبد الناصر إعادة بناء القوات المسلحة ، و الاستعداد لمواجهة حاسمة مع العدو . و ما هي إلا خمسة شهور و بالتحديد في مساء 21 أكتوبر 1967 . استطاعت البحرية المصرية إغراق المدمرة الإسرائيلية في شمال البحر الأبيض المتوسط ببور سعيد .. 

يا دنيا غني و اشجينــا راحت إيلات المسكينة

ضاعت إيلات اليهودية بالصواريخ المصريـــــة

يا دنيا غني و اشجينا . آه 
فيها ضفادع بشريـــــة والخبرا و البحريــــــة

و كلهم راحوا في الميــه بالصواريخ المصريــــــة

يا دنيا غني و اشجينا . آه 



وإذا حاولنا أن نستحضر تلك الأيام .لن نغفل ما تحدثنا عنه من قبل من أن السمسمية تحولت بأوتارها الخمسة إلي أداة قتال ورمز صمود لأبناء مدن القناة ، الذين تفرقوا في القرى والمدن . لا يجمعهم إلا ذلك اللحن , الذي يخرج الأرواح من مكامنها, ويجعلها تحلق باحثة عن أمل جديد. 


غنى يا سمسمية

لرصاص البندقية

ولكل ايد قوية

حاضنة زنودها المدافع



ومع حرب الاستنزاف . تم تهجير أبناء مدن القناة . وتلك كانت أكثر الأيام بؤساً في عمر مدن القناة الثلاث


بور سعيد و السويس و الإسماعيلية . فهذه المدن التي ألقاها البحر من طياته ، و صارت حوريات متوثبة


و حالمة . منذ افتتاح القناة عام 1869 . هجرها أبناؤها إلي المدن و القري و النجوع البعيدة . و تحولت إلي أطلال إنسانية تنتظر عودة الروح و الأبناء . 


يا مسافر بور سعيد

عند البلد الحزينة

سلم علي كل نسمه

بترفرف ع المدينة

وهات حفنة تراب

واقطف لي عرق غاب

يا بلدي يا عزيزة

في نسمتك اللذيذة

شـوقي يوم عن يوم يزيد

للغالية بور سعيد


و لعلنا نلاحظ مدي إحساس الجماعة الشعبية بألم الفراق و البعد عن الأرض ، فذكريات النشأة و الميلاد ،


و الحنين إلي نسمة الهواء و حفنة التراب و عرق الغاب . تعتلج في النفوس ، و تبعث الوجع و الألم في قلوب المهجرين ، ليتحول غناء السمسمية إلي إحساس مشترك بالفراق ، و محاولة للتعارف و اللمه و الونس في بلاد الغربة . 


يا رايح السويس

أمانة الله / .. عليك

أول / ما توصل / .. لبابها

توطي . تبوس / .. ترابها

و تتذكر / .. شبابها

مين مات / .. ؟

و مين يعيش /



و لم تكتف السمسمية بلحن الغربة الحزين ، بل تدفقت أوتارها بألحان من اللهب و البارود . تدافعت بلا حاجز أو حد من قلوب تمتلئ بسحر غامض يزلزل الأجساد .لا نعرف له معني إلا حب الوطن . 


كاتفاً سلاح كاتفاً سلاح يا ولاد . . كاتفاً سلاح

كاتفاً سلاح كاتفاً سلاح يا ولاد . . كاتفاً سلاح 

أجمع على كل المواقع في البلاد الثائرة . . . كاتفاً سلاح 

كاتفاً سلاح يا ولاد كاتفا سلاح
اجمع وقيد منها الوقيد على الأعادي 

الغادرة . . .
كاتفاً سلاح يا ولاد كاتفا ً سلاح




ولأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة , فالجميع مثخنون بجراح الهزيمة , وأرضنا محتلة وترزح تحت أقدام جيش الدفاع الإسرائيلي , والقدس مكللة بالسواد والدموع . لذا كان لابد من الدفاع والتضحية.


هجرنا المصنع والولاد . . والولاد وعشقنا المدفع 

والجهاد . . والجهاد

دوس . دوس

دوس يا بطل يا بطل يا بطل دوس ع الزناد

دوس يا بطل يا بطل يا بطل دوس ع الزناد




و لا يمكن أن ننسي مشهد استشهاد البطل عبد المنعم رياض . الذي صار بطلا مثالا تتغني ببطولاته و استشهاده الأفئدة ، التي أضناها موته و فراقه .إن استشهاد الفريق عبد المنعم رياض و هو يقف علي الجبهة عارياً من أي دفاع إلا الحب و العشق لهذه الأرض و تلك السماء ، ووداع المصريين له في جنازة مهيبة لهو صورة أخري من صور الصمود و التحدي و المقاومة و انتظار الخلاص .


موج الكنال بالحزن قال

رياض يا مصر سقط شهيد

راجل و لا كل الرجال

جريء و قلبه من حديد

قائد و كان من موقعه

طاقة محبة بتدفعه

طالل و قلبه ع الكنال

كأنه كان بيودعه



ولم تشهد مصر في تاريخها حزناً مثل حزنها على الزعيم الراحل 
جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 1970 , بعد حياة حافلة بها من المباهج والانتصار بقدر ما بها من الحسرة والألم .


حلمه بالوطن كان عظيماً , وإخلاصه وتفانيه من أجل الحرية والاستقلال لكل ربوع الوطن العربي , جعله من الأسماء الخالدة في التاريخ الإنساني .


فالخلود لازمه منذ قيادته للثورة المصرية وتأميمه لقناة السويس ,وبناؤه للسد العالي , وانحيازه لجماهير البسطاء من شعب مصر التى ودعته على أنغام السمسمية الحزينة.


الوداع يا جمال يا حبيب الملايين . . . . الوداع

ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنيين . . . . الوداع

أنت عايش في قلوبنا يا جمال الملايين . . . . الوداع

أنت ثورة أنت جمرة لجل كل الشقيانين . . . . الوداع 

أنت نوارة بلدنا واحنا لوعنا الحنين . . . . الوداع




وعندما استشعر المغنى الشعبي بفتور الجبهة الوطنية في مرحلة الاسلم والا حرب ، حاول أن يوقظ الهمم بأشعاره وأغانيه , وأراد أن يذكر الجميع بالحرب المنتظرة


سكت ليه يا مدفعي يا لحن غاب عن مسمعي

فين اللهب فين الصدى خايف لاتبلى من الصدا

اصحي وجلجل في الفضا خلى الأمل يصحى معى




وبعد طول انتظار أتى النصر ، أتى بعد ست سنوات كاملة , تجرع المصريون فيها مرارة الهزيمة , وعانوا من الإحساس بالضآلة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء .وجد المصريون جنودهم يعبرون القناة , ويحطمون خط بارليف الحصين , ويرفعون أعلام مصر لترفرف مع نسمات هواء انتظرناه طويلاً . 



ياما قاسينا وياما طال الانتظـــــــــــار ياما حلمنا ياما بيوم الانتصـــار

واهي رجعت الابتسامـــــــــــــــــــة والعــــــــزة والكرامــــــــــــــة

والرايــــــة فوق الهامة منصورة منصورة منصورة منصورة يا بلدنا يا بلدنا



وبعد النصر لاحت في الأفق تباشير العودة , العودة التي انتظرها المهجرين طويلاً . كم كانت قاسية تلك الأيام التي قضوها بعيداً عن أرضهم الرؤوم , التي تشتاق إليهم , وتعرف انهم حتماً سيعودون.


فجر الرجوع أهـــو لاح روح يا دمع العيــــــون

واطلع يا نور الصبـــاح وافرش ضياك ع الغصون

نور بلدنا الحبيبــــــة خلى السحابة الكئيبــة

تبعد عن الشمـــــــس وعن ضى القمـــــــــــر

لقد كانت السمسمية في هذه الفترة أداة التواصل الحي بين أبناء مدن القناة , أرخت بالألحان والأنغام ما عجز عنه المؤرخون . لأنها كانت تنقل ما لا نراه , تنقل ذلك ـ البعيد ـ الذي حلم به أبناء مدن القناة ، والذي تلالا يوماً عند البحر الذي يأتي دوماً بالجديد . 


بعد انتصار المقاومة اللبنانية..
ظهر الشاعر المصري "الأبنودي"..
ليغني لانتصار المقاومة..
فقال نصّ إنسانيا مصريا كبيرا فعلا..
ردد على امتداد قصيده.. لازمة معبّرة للغاية..
"أنا المصري كريم العنصرين"..
كانت كلماته عن الانتصار حزينة..
لقد أعاد هذا الانتصار العربي.. إلى مصر العربية حتى نقي العظم.. 
حالة السؤال الشعبي المصيري الرهيب والمقلق.. 
أين مصر.. 
حزب الله سحق اليهود.. الإسرائيليين والعرب معا..
في ساحات القتال..
والأهم..
في ساحات الشارع العربي المقاوم بالفطرة..
في الحرب..
كان الشارع العربي حاضرا بما يلزم..
والشارع العربي في مصري.. قويا بما يكفي.. حتى يخاف منه الجميع..
لقد احتضنت القلوب العربية هذا الانتصار..
بما يحتاجه من الدفء والرعاية والحنان.. حتى يعيش طويلا..
وكانت مصر العربية المسلمة.. أم هذا الطفل..
كما كانت دائما أم العرب جميعهم..
وهذه عين الحقيقة..
ومع كلّ ذلك..
لا يزال حقّا.. السؤال.. أين مصر.. كريمة العنصرين..
مخيف..
هذا القادم بصمت من أعماق الآف السنين.. ومن أعماق الصبر..
على الطغاة / السراب..
يا مصر.



الشارع العربي المصري كان حاضرا اثناء معارك الحرب السابعة و لم تنقطع التظاهرات و الأحتجاجات رغم 
قمع النظام مستخدما الجيش الموازي و المسمي خطئا الأمن المركزي " بعد أن أصبحت خدمة العلم أو التجنيد الأجباري يجند الشباب في قوات الأمن عوضا عن القوات المسلحة تنفيذا لأتفاقيات كامب دافيد"
و هذه بعض من صور مظاهرات التضامن مع الشعب اللبناني و مقاومته الباسلة و مع الشعب الفلسطيني و يظهر في بعض الصور صور ناصر بجانب صور نصر الله و في ظل هذا القمع البوليس و الحصار الأمني الذي شاهده بعض من الأخوة أعضاء المنتدي لو نظمت حملة للتطوع في القتال لتطوع أكثر من مليون مصري هذا هو الشارع العربي المصري بعد أكثر من 25 عاما من التطبيع الأعلامي و الحرب الأعلامية علي عقول الشباب 






































بقلم: عبدالرحمن الأبنودي:أنا المصري
.. 
كريم العنصرين سليل المخلصين.. المؤمنين وحامي الأمة في وقت الشدايد
وشقَّاق السِّكك للواردين ودمّي ملك ليكم.. أجمعين أنا المصري كريم العنصرين.***
أنا المصري كريم العنصرين..فقدت العقل والصوت والأيدين 
وبعد ما كنت نجدة وروح ووقفة مانيش عارف نسيت ده كله فين 
ومين اللي سلبني اسمي مين؟!أنا المصري..كريم العنصرين..؟***
وكنت أصرخ أطفِّي النار بصوتي ويحيي أمّتي في الشدّة.. موتي فمين اللي كتب عاري ف جبيني
ومين اللي سرق شعلة سكوتي وأنا اللي غنايا صحي العالمين أنا المصري كريم العنصرين..؟***
أنا مِتْباع.. ماهيش عادْتَك يا وطني عدوْ.. لِعدو.. ومين ما قبضْش تَمَني صبي البقال يتاجر في الضماير
وأحلا عمري ضاع مستنِّي زمني..بقينا بصمتنا الموت.. مُكتفين.أنا المصري كريم العنصرين***
كان الوحل.. شد الرِّجل منِّي أنوح وأبكِي وأنا قاصد أغنّي وواقفين علي الشطوط بأيادي سودا محال.. 
حيغرّقوني غصْب عني لو نصبوا في قلبي ميت كمين أنا المصريكريم العنصرين.***
بنيتها من الهرم للسدِّ.. يَدِّي بنتْها كلها ف لحظة تحدي وكنت زعيم نبيل ما بين جيفارا وتيتو وكاسترو ونهرو وغاندي
ومش محتاج أقول أنا كنت مين؟أنا المصري كريم العنصرين!!***
وكان يخطب تصيب الدنيا ربكة ومن لبنان يعود أسطول أمريكا ولينا في الوجود كلمة ومكانة وأخوة في الأمل..
دمعة وضحكة ورقابينا الأبية... مرفوعين..أنا المصري كريم العنصرين..!***
وجُونا اللي رمونا... للمهالك تقول: »لأّه « يقولولها: »وانتي مالِك
«؟تقول: »لبنان.. أحبابنا الأعزّة..«يقولوا: » يغوروا.. وتغوروا كذلك
«.نسيت من همي أبقي إزاي حزين!!أنا المصري كريم العنصرين***
وبعنا كل شئ ينباع.. بِدِقَّة بشفافيّة ومن غير أي سِرقة ونظَّرْنا لِعِلْم النهب.. صرنا بننهب كل شيء.. لكن برقة 
بقينا دكاترة وسط النشالين!أنا المصري كريم العنصرين.***
زمان كان فيه مَلِك فاحت روايحُه وثوار جيش بروحهم يومها.. ضحّوا وكان لنا شأن 
حتي في الهزيمة وطن.. كان يعجبك جمعُه وطرحُه علينا عين.. وباقي الأمة عين.أنا المصري كريم العنصرين.***
وعاد تاني الملك يحكم بلادُه..ومن بعد السنين دي.. زاد فسادُه وكنا سادة فوق أرض الكنانة وأصبحنا عبيدُه.. أو عِبَادُه 
وضاع في الزحمة مشوار السنين..أنا المصري كريم العنصرين.***
وتاني يا الفقير عاد من يخونك وتتهان في بلادك عيني عينك ولا الدِّين مكتفي من مص دمَّك 
ولا عارف ديونهم من ديونك وجيت للحق؟.. كله سلَف ودين أنا المصري كريم العنصرين***
وده يسلِّم لده والعصر فاجر وتاجر حِنْت.. سلّمنا لتاجر وأُم الأمة مصر الإنسانية بتتآمر...
وبتداري الخناجر وكنت النجدة واستنجد بمين أنا المصري كريم العنصرين..؟***
وكنت أصرخ.. وكان الكلّ يسمعوامِدِّ الإيد.. 
عدوّ الأمة يرجعو جاني النطع يأمرني ويشخُط وخلاني بقيت في الحق أنطع
أنا اللي كنت أصحِّي الغفلانين أنا المصري كريم العنصرين!!***
وكانوا يقولوا: » مصر«.. الشمس تطلع وتعلا رقابنا فوق وعيوننا تلمع وكنا نشيل قلوبنا فوق كفوفنا
اوبصدورنا نواجه أي مدفع فمين ساعدنا ع الوضع المهين..؟أنا المصري كريم العنصرين!!***
وإزاي النهاردة الدم.. عُومي 
مقلقِل صحوتي وساكن في نومي دمانا بتشتعل في أرض غزة ولبنان..
نارها ماسكة في هدومي 
وأنا اللي في الأسي واقف ما بين!!أنا المصري كريم العنصرين.***
ولولا الأنظمة العربية لامت..وفي صفوف العدو حتكون 
وكانت ما كان الموت عرف » صيدا« و»بَعَبْدا«
ولا كانت قيامّة الغدر قامت ولا قلب العرب بيِّت حزين!.أنا المصري كريم العنصرين.***
وشوف لبنان بترحل من جنوبها ونوم الليل.. ما بْيعرف جُنوبها سطور النمل زاحفة للملاجئ 
وريح الخونة ما هدِّت هبوبها ألوف راحلين في قلبي مذعورين!!أنا المصري كريم العنصرين!!***
في البنان أنامِ اللِّي خانوك ياحزب الله حكامنا باعوك ياصاحبي.. 
ما عُدنا نملك غير هتافنا هتافِنا مُرّ.. مالي رقابنا شوكوعَلَنِي.. بنفعل الفعل المشين!!.أنا المصري كريم العنصرين.***
يا(نصر الله) ده... زمن البياعين وإنت طلعْت للأمة.. منين؟ تفكرنا بكل اللي نسيناه 
أظنه صعب يصحوا الميتين وخليتنا ـ الجميع ـ متفرجين أنا المصري كريم العنصرين؟.***
مازال نفس العدو.. ومازال خبيث أبونا مات وسابْهُولنا.. وَريث ومهما يلف ويدور..
راح يغوروإسأل عِندنا بيوت السويس حلاوة روح.. وحياة الحسين!!أنا المصري كريم العنصرين.***
بقت رايتك خلاص رمز لجهاد كبقت رمز المقاومة في بلادك ولبنان كلها بايتة في ضميرك خلاص 
صَبَح الجهاد ماءك وزادك لغير المسلمين والمسلمين!!أنا المصري كريم العنصرين.***
بلاد الأمريكان إحنا وصهاينة وصمتي ع اللي حاصل.. كلُّه معني مازال الحلم لم فارق دمايا 
علي رغم اللي عاشُه طعنة طعنة يالبنان الكرامة.. لا تلين أنا المصري كريم العنصرين.***
ويالبنان ما تِطْفيش نار نضالِك رجالك.. حتي لو ماحناش رجالك 
بحور الدم ما تغرّق حقوقك ولا تكسر مجاديف احتمالِك حبيبك.. بس مش قادر أَعِين..أنا المصري كريم العنصرين


أيد عبد الناصر واعتقله السادات
كابتن غزالي 

أحببت الوطن ولم تشاركه أنثي في مشاعري 
> قالوا إنني رجل يدرب الرجال لكي يموتوا
> جمعت كل من يحب مصر وعلمتهم معني كلمة وطن
> أنشأت فرقة «أولاد الأرض» وبدأت رحلتي في قري ونجوع مصر
ياسمين مجدي


وعضم إخواتنا 
نلمه نلمه .. نسنه نسنه
ونعمل منه مدافع 
وندافع
ونجيب النصر
هدية لمصر
قد تصنع الكلمة حلما وزيتونا ونخلا وتمحو في أحيان أخري أوطانا وشعبا. 
وسواء جاءت من قاعات المؤتمرات أو خرجت من أعماق الغارات فللقلم ذاكرة وللكلمة تاريخ تذكر في طواعية، الكابتن غزالي الذي يذكر لنا حكايته مع الحرب اللاانسانية وكيف مات أمام عينه أبطال وثوار كان لا يفصلهم عن الصهاينة سوي أمتار قليلة.. صنعت تلك الأمتار من الغزالي فنانا ثوريا أسس فرقة أولاد الأرض في زمرة المعركة فكان نصيبه الاعتقال في عهد السادات. 
مقاومة شاعر
> كيف تفجر الغزالي شاعرا يقاوم بشعره العدوان علي مدينة السويس؟
- الشاعر الذي أحترمه يكون دائما في صف الإنسان وفي حالة من الدفاع عن العدل والحرية إلي آخر قائمة الكلام الإنساني، فالأديب والفنان كلاهما لا يساويان شيئا إن لم يكونا في صف أمتهما وأنا من هذا القليل الذي يهتم بشعر المقاومة، وبالطبع مصر لم تكف عن الحروب التي خاضتها في مواجهة العدوان الذي إن لم يأت من الخارج كان من الداخل، لذا أردت أن أدافع عن الوطن والخير والجمال . 
> وماذا فعلت كي تكون هذا الشاعر الذي يقف في صف الإنسان؟
- لقد قمت بتجربة رائعة جمعت كل من يحب مصر وعلمتهم معني كلمة وطن وكانوا جميعا من عمال مصر «الغلابة» فكونوا فرقة «ولاد الأرض» وبدأنا ندور في مصر كلها بأغانينا. 
> علي هذا المنوال تكون أشعارك صاحبة أثر كبير في نفوس أفراد المقاومة؟
- لقد كان يقال عني انني رجل يدرب الرجال كي يموتوا ومات كثيرون كلهم في ذمة الله. 
لقد كنت أباهم وحتي الآن مرتبط بهم بعد مرور 40 عاما وكلهم كبروا وشابوا ولازالت تجمعنا تجربة الحرب المريرة التي إن قرأها أي شخص شاب من أهوالها، فالحرب لا تعد أكثر من كونها مسألة لاإنسانية، لقد كان الفرد منا ينسي أن يستحم.. يسير بملابسه الممزقة وتسليته الوحيدة أن ينظف رأس زميله من القمل . 
> وماذا عن الإسرائيليين هل وصلتهم أشعارك وما رد فعلهم؟
- حينما كنا أمامهم في بورتوفيق كانوا علي ضفة ونحن علي الضفة المواجهة يفصل بيننا وبينهم أمتار بسيطة استمر هذا الوضع ست سنوات جعلت بيننا وبينهم علاقة .. نكلمهم ويكلموننا ويلتقطون أغانينا بأجهزة تنصت فيعيبوا عليها في إذاعتهم خاصة متحدث في إذاعة إسرائيل يسمي حمدان وهذا شيء عادي جدا يحدث في الحروب كنوع من تثبيط الهمة. > رجل مثلك يدرب الناس علي الموت هل لم يخف تجربة كتابة الغزل؟
- نعم أنا مقل خارج إطار الشعر الوطني فأنا لم أحب امرأة .. لم أحب غير الوطن والناس وجاءت قصة حبي الأول للشعر خصوصا في 67 حينما كان الوطن في خطر، كل شيء أحبه كان في خطر، لذا كان من الضروري لكل من يملك أدوات التعبير أن ينزل لساحة المعركة.. جنود يطبخون .. يغسلون أو يغنون ليرفهوا عن الآخرين. 
أزمة الفن الهابط
> نأتي للظروف الراهنة لاحتضار الكلمة والموسيقي هل الموجة العالية لم تجرفك لطريقها بعيدا عن الشعر الوطني؟
- أنا من المهتمين بالكتابة الأدبية علي وجه العموم ومن الذين يحافظون علي مبادئهم وإذا قلنا الحق الشعر لا يطعم العيش وإنما لا يجب أن نأكل من وراء كل شيء، فلابد أن يكون هناك شيء لوجه الله وهذا الشيء اسمه الإبداع، فعلي سبيل المثال نانسي عجرم لديها عشرات الشعراء الذين يكتبون لها كما تريد وهؤلاء ليسوا بشعراء بالإضافة لذلك أنا بطبعي لا أغني للهوي. 
> بالرغم من أن الوطن في مشكلة حقيقية تتمثل في ضياع العراق وفلسطين وأزمة لبنان إلا أن هذا لم يؤثر علي الغزل في أغانينا العاطفية؟
- أنا غير متفق مع هذا الوضع الذي لم أكن أقبله اثناء العدوان علي السويس لقد ظهرت أيامها أغنية «الطشت قال لي» في حين كان الفرد علي الجبهة عطشان لم يشرب ماء منذ أسبوع ويأتي جندي إسرائيل ليريق الماء أمامه، فوجب علّي وقتها أن أرد علي هذا الكلام، وقد استفزني الإقبال الجماهيري علي فيلم «خلي بالك من زوزو» في حين أن أبناءنا يموتون علي الجبهة فقلت: 
خلي بالك
من زوزو
واحكي حكاية مرمر
واللي يجيب سيرة الخلاص
علي بوزه يتجرجر
مدد ياست امتثال
ما في داهية الرجال
وفي داهية سينا والقنال
إيه داخلكم م الحالة عال
والأمريكان عاشقين بوزو

وحدثت لي مشكلة مع عبدالحليم الذي كان يحيي حفلة بالإسكندرية وكنت هناك أنا وفرقتي فغني أغنية «سواح» وقال: طوحنا يا هوي فاستفزني أن يقال هذا الكلام والجبهة مستعرة والسويس غارقة في الحرب فقلت: 
مش هاغني للقمر ولا للشجر
ولا للورد في غيطانه ومنيش سواح
ولا هاقول للهوي طوحنا
طول يا بلدي مافيكي شبر مستباح
فرفع علّي عبدالحليم قضية لم تنته إلا بتدخل الأبنودي للصلح. 
> إذا كان هذا هو رأيك بأغنية عبدالحليم فكيف ستري الوضع المتأزم الحالي للإبداع الذي ينطوي علي تسطيح الوعي؟
- الساحة الآن بلا إبداع لأن الإبداع هو تقديم وخلق الجديد والموسيقي المصرية قليلها الجيد لم يأخذ فرصته، وبصراحة نحن لا نملك موسيقي مجردة إنما هي موسيقي ذليلة صنعت خصيصا للأغاني ولم نعد نستخدم إلا موسيقي الجاز الإفريقية وهي مجرد إيقاعات ليس لها علاقة بوجداننا وأفكارنا، عكس مثلا الربابة التي إذا سمعناها شعرنا بعلاقتها بأحلامنا وأفكارنا، أضف إلي ذلك تلك الكليبات العارية التي تستهدف التلاعب بمشاعر المراهقين أملاً في المكسب وأي أمة تجور علي أخلاقها وتروج الفاسد لابد أن يدفع الثمن الأجيال القادمة. 
> وماذا عن رأيك في التجارب الموسيقية العربية؟
- تجربة قطر علي سبيل المثال كان لديها إيقاع واحد فاحضرت متخصصين وجمعوا هذه الإيقاعات وكأنهم وضعوا لها المساحيق ليجملوها فأصبحت كالبدائية التي تطرق باب العالمية وليس لديها هذه القدرة. 
> علي هذه الصورة نستطيع أن نظن كابتن غزالي دارسا لفن الموسيقي؟
- أنا لم أدرس دراسة أكاديمية إنما قرأت وهذا شيء غير متيسر لكثير من الأكاديميين وحينما نري الفن الرئيسي كالربابة والربع والمواويل نجد أن الذين ابتدعوه أميين امتلكوا القدرة علي التفكير والإبداع. 
موقف من الحياة
> مع معرفة موقف جمال عبدالناصر من بعض الجماعات كالإخوان المسلمين فكيف كان موقفه تجاه ولاد الأرض؟
- كنا نحبه كثيرا، فلقد كسر عبدالناصر بعد 67 لذا كان يجب علينا بكل حب أن نشد من أزره ونسانده حتي يقف علي قدميه، أما في عهد السادات كان نصيبي أن أتشرف بالنزول في أحد المعتقلات حينما حل المقاومة الشعبية. 
> أشقاؤنا اللبنانيون الذين هدمت منازلهم ماذا يقول لهم كابتن غزالي؟
- والله حترجع تاني لبيتك ولغيطك يا خال وحتلقي الرملة خضرة علي طول القنال والله وحتلقي شجرك عالي والفاكهة فيه بتلالي وبتنده تعالالي أنا غالية ومهري غالي من دم الرجال.


هى أقصوصة صغيرة فى خطاب رقيق وحزين، من خمسة أسطر، بعث به إلى العم محمد غازى من السويس أطار النوم من عينى لأيام. فقد شعرت ولاأزال بأن ذلك البطل السويسى سبعينى العمر يعانى من مشكلة ما لا يرغب فى البوح بها. أقصوصة عمرها 35 عاما كتبها عنه أحد أبطالنا فى القوات المسلحة، ودارت وقائعها فى 11 يونيو من عام 1967، لكنها لاتزال ماثلة فى ذاكرة صاحبها الذى يقول فى مرارة "لا يهمنى أن يقول أحد عنى إننى كنت بطلا، فما كتب ليس إلا ربع الحقيقة". ويقول الكاتب الكبير المرحوم أحمد الصاوى فى مقاله الشهير ب "الأخبار" ما قل ودل نقلا عن أحد أبطالنا عن العم محمد غازى: كان ذلك منذ ثلاث سنوات، وكنت وبعض الجنود عائدين مرهقين فى الانسحاب المشئوم، وقابلنا هذا الشاب، ومعه شابان آخران شرق القنال بحوالى عشرة كيلو مترات، كانوا يرتدون ملابس عليها شارة هيئة قناة السويس، وكانوا يحملون بعض الطعام والشراب، متطوعين لاستقبال الجنود، قدموه لنا، وبدأوا المسيرة معنا فى اتجاه خليج السويس، ليعبروا بنا الخليج فى المنطقة الجنوبية للقنال، وبعدما قطعنا نحو خمسة كيلو مترات فوجئنا فى اتجاهنا المضاد بعربة نصف جنزير للعدو كجماعة استطلاع. 
كان الشاب محمد أحمد غازى فى هذا الوقت يحمل أسلحة الأفراد وحده، ولما لمحهم هرع وألقى بالأسلحة خلف تبة صغيرة تصادف وجودها هناك، وصوب الجنود مدافعهم الرشاشة نحونا، وأمرونا بالتقدم، ولم نتحرك. كان العدو نشوان بفعل انتصارهم الرخيص، وكادوا يطلقون النار، لولا أن ظهر هذا الشاب من خلفهم وكأن الأرض قد انشقت عنه، وفى يده رشاش وصرخ فيهم بقوة أن يلقوا سلاحهم. وأذهلتهم المفاجأة وشلت حركتهم، وكأنهم أمام شيطان مريد بدا شامخا برأسه كأنه قدر، وهو يهددهم فامتثلوا لأمره، وألقوا بأسلحتهم إلى الأرض، وبعد إفراغ ذخيرتها، أمرهم بأخذها والهرب سريعا. ويقول راوى القصة للصاوى إنه سأل محمد أحمد غازى: لماذا لم يطلق النار عليهم فضحك السويسى الشهم وقال له إنه كان يلمح طائرة استطلاع للعدو.. ثم إن المدفع الرشاش الذى كان يحمله لم تكن به طلقة واحدة. 
ويقول الراوى: هكذا أحسست للمرة الأولى فى الأيام الأولى للنكسة بأن وطنا تحت سمائه مثل هؤلاء الشباب لا يمكن أن يرضى بالهزيمة أو يقبل بغير الثأر. انتهى مقال الصاوى، وبقيت قصة ابن السويس الشهم العم محمد غازى، والرجل حسبما فهمت من خطابه القصير لديه كلام كثير يود لو يقوله، "إن أردت كتبه لك وأرسلته إليك". وأنا فى الانتظار فى يا عم غازى. - من أغانى السويس: 
وعضم ولادنا نلمه 
نسنه 
ونعمل منه مدافع 
وندافع 
ونجيب النصر هدية لمصر. 
... من أجمل ما كتب الكابتن غزالى متعه الله بالصحة والعافية، وأروع ما غنت فرقة "أولاد الأرض".


'ولاد الأرض' في فرح سويسي بزي المقاومة 
فرقة أولاد الأرض..المقاومة تغني 

لم يكتف المصريون بالقتال بل غنوا للمقاومة و الجنود و الشهداء 
كما غنوا للأرض و التشبث بها و غنوا في الأفراح واثناء حرب الأستنزاف 
لم أنس هذا اليوم ..
عصاري أحد أيام صيف يوليو ..68 واقفا أمام بيت عمومتي.. في شارع زين العابدين، المتوسط لقلب حي الأربعين (الشعبي) بالسويس.. بمسافة عرض شارع تفصلني عن مدرسة هلال الابتدائية.. الشهيرة في قلب الحي.. وأساس تعليم الجيل السابق لنا في مراحل التعليم المختلفة..
ننهي تجهيزات فرح ابنة عمي، علي ابن عم آخر والذي بدأت خيوطه الأولي، في هجرتنا إلي بلدتنا الأم القرعان.. مركز جرجا .. محافظة سوهاج.. الموطن الأصلي لمعظم أهالي الحي، جاء رجالها، شبابا مغامرين، هربا من فقر الصعيد، بعضهم جاء علي الأقدام مسترشدا بقضبان السكك الحديدية.. من جرجا وحتي السويس (قرابة 600كم).. في عدة أيام .. بقليل من المش والخبز الصعيدي اليابس.. عملوا في الميناء ومعسكرات الإنجليز، وشركة البترول الشهيرة آنذاك (شل).. وغرقوا في زحام الدنيا، ولهاث السعي وراء لقمة العيش.. حقق الكثير منهم نجاحات اقتصادية.. تمثل معظمها في امتلاك بيوت، يؤجرون شققها للآخرين، معظمهم من أبناء عمومتهم في القري الأصلية.. أو فلاحين من الشرقية اشتهروا بتجارة الخضروات..
وتفرق بعضهم بإقامته، حسب موقع عمله، ما بين بورتوفيق، وكفر النجار، وكفر أحمد عبده.. ثم وراء لهاث لقمة العيش، وإصرار معظمهم علي تعليم أبناء الجيل الجديد، هربا لواقع مستقبل جديد، يحلمون أن يستقلبهم بخير أفضل، منهمكين في مشروعاتهم الاجتماعية الخاصة، نائين بأولادهم عن روابط الفقر القديم.. فلم يتعرف كثير من أبناء هذا الجيل ببعضهم البعض.. إلا عندما جمعتنا الهجرة في يونيو..76 نكتظ في القري الصعيدية الصغيرة، نكتشف قرابات وصلات مقطوعة.. واختلافات.. وتواصلات جديدة.. إحداها هذا الزواج الذي بدأ بخطبة هناك أثناء العام الدراسي، في مدارس جرجا الإعدادية والثانوية.. ثم عودة ملهوفة لبيوتنا في السويس، علي أمل استقرار لايعيدنا من جديد للتهجير..


علي جانبي الشارع، أمام المنزل، نرص بعضا من كراسي بسيطة هنا وهناك.. ودكة خشبية غريبة وضعوها بجوار الحائط، أسفل شباك العروس في الدور الأول للبيت، وجدت عليها (طبلة) غريبة متروكة عليها.. سألت فقالوا أنه الاستعداد لاستقبال (الفرقة)، التي طلبت أن نجهز لها هذه الطبلة.. تساءلت في نفسي، مستغربا، أية فرقة هذه، وهل هناك (فرقة أفراح) جاءت وسط كل هذا الغم، لتحيي أفراحا نادرة وغير متوقعة.. ومن لديه (نفس) لأي غناء أو رقص.. أو حنة سويسي.. أم أنهم بعض من مرتزقة (الطبل البلدي) الذين يقتحمون الأفراح عنوة.. أم .. أم.. عموما لننتظر !!

فرحنا.. بلا أضواء ولا ميكروفون.. وحتي بلامعازيم.. فلم يغامر الكثير من أهلنا بالعودة.. وكذا سكان الحي والجيران.. ويقتصر الأمر علي الممكن من الحضور، وفي ضوء النهار، قبل دخول الليل علينا بأضواءه الممنوعة، بأوامر الدفاع المدني، وخطر الغارات الإسرائيلية الليلية.. اللهم إلا إضاءات طفيفة في البيوت.. لجأت أمي.. في مرات كثيرة إلي ترك وابور الجاز مشتعلا في أقل درجاته نسترشد علي أضواءه في البيت.. غم..
اليوم.. هو الثالث، لمغامرة خطرة، كان لابد منها بالنسبة لي، لأقاوم أحلاما طويلة، عمادها.. عدم التصديق.. وبالأدق.. هو الرغبة الجامحة في عدم التصديق.. كنا قد تعلمنا قيادة (الدراجات) في التهجير، في تبادل خبرات وشقاوات صبا.. أغريت بها في السويس، ابن عم لي، أكبر سنا، وبيتهم الأصلي، في بورتوفيق، حيث يعمل والده في (الجمرك)، ومقيم في منزل متفرد مع أسرته، قالوا أنه يطل علي القناة.. وأنهم كانوا يرون سيناء من أعلي (سطوحه).. قلت نتفرج علي بيتكم، ونعرف موقعه، خاصة وأن مصلحة الموانيء والمنائر، لم تأخذه منهم، بعدما اضطروا في البداية للسكني في حي الأربعين، بعد النكسة مباشرة، حيث أصبحوا في مرمي العدو، وأصبحت منطقة بورتوفيق، شبه منطقة عسكرية.. وإن لم تك محظورة تماما علي المدنيين القدامي.. كما أن عمي مايزال يحتفظ بمفتاح البيت، وأيضا، لم يستخدمه الجيش، مقرا لمكاتب ضباط كغيره من المنازل المجاورة..

استأجرنا دراجتين كبيرتين، واصطحب به شقيقي الأصغر، أمامه، بحكم أنه الأكبر والأكثر سيطرة علي دراجته.. وتقدمنا حتي منتصف طريق (السويس بورتوفيق)، الخالي تماما من المارة، اللهم إلا شاويش مرور كبير السن، توسط أيمن الطريق في كشك خشبي مميز.. وعلي جانبي الطريق في امتداد الرمال ما قبل مياه بحر الكورنيش، أسلحة مرصوصة حولها جنود.. وأمامنا باقي الطريق، تتداعي ذكريات العيد، المميز في طولتنا السويسية، الشعبية.. بالذهاب إلي بورتوفيق بالأتوبيس والتجول أسفل التمساحين المتصدرين لمدخل القناة، 

نلبي إشارة شاويش المرور، الذي خرج من الكشك يعترض طريقنا، نجيبه بوجهتنا.. وحنينا لأماكن بعدنا عنها لمدة عام.. لكنه بأبوة واضحة، نصحنا حاسما.. بأن نرجع اليوم.. ولنأتي في الغد أفضل.


في منتصف طريق العودة، يتنمر العند الصعيدي، والحلم بأن نعود من جديد ولكن هذه المرة، نعبر أولا شريط السكة الحديدية الذي يتوسط طريق بورتوفيق، في طريقه للميناء، ونندفع في اتجاهنا بأقصي سرعة، لا نسمع كلامه 
نجتاز الشوارع الساكنة، إلا من حركة الجنود، بملابسهم الكاكية، وتحصينات الرمال، المنتشرة في كل ركن، نلحظ أن الأشجار الجميلة قد اختفت بنيران العدو.. تجعل المشهد.. أكثر جفافا وتجريدا.. نواصل بإصرار رحلتنا إلي البيت الخالي، حتي من أثاثه، نهرع إلي السطح.. لأري المشهد الصدمة..

سيناء.. التي لم نزرها، ولا نراها، إلا لماما، في فرجة سفن القناة في الأعياد، أو في خرائط المدارس، متعجبا من معلومة أبي عندما سألته قبل 67 عن كيفية الوصول إلي غزة، الحلم الذي يأتي منه ملابس مختلفة وأحذية وثياب منزلية، فعرفت أنني يجب أن أعبر من القنطرة، بعد الحصول علي تصريح عسكري بالمرور.. ولماذا؟ قال لأنها منطقة عسكرية.. تساءلت.. وهل جيشينا بالكبر بحيث أنه يملأ كل سيناء.. ولا أذكر إجابة محددة.. لكني احتفظت بتساؤلي، كيف ننتقل إلي أرضنا بتصريح خاص، ألسنا في وطنية رجال الجيش وإخلاصهم.. أم ماذا؟!
وحتي في استعدادات ما قبل يونيو..67 لم تحتل سيناء، حيزا في فكرنا، اللهم إلا أنها قاعدة انطلاق الجيش، لتحرير فلسطين من الصهاينة.

ثم أكوام رملية متناثرة علي الشاطيء الشرقي للقناة.. عليها مخلفات معدنية لعربات وأسلحة محترقة.. ثم ثياب ورمال هنا وهناك ثم .. سيارة نقل جنود إسرائيل، متحركة من الشمال إلي الجنوب، يهرول خلفها جندي إسرائيلي بأفاروله الأخضر العسكري المميزة لهم، يمسك بسلاح في يسراه، وتتمسك يمناه بصندوقها الخلفي، يصعد.. يجلس علي دكة، يظهر منها نصفه الأعلي، يولينا ظهره باطمئنان.. بينما العربة تواصل طريقها..
علي مدي عام كامل، رفضت بشراسة، تصديق هذه الحقيقة، أصنع لنفسي ومخيلتي أحلام وتفسيرات، بأن في الأمر خطأ لا يفهمه الجميع، وأن الأمر علي عكس كل المعلن، وبأننا لم نهزم ولم تحدث ما يسمونها النكسة.. وبأن ما أنا فيه تحديا، ما هو إلا كابوس طويل أستيقظ منه فجأة.. لأجد النصر وفلسطين وسيناء.. والعزة والانتصارات.. وخطابات جمال عبدالناصر الجماهيرية.. وأغاني عبدالحليم حافظ الوطنية، وملاحم أو برقيات النصر الذي يتغني به الجميع..
لم أصدق .. وبإصرار ..

حتي عندما فوجئت عقب نهاية يوم دراسي، بجرائد الصباح التي تصل لمدينة جرجا، البعيدة عن القاهرة، في فترة ما بعد الظهيرة.. عندما يصل قطار الصحافة البطيء.. بعناوين حمراء مفرحة، بعرض الصفحة الأولي.. عن نجاح قواتنا البحرية في إغراق أكبر مدمرة بحرية إسرائيلية واسمها إيلات.. وبصور السفينة.. وضباطنا الشبان، في أحاديث معهم.. ووقفت أقرأ الجرائد باستعراض في قلب (شارع فاروق)، حتي يري الجميع نصرنا، حتي وإن كانوا حولنا هم أهلنا.. وفرحوا بما فرحنا، لكني كنت أقول في صمت.. أننا لسنا (مهجرين).. كما أخذوا يصفوننا، وأننا عائدون لبلادنا، قد يكون اليوم أو غدا.. أو غدا القريب.. نفقدهم بهجة غلاسة أغنياتهم اللاتي أخذوا يرددونها أمامنا حسدا وضيقا..
يا مهاجرين سنتكم طين ... كيلة الغلة بأربعين..
فقد كانت كيلة غلة القمح تباع بمبلغ 27 قرشا، لكن بعد التهجير وزحامنا في القري والمدن.. وقدراتنا الشرائية الأعلي، وإقبالنا في أوائل الأيام، علي استهلاك استعراضي في المأكل والمشرب، ارتفع سعر كيلة الغلة إلي قرابة الضعف، فاشتكي البسطاء والفقراء وهلل أطفالهم بأغنيتهم المموجة.. والتي قابلنها بتعالي وتحدي.. انتشر معنا، في تفوق اجتماعي وتعليمي وثقافي ورياضي.. نساءنا بالملاءة اللف السوداء الأرق من (البردة) الصعيدية الخشنة..وتجمعات شبابنا تتميز بملابسها الأحدث، واستهلاكاتنا الأعلي.. ثم احتلالنا لمواقع أوائل الفصول والمدارس.. والأنشطة الفنية والرياضية، وتنظيمنا مسابقة دوري كرة قدم للمدارس، ومارثون جري، حول المدينة.. احتل السوايسة كل مراكزه الأولي.. وظهرت باستقرار.. كلمة سوايسة.. ومهاجرين.. رغم أننا لم نهاجر لمحافظات الدلتا، وأوينا لمعسكرات التهجير.. فقد عدنا لبيوت أجدادنا..ومساكن مدينة جرجا، كسكان متميزين، رفعنا أسعار كل الإيجارات، لكنها غيرة، تصورناها حقدا، حتي كشفت عن نفسها بعد عام..75 ونصر..73 فقد سبقونا إلي السويس، يكررون تجاربنا في العمل والتعليم والتطور الاجتماعي، وحتي من سافر منهم للخليج، حرص علي بناء عمارة حديثة له في السويس.. وعاد من الخليج إليها.. فهو حب مغلف لكن الأمر والمشاعر آنذاك.. حتي أكثر من حساسة..

حتي في هذا الاستعراض الصحفي بنصر إيلات.. لم أصدق بالهزيمة واحتلال سيناء.. ولم يك أمام نفسي إلا التأكد بنفسي.. ومغالبة القلق عاما كاملا.. ألح علي أبي في كل أجازة شهرية، بأن نعود في أجازة الصيف.. لأنفذ ما حلمت وما صدمني..

لم أدر كيف خرجنا من البيت.. ولا وجوه الجنود حولنا، ولا سلاحهم.. اللهم إلا أمل أخير.. في عرض لابن عمي، بزيارة منزل مجاور لجيران لهم.. أصبح مقرا عسكريا، لضابط شاب، كان يعرفه قبل الحرب.. والذي فوجيء بسؤالي الصبياني.. لماذا لا نقتلهم الآن ونحارب.. أجابني إجابات عاقلة عن الاستعدادات والتجهيز والخسائر، وموعد للحرب بعد ذلك، يحدده القادة.. ولم أكن في حالة تسمح بالعقل.. لكنني لن أستسلم للجنون فألقيت بنفسي في أحضان الغم..
في اليوم التالي.. وبعد صفارة خروج عمال شركة شل في الثانية والنصف ظهرا، ووصولهم إلي منازلهم.. فيما بعد الثالث.. بدأ الضرب الإسرائيلي.. وقعتا علي الأبواب، ووسط الشارع نرصد.. هذه الدانة سقطت في اليهودية (منطقة مقابر اليهود) في جنوب السويس، وهذه في كفر النجار (في غرب السويس).. وهذه في منطقة السويس نفسها، نهرع إلي حيث يتصاعد الدخان نشاهد، ونتناقل الأخبار، يزعق أبي وتصرخ أمي.. ولا مجيب.. يخيم علينا إحساس عميق بالانكسار.. نضرب هنا وهناك.. ترد قواتنا إ.. وعلينا أن ننتظر حتي يهدم العدو الباب ولو كان من ذهب، كما يقول الأبنودي في الإذاعة في قصائده (وجوه علي الشط) لأننا بعد ذلك سنحقق النصر، ونعيد بناء البيت والباب.. لكن متي.. اللهم أعلم ..


وفي اليوم الثالث.. كان الفرح.. و'حكاية ولاد الأرض' أربعة شباب طوال، أقوياء البنية، يرتدون الأفرول العسكري الكاكي، يحملون أسلحة روسية، يتحلقون حول رجل قصير نحيف القامة، ذوا شعر أكرت، وملامح حادة رفيعة، أسمر اللون، سيجارته مشتعلة علي جانب فمه، بتعالي ملحوظ.. يحيطه الشباب بهالة احترام وانضباط عسكري.. لم أري علي أكتاف أي منهم أي علامات رتب عسكرية.. خمنت أنهم من رجال المقاومة الشعبية المنتشرون كثيرا في المدينة.. جاءوا بالقطع، يمنعوننا من الاحتفال بالزفاف، تحت دعاوي الأمن والحرب.. احتد مقتربا، أسمع عن قرب وجهة نظرهم، لكنني أفاجأ.. ببشاشة استقبال من بعض شباب أهلنا، يحيطون الأسمر، بهالة احترام، يتخلفون عنه في التقدم، ليكون أمامهم يتوسط الدكة، وحوله الشباب.. أخذ أحدهم يجرب الطبلة، ثم رفع آخر رأسه، لجماعة الصبايا اللاتي تحلقن في شباك العروس، يشاهدون ما يحدث.. وطلب ملعقتي طعام كبيرتين.. استفزتني جرأته وغرابة طلبه.. لكنه عندما تسلمها.. قلب مغرفة كل معلقة علي الأخري، وباعد بينهما قليلا، واضعهما بين أصابعه، وأخذ يجربهم محدثا أنغاما غريبة وجميلة..
فجأة.. تركوا كل ذلك.. واقفين.. وإذا بهم يهزون المنطقة بدقات أكفهم اليابسة الصلدة، في نغمات أقرب لصوت ماكينات المصانع.. عرفت بعدها أنها نغمات (الكف السويسي) تيتك.. تيتك تك.. تيتك تيتك تك.. تك.. تك وكرروها مرارا، حتي أعطاهم أوسطهم إشارة صوتية بفمه، فأنهوا صقفهم، بثفلة جادة (تك)..
ثم إذا بهم يهزوني والحاضرون والدنيا.. زاعقين بصوت جماهي جوهري، اجش، تجاوزته عن عدم حلاوته أمام انبهار ما يقول..
إحنا ولاد الأرض (تك)
ولاد مصر العظيمة
تارنا هانخده بحرب
للنصر غناوينا
شباب ثوار
مانسيبش التار
إحنا ولاد الأرض

وعادوا لهز الدنيا، بنغمات الكف السويسي من جديد..

جلسوا.. تولي أحدهم الطبلة، والآخر المعالق.. تبهرني زعقاتهم
يا حمام .. روح قوام
ل جمال ..
بوس خدوده.. وقله جنوده
اشتاقوا والله للقتال


لاحظت هاونة زاحفة، آتية من كل الأطراف، لأهالي المنطقة، جاءوا، كما هم، في غناء الفرح.. بالجلباب والشبشب، والبيجامات، ونساء ظهرن في بعض الشرفات.. وزحام وقوف أخذ يتجمع حولي واقف.. أحاول فهم ما يدور.. فرحا بمعازيم لم نتوقعهم ولم ندعهم..

وكان قصيرهم، يعرف بالأمر، انتظر قليلا.. وأخذ يتابع اختبارات الطبلة والملاعق.. ثم ألقي بسيجارته أرضا.. ليرتفع صوته الأجش، الرفيع، الحاد، النشاز.. مقسما بيمين واثق حاسم..
والله .. والله.. والله.. (يطيلها كثيرا ثم يختمها بحسم ويقين)
والله هاترجع تاني.. لبيتك ولغيطك يا خالي (ويطيلها أيضا)..
وهاتلقي الرملة خضرا.. علي طول القنال
والله .. والله.. والله


والله هاترجع تاني لبيتك.. وبنصرك تتخايل
وتحمل من غيطانك.. وترد الجمايل..

ضاع مني صوته الأجش.. ومظهره، القليل الحجم وغير الوسيم مبهورا ليس بكلماته.. ولكن بيقينه.. وصدق تعبير وجهه وصوته.. إنه لا يسخر من الحاضرين.. ولا يغرقهم في أحلام.. لكنه عارف بما يقال.. من أين؟ لا أدري.. ومتي ؟ ليس لدي إجابة.. وهل أعلق رفضي أو قبولي لكلماته، لتجربة الأيام.. وما أدراني متي يستعد الجيش ويحارب وينتصر وتعود السفن للقناة ؟!
لكنني مبهور ..


لم يكن هناك إلا الدموع.. فعلا.. مصر من غير نصر ما تبقاش من هؤلاء؟ ومن هذا الذي يقودهم ؟ من أين جاءوا بهذه الكلمات ومن كلفهم بهذه المهمة.. لن يجيبني أحد.. فالكل منهمك بعيونه وأذانه في اللحظة.. والأمل.. والتحدي..


يقف الغناء فجأة.. وإذا قصيرهم.. يقف بتعالي وثقة القادة القادرين بفرض هالة حضور وسط العيون المحدقة.. يردد بصوت الأجش..
لا مؤاخذة يا جماعة.. إحنا ورانا شغل كتير.. ولازم نحضر (الخدمة) الليلة.. لكن لما عرفتت بالفرح.. وأن البنت بنتنا.. قل أجمل هدية، نجيبها ونفرحها مع السوايسة كلهم ثم دار علي يسراه.. يواجه رجاله الواقفون بانضباط سأسبقهم.. يا ولاد.. ساعة واحدة وتحصلوني.. واتجه وحده راجلا في اتجاه وابور النور.. يسارع البعض في ملاحقته وتوديعه.. حتي يستمر هناك بعيدا.. وحده في نشاط باتجاه هدفه الذي لا أعرفه..
مين ده ؟
الكابتن غزالي ..
وأعرف إنه كابتن سابق في المصارعة الحرة.. ثم موظف بسيط في مديرية الصحة.. لكنه حاليا قائد في المقاومة الشعبية.. وجمع هؤلاء الشباب في فرقة أسماها (ولاد الأرض)، تغني أغاني الحرب.. في المواقع العسكرية وأفراح السويس.. والتجمعات السياسية وغيرها.. بل ويشارك في حفلات خارج السويس، في جولات المحافظ.. لتجمعات المهاجرين في المحافظات وأنه سياسي عنيد وله توجهات يسارية.. 



غني يا سمسمية

غني يا سمسمية 

لرصاص البندقية 

ولكل إيد قوية 

حاضنة زنودها المدافع 

* * * 

واللي وراها بيدافع 

ووصي عبد الشافع 

يضرب في الطلقة مية 

* * * 

في الغيط وفي المعامل 

بيأدي الواجب كامل 

واديله وردة هدية 

* * * 

في الجامعة وفي المدارس 

لمجد بلاده حارس 

من غدر الصهيونية 

-----------------------



-----------------------



يا عم حمزة 

يا عم حمزة 

كبروا التلامذة 

وقالوا لأ لأ 

بألف همزة 

* * * 

غني للمدافع 

يا عم حمزة 

ماعدش ينفعنا الكلام 

ولا أي شنطة 

مهما شالت من سلام 

غني لكل عامل 

أصل التلامذة 

كبروا يا حمزة 

وعرفوا إيه معنى الآلام 

ولجل ذلك 

غني لكل دارس 

طلعوا التلامذة 

وقالوا لأ لأ 

بألف همزة 

-----------------------


نشيد الجبهة 

إن يسألوك يا خي 

قولها وعلي صوتك 

عربي فدائي من الجبهة 

وتكمل بندقيتك 

* * * 

إيش أنت وإيش هويتك 

اصرخ: فدائي من الجبهة 

وفلسطين قضيتك 

* * * 

ويحاولوا يكفوا سلاحك 

اضرب اضرب ما تخلي 

أحدًا يعوق كفاحك 

-----------------------



يا إسماعيلية 

يا إسماعيلية 

مسير الصبح يبتسم ويملا 

يملا الحواري ملاغية 

شايل صباح الفل لولادك 

يا إسماعيلية 

يا مدينتي يا غنوة سلام 

ورجالة فدائية 

يا إسماعيلية 

* * * 

يا إسماعيلية يا حاضنة القنال والناس 

يا أم التاريخ بالدم متسطر 

إحنا ليكي حراس 

يا حمام مدينتي 

يا بو الخطا.. ينباس 

-----------------------



راية النصر 

ولا عمر راية النصر هاتفارق جبينك يا وطن 

إحنا فداك 

ولا عمر دقة كعبنا فوق أرضنا 

تفارق خطاك 

دا الشعب هو البندقية والمدافع والرصاص 

وإن يسألوك يا فدائي 

إحنا السوايسية الفدائية 

جند المقاومة والخلاص 

ولا عمر راية النصر هاتفارق جبينك 

وإن يسألوك رفيقي 


أبوح

أبوح يا أبوح 

دم البلد مسفوح 

يا صاحب البقرة 

يا زارع الشجرة 

تتطرح ونديهم 

ولا تمر فيهم 

باعونا للكفرة 

* * * 

كدابة ضحكتنا 

ندابة غنوتنا 

كرامتنا ثورتنا 

مخنوقة في القهرة 

* * * 

أبوح يا أبوح 

أصرخ ألم وأبوح 

دا العدل بات مدبوح
عن القاهرة ومعرضها للكتاب واشياء أخري - (الحلقة الخامسة والاخيرة) - عبد الرحمن مجيد الربيعي
ــ 1 ــ
هناك اناس لعبوا ادوارا مهمة في تاريخ اوطانهم ووفق الامكانات المتاحة لهم. وفي مدينة السويس المجاهدة تعرفت ــ كما ذكرت في الحلقة الماضية ــ علي احد هؤلاء الرجال الذي حدثني عنه الصديق محمد الراوي وشوقني للالتقاء به، هو الكابتن غزالي.
كان لقاؤنا الاول في دكانه وانا اسميه بهذا الاسم تجاوزا فهو مكتبة صغيرة تتكدس فيها الكتب والصحف سواء علي الارض او علي الرفوف البسيطة، كما ان هناك سلما يقود الي طابق ثان بعد ان بني سقفا من الخشب، وفي الطابق الثاني تتكدس الكتب والصحف كذلك.
اما هيئته فهو يميل الي القصر والنحافة التي بقيت له من ممارسته رياضة المصارعة والملاكمة. ولا يمكن للمرء ان يقتنع بانه في الخامسة والسبعين من عمره اذ يبدو اصغر من هذا، وكان يتكلم بهدوء وهو يعدل من وضع الكاسكيت الصوفية التي يغطي بها رأسه.
كان علي علم بوصولي لذا هب وصافحني بحرارة. وعرفت انه لم يفتح هذا الدكان الالتزجية الوقت وان الطلبة يقصدونه للحصول علي المصادر التي يحتاجونها ولا يبخل عليهم بها، وهو يعتبر ان دوره هذا مكمل لدوره الوطني لا سيما انه قد اصبح له احفاد هم طلبة ايـضا.
لم نبق كثيرا في مكتبته واتفقنا علي اللقاء مساء في مقهي نيو سوريا الذي يرتاده ولكنه لا يندس في زحمته بل يفضل الجلوس علي كرسي علي جانب من مدخل المقهي متطلعا للمارة ورادا علي تحيات معارفه ومن ثم تأمل الحديقة التي امامه.

ــ 2 ــ
سألت الراوي عن سر تسميته بالكابتن فاخبرني ان اسمه الكامل هو محمد احمد غزالي، اما لقب كابتن فقد جاءه من كونه مصارعا في بداية شبابه، وكان دائما يأخذ دور القائد او الكابتن ومن ثم المدرب، وليس هذا في الرياضة فقط بل وعندما تولي مسؤولية مجموعة من رجال المقاومة في الدفاع المدني او في تدريب فرقة للاغاني الملتزمة والحان هذه الفرقة غناها مطربون ومطربات في الاذاعة. وأسس فرقة ولاد الارض وقد جمع اشعاره التي كتبها باللهجة المصرية لهذه الفرقة في ديوان عنوانه في عز الحرب ولاد الارض ولم يكتب اسمه الحقيقي كشاعر لهذا الديوان بل اسم الشهرة الذي عرف به كابتن غزالي .
هذا الديوان نشر من قبل اقليم القناة وسيناء الثقافي في الهيئة العامة لقصور الثقافة وقد طبع عام 2000. وقد اهداني نسخة من ديوانه هذا الذي يقع في 208 صفحات من القطع الكبير.
وقد لعب كابتن غزالي دورا كبيرا في التجول بين معسكرات التهجير من حرب 1967، هذه المعسكرات التي انتشرت في عدد من المحافظات الداخلية بعيدا عن جبهة القتال.

ــ 3 ــ
كان ينتظرنا في مقهي نيو سوريا مساء حيث قصدناها بعد ان قمنا بجولة في اسواق المدينة وتابعنا ايقاع الحياة فيها.
وبعد ان جلسنا لبعض الوقت اصر كابتن غزالي علي دعوتنا للعشاء في احد مطاعم المدينة وقد فوجئ عندما قلت له بانني احب وجبة كشري . اذ لم اتناول طبقا منه في هذه الزيارة.
ولم يجد بدا من تلبية رغبتي فقال: لنذهب الي الدكان وسيأتينا الكشري اليه.
لم يكن دكانه بعيدا ففتحه ووجدنا انفسنا منحشرين داخل الدكان ونادي علي شاب يعرفه وهمس في اذنه ثم سلمه ورقة النقود وهو يقول: سنأكل هنا.
وهكذا جاءنا الكشري وبدأنا بتناوله باشتهاء رغم انه كان راغبا في دعوتنا لمطعم نتناول فيه الحمام او الكباب لا الاكتفاء بوجبة شعبية زهيدة الثمن.
وبدأت بعد ذلك بتقليب الكتب، وصعدت الي الطابق الاعلي، وهناك وجدت عناوين اخري ولكنني لم اشأ ان آخذ كتابا واحدا لانني اعرف جيدا بانه سيهديه لي.
وقد اكتفيت بكتابين فقط احدهما ديوانه والاخر كتاب عن مدينة السويس، تاريخها ونضالاتها.
قال الراوي بأن هذا الدكان الصغير كان مزارا لعدد كبير من فناني السينما والمسرح والغناء والادب، اضافة الي السياسيين ايام حرب 1967 وخاصة عند ظهور فرقة ولاد الارض التي كانت رمزا من رموز المقاومة الشعبية. 
ديوان كابتن غزالي يلفت نظر قارئه منذ الاهداء الذي جاء فيه:
(الي امي السويس
وشهدائها الاحرار
برقية حب.

û û û

اتعلمنا منك.. كيف الموت يتحب
واتعلمنا منك وقت الشدة نهب
واتعلمنا ندوس الصعب
نمد الخطوة.. ندق الكعب
واتعودنا شهيدك يبقي عريس
واتعودنا اليوم الكاكي
ونوم الخندق لجل حماكي
يا اغلي مدينة وناس
ينباس ترابك ينباس
يا سويس
يا سويس
يا سويس)

ــ 4 ــ
عن ولاد الارض هناك قصيدة قصيرة وهي تشترك مع غيرها من قصائد الديوان في كونها قصائد وطنية تحريضية تحث علي المقاومة ومقارعة الاعداء:
(احنا ولاد الارض
ولاد مصر العظيمة
ثارنا حناخده بحرب
للنصر غناوينا
شباب ثوار
ما نسبش النار
احنا ولاد الارض)
من يقرأ قصيدة الحرب.. الحرب يحس وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن ليس في السويس هذه المرة بل في فلسطين العربية وانتفاضتها المتأججة عزما واصرارا:
(م تقوليش م تعديش
حل واحد غيره مفيش
لجل ولادنا الجاية تعيش
حرب الشعب وغيرها ما فيش

û û û

مجلس أمن ما ينفعنيش
جمعية عامة ما تهمنيش
الحل في ايدي وغيره نعيش
حرب الشعب.. شعب وجيش

û û û

قوة امريكا.. امور بولتيكا
حلف الاطلنطي.. م يهزمنيش
متقوليش.. متعدليش)
وقصائد اخري تجعل الدم يغلي في العروق، وما صدورها بهذا الديوان الاتوثيق لتجربة شعب أبي الا ان يقاوم المعتدي وان ينتصر عليه.


من ينسي أغنية " في بورسعيد الوطنية " التي رددتها الجماعة الشعبية إبان حرب 1956 ، و التي تحولت بمرور الوقت إلي تميمة الحرب ، و أغنيتها المثال ، حتي أنك لا تستطيع أن تتخيل الحرب دون تتابع مشاهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر و هو يعلن تأميم قناة السويس ، و هو يخطب في الأزهر معلناً الحرب ، و هذه الأغنية التي كانت تتمه لحالة من حب الوطن . بدأت بالتأميم ، و انتهت بانحدار العدوان و مغادرته البلاد . 


" في بور سعيد الوطنية "

في بور سعيد الوطنيــــــــة شباب مقاومة شعبيـــــــة

دافعوا بشهامة ورجوليــــة و حاربوا جيش الاحتــلال

مبروك يا جمال

إيدن و بن جوريون و موليه جايين يحاربونا علي إيــه

طارت عقولهم واللا إيـــــه عشان ما أممنا القنـــــــال

مبروك يا جمال

هو القنال ده في أراضيهـــم واللا إحنا 

خداناه منيهـــم

ده قنبلة و ضربت فيهــــم واللي ضربها رئيسنا جمـال

مبروك يا جمال



ولاد الأرض' في فرح سويسي بزي المقاومة


ذكرى خمسون عام علي صعود السمسمية بالنغم المقاوم 


صحبة ولاد البحر


علي قدر حاجة الفنان الشعبي الي الحريه ، تؤكد * صحبه ولاد البحر * على كونها التجمع الفني الحر لفناني الضمه و السمسمية ببور سعيد ، الذي لا تشوب حريته شائبة التمويل الأجنبي أو شبهاته ، بل هو النقيض ، بسعيه الدائم للحفاظ على روح الصحبة التي تحاول دولارات الأمريكان اغتيالها ، و بتصديه للغزوة الثقافية الأمريكية علي أيدي جهات التمويل المشبوهة ، وفي مقدمتها مؤسسة فورد التِمويلية وما تفتعله من نماذج شائهة مصطنعة(الطنبورة وغيرها) التي أتاحت للمدعين ، احتلال مكانة المبدعين ، وفرضت المسخ الدخيل على ذلك الفن الأصيل ، وكان دورها دوما هو الإطاحة بتقاليده المتمثلة في روح الصحبة المخلصة لفنها ، إخلاصها للأهل والوطن ، ومحاولة تشويه ذلك الفن بما تقدمة من صورة ضحلة وفارغة عن التراث الشعبي البور سعيدي ، لها مواصفات السلعة الطريفة والملائمة لسوق العولمة الثقافية التي تطمح الإدارة الأمريكية في تعميمه ، بعدما تعيد تأهيلنيا من جديد .

وتنوه ( صحبة ولاد البحر ) بأنها ليست فرقه تقيم عروضها وفق برامج معده سلفا ، بل هي صحبه تلقائيه، تضم أصحاب ذلك الفن انفسهم ، دون وصاية أحد ، يجتمعون حسب التقاليد التي حفظت لنا ذلك الفن منذ نشأته . وهي التقاليد التي تراعي الحرص علي النص التراثي دون حذف أو إضافة أو إهمال لنص بعينه بدافع رقابي ، أو مراعاة لشعور الممول ، مع الحرص علي النسق الموسيقي الاصلي وألاته الخاصه بمنطقه القناه حفاظا على تمايز تلك الموسيقى وخصوصيتها . 
وقبل كل شئ إطلاق الحريه ، كل الحريه لإرادة الفنان الشعبي الخلاقة ، ولروحه التلقائيه الحره التي لا يحيا بدونها الفن أو الفنان الشعبي ، روح الصحبة .

إن فنون الضمه والسمسمية لا تزال تحيا في تفاعل مع مجتمعها وتعبر عنه ، وليست فنون تراثيه مهدده بالاندثار كي يتحمس الأمريكان لحمايتها من الضياع ، ولكنها تاريخيا ، تمثل فنون وتراث المنطقة الأكثر سخونة في الصراع مع الصهيونية ، الأمر الذي يجعلها محط اهتمام القوة الامريكيةالصهيونية التي تحيطنا الآن بجيوشها لفرض مخططاتها ، وتتحرش بسوريا بعدما ابتلعت العراق ، و لا توقفها سوى المقاومة الباسله للشعب العراقي ، وصمود الشعب الفلسطيني واللبناني.

وماذا بعد كل الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الأمريكي في العراق ، من تدمير ونهب للتراث الحضاري العريق علي أيدي رعاة البقر ، يمكن ان يعري كل الأجراء المتعاونين مع الواجهات الكاذبة لانشطة الغزو الثقافي الأمريكي تحت ستار التنميه الثقافيه ، والذي هو في حقيقته استطلاع للشخصيه الشعبية ، توطئة للغزو الفعلي ، وفي المقدمه ، ذلك الاختراق الكثيف ، لانشطة مؤسسة فورد الأمريكية في مصر ، والذي لا يعدو في حقيقته سوى خطوه اولى للمخطط الأمريكي ، يصل خلالها عبر الاجراء من المثقفين و النشطاء من مروجي الخراء الأمريكي.

لقد كانت روح الصحبة ، و الألفة بين فناني الضمه والسمسميه ، هي النواة التي انبتت أغاني المقاومة أثناء مواجهة العدو عام 56 ، وقامت بالدور نفسه اثناء حرب الاستنزاف .
تلك هي الروح التي تحاول ( صحبة ولاد البحر) إنهاضها من جديد في مواجهة صنيعه الفورد وامثالة ، تلك الروح التي نحن في اشد الحاجة إليها في وقتنا العصيب . 
ربما ينفعنا الحذر ، طالما دباباتهم تحرث في ارضنا .



تعقيب
في الزمن الردئ .. زمن اختلاط القيم والمعايير ، تقوم فرقة الطنبورة التي تمول بواسطة احدي الوجوه العلنية للـ سي اي ايه (مؤسسة فورد التمويلية ) باحياء احتفالية هذا العام ، وفي ظل اجواء الفساد الحاكم
__________________
انا الذي يجلس علي جانب الطريق
و يبقي اعداءه تحت رحمة ضجره !
والذي يتوجب في نظره التدقيق في كل شيء
طال العمر أم قصر
ليس لذلك شأن كبير
ليس لذلك شأن كبير بالنسبة للأنسان الذي يثأر
من هوان شأن الانسان 




No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.