Free Web Submission http://addurl.nu FreeWebSubmission.com Software Directory www britain directory com education Visit Timeshares Earn free bitcoin http://www.visitorsdetails.com CAPTAIN TAREK DREAM: تقرير حصرى: "التجليات الروحية في الإسلام - نصوص صوفية عبر التاريخ "

Monday, February 3, 2014

تقرير حصرى: "التجليات الروحية في الإسلام - نصوص صوفية عبر التاريخ "

Photo: ‎“و لو أراد الله أن نكون متشابهين ،لخلقنا متشابهين ، لذلك فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارك علي الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله” 
#قواعد_العشق_الاربعون‎

شعر الحب الصوفي

الشعر لغة : الوجدان الإنساني ولؤلؤة الفكر الساطع ومنبع القلب المنير .

والشعر الصوفي فيض من رب الأرض والسماء على أوليائه بمعارف القرب والإيحاء ، إذ تجلى على قلوبهم بصفاته وأسمائه فأسفر لهم الحقائق بجميل آلائه ومخبآت نعمائه .. وفيوض أنواره وأسراره ..
والشعر الروحي .. درٌّ نضير ، يستاف الورد والعبير ، فيعطي للحياة رمزاً ، ومن الرقائق كنزاً ، ومن المواجيد رياضاً وحدائق غنّاء ، ومن العبارات غدراناً متدفّقة ، ومن الإشارات أساليب مشرقة ومن الحِكَم ثماراً وأزهاراً .. كروعة الكَلِم البديع في فصل الربيع ، فينسجُ من الأفكار ما يجري من تحتها الأنهار يرتشفها مُداماً ومنهَلاً عذباً للواردين ، مثلَ نسَمات الأسحار ، فتأتي اللطائف والأشواق بمذاقات قدسية عُليا تجول بطيب الأنفاس وروعة الأحوال في جنبات هذا الكون العظيم ...
ولا يوجد شيء ، من جوهر ولا عرض ، ولا صفة في هذا الوجود الحادث إلا وهو مستند إلى حقيقة إلهية من حيث نسبتُها إلى موجد الوجود القديم سبحانه وتعالى ، ولولا ذلك لما صحّ لها أن تظهر ؛ ومن ذلك ظاهرة الحب في هذه الدنيا .. فإنه على اختلاف مراتبه وتجلياته يستند إلى حقيقة الحب الإلهي ، الذي هو أصل وجود الحب في العالم .
ولكن لما طال الأمد ، وتغيرت النفوس ، مع الزمن ، وقست القلوب ثم اختلطت المفاهيم ، وتعقدت الأمور ، وتسطحت الأشياء ، وأضحى الفكر بلا جدوى ، وأصبحت القيم لا معنى لها ، وتهمّشت المثاليات ، وتهشم المعنى الحقيقي للحب ، واضطربت مفاهيمه فضاعت الموازين فلم نعد ندرك ما هو الحب الحقيقي ، وما هو الحب الوهمي وحب المصلحة والمنافع الآنية ، فغابت الحقائق في زحمة الحياة.

... هلا سمعنا التنزيل الحكيم ، " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبّونه " وقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث القدسي : " لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَه " ورحم الله الإمام أبا حامد الغزالي الذي نقلتُ عنه هذه العبارة الرائعة : " إذا قيل لك أتحب اللهَ ورسولَه .. فاسكتْ ، فإنك إن قلت لا أخطأت خِطْئاً كبيراً ، وإن قلتَ نعم ، فيسألك الأولياء عن الدليل .. " .
وقد رأيت محي الدين ابن عربي من أفضل من تطرّق لهذا المضمار : الحب عموماً ، والمحبةُ الإلهية خصوصاً ، فأحسستُ أنه كلام محب صادق فتحَ الله عليه بالعبارة ، وجعل البيانَ طوعَ بنانه إذ يقول فيما يقول : " حمداً لرب العزّة وقد جعل الهوى حرَماً تحجّ إليه قلوبُ الأدباء ، وكعبةً تطوف بها أسرار ألباب الظرفاء ، فجعل الفراق أمرَّ كأس تذاق وجعل التلاقي عذبَ الجَنى ، والوصالَ طيّب المذاق .. تجلى اسمه الجميل سبحانه فاندهشت الألباب ، فغرقت في بحر حبّه وفتحَ من دونها الباب فدعاها الاشتياق بمنازح الأشواق ، لتتوجه إليه عشقاً، وتذوبَ فيه شوقاً ، فيشتدُّ أنينُها ، ويطولُ حنينها ، لتجرعَ كأسَ المدُام ولم تخشَ الفناء ومصارعَ الهلاك والفناء بل نادت يا جميل يا مِحسان .. يا من قال : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان .. " يا من تيّمني بحبه ، وهيّمني بين بعده وقربه فليتني أتحقق .. أرنو لمشارف الحقيقة لتنعم العين والفؤاد ..."
رحم الله الشيخ الأكبر ، فما أروع هذه العبارات وهو يرشح لنا الحب الروحي والغزل الصوفي ، فرحم الله امرءاً علّمنا هذا الكون من الحب المثالي ، ودلّنا على من يعلمُنا الحب الحب في كل كتاباته لنَغدَّ السيرَ نحو دروب الحب الإلهي العظيم من فيض المواهب ، وأروع المكاسب من فيوضات العناية الربانية ، ومذاقاتِ البوح والتجليات مع ما فيها من إشراقات وأسرار وأنوار ، وجمالٍ وإحسان .

وقد ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  إن الله جميل يحب الجمال " فمرحى للمحبين بهذه البشرى ، إذ ما أجملنا ونحن نحبه ، لأن المحب لا يرى محبوبه إلا أجمل العالم في عينيه ، فما أحبّ إلا ما هو عنده قمة الجمال ، ولا شك أن الجمال محبوب لذاته ، وهو تعالى صانعُ هذا الكون الذي نحياه ، أوجده على صورته ، وهو جل شأنه " الجميل " ولِمَ لا .. فالدنيا كلها في غاية الحسن والإبداع والجمال ، فليس في الإمكان أجمل من هذا العالم ولا أكمل ، ولا أحكم .. فلو نقص منه شيء لنزل عن درجة كمال خلْقِه .. فكان قبيحاً ..
ولذلك انعكس الجمال في الصور فوقع الهيام والعشق عند العارفين فأوْرَتْ عندهم الفناء عند المشاهدة لهذا العالم لأنه يعكس لهم مرآةَ الحقيقة ..

ولذا انطلق ابن عربي ليُطلقَ عنان الخيال لمشاهداته الغزلية اللطيفة :

ما لمجنون عامر فـي هـواه          غيـر شكوى البعاد والاغتراب ِ

وأنا ضـدّه .. فإن حبـيبـي         في خيالي .. فلم أزلْ في اقترابِ

فحبيبي مني ، وفيّ ،  وعندي           فلمـاذا أقـول مـا بي وما بي

فالله تعالى هو المحبوب في تجلّي سُبُحاتِه ، فهو لا تدركه الأبصار .. هنا لكن هناك : "  وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة .. " فالحب الإلهي كما عرّفه شيخ حلب السيد محمد النبهان طيب الله ثراه : " هو حب الله للعبد ، وحب هذا العبد لربه جل شأنه لقوله : " يحبهم ويحبونه " ".
وحبه لنا قد منحنا ما يؤدي إلى إسعادنا وما يوافق أغراضنا ويلائم طباعنا البشرية

يرى ابن الخطيب أن منازع الحب الإلهي بسبحاته العُلْوية ، يجعل منه داعيَ حكمةٍ وهداية وحميميةٍ وغفرانٍ وسعادة الداريْن ..

.. وهذا ما نعني به بالحب الصوفي الذي يثير في النفس الخواطر والمشاعر ويوحي بأفياءَ وظلالَ نورانية ، يسكُبها في الوجدان ، وهذا ما عهدناه في (إحياء) الغزالي ومدارج السالكين لابن القيّم .. رضي الله عنهما .
ففيها نصوصٌ تحتاج إلى التأمل لما تعكسه من التسامي والعروج نحو العلاء ، وبما تخلّفه في زوايا النفس من سكينة وصفاء وآفاق ، وتألق الروح ، وهذا ما دفع شعراء التصوف إلى النظم بلغة شفافة تجذب صاحبها من دنيا الناس على عوالم ساحرة بالحكمة والطرب والهناء ، وسلامة القلب ونقاء الباطن ، وجلاء السريرة واغاريب الحب مما يتمم مكارم الأخلاق ويوجه الإنسان إلى المقام الأسمى نحو الشفافية والاستقامة والسلوك الرفيع ، والرشاد والفلاح ، والسمو نحو مدارج الإنسانية الراقية ، لتحقيق أفضل القربات وأنبل الغايات ، كل ذلك بفطرة الحب التي فطر الناس عليها . فتتألق الأفئدة والأبدان والأذهان بعشق الرحمن .
وإذا حلّقنا في أجواء الشعر الصوفي ، على نذرته ، لوجدناه يقترب من تلك العوالم الشيقة الفيّاضة ، إذ أن إلهاماتها ليست وليدة عاطفةٍ غيبية فحسب ، بل إن معالم هذا الشعر الروحي الرمزي الرقيق هي وليدة معرفة ذوقية أيضاً ..

حيث تألق هذا اللون من الشعر في العصرين الأموي والعباسي بعد تطور الحياة الروحية في الإسلام .

إذن فالشعر الصوفي ليس وليد عاطفة دينية مجردة ، بل هو نتاج مراحل معرفية، وتجليات ذوقية بحتة ، مرّ بها الشاعر عبر تطورات معينة ، يلتقطها بقلمه الساحر العفوي التلقائي ، بَيْد أنه لا يصورها كما يحدث في المسائل الفكرية والنظريات الفلسفية ، والقواعد المنطقية وإنما يعبّر عما يختلج في نفسه ، ويضطرب في قلبه، وجوانحه من خلجاتٍ ومشاعر غير مألوفة ، إذ يصوغها بقالب فني مبهر نعم .. لمست فيه غلياناً يفور في أعماق ذاته ، حيث يرى في داخله ما لا يُرى .. بهدوء ونقاء رتيب عجيب ، ولسان حاله يموج ويهدر
.. " موسيقا الصمت ، وقد أغمضت ، وعقلي في قلبي انصهرا ..

.. وخيالٌ .. جاوز طاقته .. وامتدّ فأبصر ما استترا ..

.. وسرحتُ .. مع الأفلاك .. مع الأملاك .. أرى ما ليس يُرى .. سبحاتٌ .. فاقت شاعرها .. لم تُقصد .. بل كانت قدراً .. غيبوبة عشق في ملكوت جمال الله .. وما فطرا .. "

كيف نترجم هذه الحالة الشعرية .. لا أدري ..! لكنني أقول إنه فنان رقيق يفنى في الحب ، يحسّه في جُوّانيته فيجعل من الشعر أداة للتعبير عن أحواله ومواجيده..
ويبتكر كلمات موحية حداثية ، يصبّها في معانٍ ذات بُعدٍ جمالي فنجد ـ فعلاً ـ أنه شاعر وجداني ورمزي في آن واحد لأنه يستمد عناصر فنه من القلب وما يوحي به من رؤى ومثاليات سداها ولحمتها الحب ، الحب الذي ينشد الجمال المطلق ، الجمال المتجسّد وبل والقائم ضمن طيات الفلسفة العليا وضروبها وآفاقها اللامتناهية كما جاءت في الأفلاطونية الجديدة ، وهذا النوع من الحب المثالي تحد عنه ابن سينا في الرسالة التي أسماها " العشق " وكذلك السراج الطوسي .
وقد تطرّق هؤلاء الفلاسفة إلى الحب ، فجعلوا منه النور الذي يُستضاء به ، والسر الذي نتكئ عليه ، والمشعل الذي يسير الصوفي على هداه ليؤكدوا " أن الحب هو طريق الوصول إلى الله " وكما ذهب الحلاج بأن " ذات الله العليا تتمثل  في الحب " وهذا يعني أن غاية الحب القصوى هي الاتصال بالله ، مما يمهد الطريق للمعارف والإشراقات والفتوحات ، وتلازم الأقوال مع الأفعال لنشدان الحب الإلهي وذلك بوساطة أشياء هي قمة السلوك البشري الرفيع ، كالتوبة والإنابة والورع والزهد ، والتوكل والرضى .. وما إلى ذلك ، مما يدعو إلى التحرر من صرخة الجسد وطغيان الرغبات الحسية ، بالترفع إلى المعاني الراقية والمراتب الذوقية التي تنأى في كل الأحوال عن شؤون المعرفة العقلية ، حيث الذوقُ والكشفُ وميلُ القلب إلى الله وليس لسواه ، فيطيب عيشه ، لأنه في حضور مع المحبوب الذي لا يشهد سواه من مطلوب ومبتغى وهدف ؛ كما يقول أبو عبد الله القرشي :" حقيقة المحبة أن تهب كلَّك لمن أحببت فلا يبقى منك شيء ، وتزداد حباً وتيتّماً وولها " ..
الحب الصوفي فناء مطلق ، يجعل من الحب والمحبوب كُلاً موحِّداً .. حيث لا وَجْدَ يبعث الألم في نفس الصوفي ، لأن الوجد في عُرف القوم المتصوّفة هو " بشارات الحق بالترقي إلى مقامات الشهود والمشاهدة ، وهو المنشود ، كما يعبّر أحدهم :

الوجد يطرب في الوجدان راحته   والوجد عند حضــور الحق منشود

قد كان يطربني وجدي فأشغلني      عن رؤية الوجد في الموجود موجود

.. إن هذا الحب الروحي ، المثالي ، المجرد عن رغبة الجسد ، ونزوة الغريزة ، يجعل من صاحبه في حالة اندغام تام ( أي اندماج ) وهنا تتألق النزعة الوجدانية الصافية في شعر الحب الصوفي .

هذه الحالة الشعورية ، تجعل من أنا ، أنت .. وينتهي بها المطاف إلى مرتبة الفناء، وهذا ما تستدعيه الحركة الشعرية الصوفية بكل رموزها وظلالها وألوانها وإيحاءاتها ، وتعبيراتها الغيبية عن الوجود الذاتي في علم الباطن لا الظاهر ، وهذا ما لا نستطيع إدراكه لأنه محصور ضمن فلك الأسرار الإلهية العليا ، وموحياتها العظمى ، فقد سئل النبي صلوات الله وسلامه عليه عن علم الباطن هذا فقال : " هو سرٌّ من أسراري ، أجعله في قلب عبدي ، لا يقف عليه أحدٌ من خلقي"
وهذا ما يتوقف عند محطة من اختصّهم الله برحمته من العارفين والمقرّبين والأولياء ، الذين أشار إليهم هذا الحديث النبوي ، حيث روي عن سيدنا سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله "
ومثل هذا الأمر يستدعي إحاطة المعرفة بالأسرار حتى تظل محتفظة بصفة القداسة من ناحية ، وحتى تكون محاطة بخصوصيتها وقداستها من جهة أخرى ، ولكي تصبح فوق متناول الذين لا يفقهون فكرتها ولا يدركون غايتها أيضاً ..

ونحن نرى أن هذا الحرص على طبيعة المعرفة الصوفية ، ودقائق مفهوماتها ، ورقائق تصوّراتها هو الذي أبدع الرمز في التصوف الإسلامي .
وأعلام التصوف يسمّيهم " الشعراني " بالعلماء الأكابر ، إذ ليس لغيرهم من فن التصوف إلا المعنى الظاهر . فالصوفيون أدخلوا ألفاظاً ومصطلحات لم يعرفها سواهم إلا ما ندر من أهل زمانهم على مرّ العصور ، إذ ليس في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم ومذاقاتهم إلى غيرهم ، وهذه المصطلحات الخاصة بالتصوف أو ذات الخصوصية بالقوم هؤلاء ، إنما قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم .. وعلى طريقتهم لتكون مستغلقه عمّن سواهم غيرة منهم لأسرارهم أن تشيع في غير أهلها وما غاب عن شعراء التصوف أن يشيروا إلى أهمية الرمز في أشعارهم ، حيث قال الـشبلي :

علم التصوف علم لا  نفاد لـه        علـم سنـي سماوي ربـوبي

فيه الفوائد للأرباب يـعرفـها      أهل الجزالة والعلم الخصوصي

وقال آخر موحياً للرمز والإشارة في النهج الصوفي :

إذا أهل العبـارة  ساءلـونا           أجبـناهم بإعـلام الإشـاره

نشير بها فنجعلـها غموضاً            تقصـر عنه ترجمة العباره
ولا يغرب عن البال أن ننوه عن الرمز الصوفي والحالة هذه ليس غاية فنية ، وإنما هو وسيلة تعبيرية إذ يختلف عن الطريقة الرمزية الشعرية التي تنشد المسويقية ولا تحفل بالفكرة والمظهر فضلاً عن اعتبارات أخرى نجمت عن تقلبات الأحوال النفسية وما يرافقها من مواجيد ومذاقات صفائية خاصة تقصر المادة اللفظية عن تصويرها بشكل دقيق وواضح ، فيعمد الصوفي إلى الرمز والإشارة التي أتينا على ذكرها كيما يعبر عن فيضه الباطني أو ما يعتور داخله من تقلبات وأحوال لذا نجده يبدع لنفسه مصطلحات خاصة وأبجديات لا يدركها إلا من عاش تلك الحالات الصوفةي التي يعتبرها بعضهم بأنها نوع من الشطحات ؛ يقول أحدهم :

ذكرنا وما كنا لـننسى فـنذكر  ولكـن نسيـم القرب يبدو فيبهر

فأفنى بـه عني وأبـقى به له      إذ الحـق عنـه مخـبر ومعبر
.. هذه المقطوعة المكثفة من بيتين اثنين ، تعطينا صورة عن الطريقة التي اتبعها شعراء التصوف في إبداعهم الشعري ، ... فهي من الناحية الفنية مجردة من الجمال الذي ينشده الفنان من قرضه للشعر ، وهي أقرب إلى الوزن النظري المقروء والمنظوم منها إلى المبدعات الفنية ذات الجمالية التصويرية والتعبيرية ، ذلك أن الشاعر الصوفي لا يعنى بالشكل بل بالصفة ولا يتقيد بالمظهر بل بالمعنى المراد ، المهم أن يكتب أبياتاً مشحونة بصلة القربى بينه وبين المتلقي ، لينقل ما يعتوره من أفكار داخل الوجدان كما فعل السهروردي :

لمعت نارهم وقد عسـعس        الليل وملّ الحادي وحار الدليل

فتأملتها وفكري من البيـن       علـيل ، ولحظ الغرام الدخيلُ

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى         وغـرامي ذاك الغرام الدخيلُ

ثم مالوا إلى الملام فقالوا :        خُلَّبٌ مـا رأيـت أم تـخييلُ
إن الشاعر الصوفي حسب معرفتي به هو إنسان مرهف جداً ، يستمد عناصر وحيه وإلهامه من عالمه الذاتي ، عالم المثاليات اللامتناهية والإحساس العميق بالجمال في أسمى معانيه وما هذهه الآثار الفنية ـ على ضآلتها ـ غير تعبير عن الجمال الذي يتأثر به الإنسان .. والجمال عند الصوفي هو جمال معنوي ، وذلك لأن الصوفي ينشد الجمال في المثل الأعلى أما  الواقع فلا قيمة له في نظره ، لا بل إن هذا الواقع المرير هو الذي حدا به إلى تصور حياة غير التي يعايشها ..

وقاده إلى تصور حياة أوفر نعمة وأكثر سعادة من حياة الآخرين فوق هذه الأرض، فعمد إلى تحقيق التطور اللانهائي للوجود .
ونحن نعيش الحب الصوفي بتصوره أكثر من واقعه ، لأن الحب في الحقيقة هو وليد التصورات المجنحة ، وهو بفضل هذه الأحلام يستمر ويحيا ، ولكل قلب أسراره .. كما يقولون ، ولذا لا ينضب معينه ، فالحب الصوفي دائم الينبوع ، ننهل منه باستمرار ليل نهار إحتفاءً بموكب الحياة الزاخر المتدفق بالعطاء ، الفياض بالألوان ، الحافل بشتى الأحاسيس الإيجابية والنجاوى الهامسة ، والحوافز الخفية نحو ثالوث الحق والخير والجمال ينهل من الوجدان لذلك أبدع الغزل الصوفي فأمتع فأضغى على الأيام روحانية السماء ، كما فعلت رابعة إذ جعلت من الحب غاية مثالية لا ينشد لرغبة أو لرهبة بل للحب ذاته بما فيه من نقاء وصفاء .. وإدراك للحقيقة التي تفضي إلى الفناء والمطلق في الذات الإلهية والوحدة المطلقة التي ذهب إليها الحلاج :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا        نـحن روحان حللنا بـدنا

فإذا أبـصرتـني أبصـرته       وإذا أبـصـرته أبصـرتنا
هكذا الشعر الروحي يحلّق في أعلى مراتب الكمال ، يقرب من ذي الجلال ويباعد عن الضلال ، ويؤنس الوحيد ، ويسامر العاشق ويحيوا المحب بالعطف والتأييد من الإله الواحد المجيد .

الحب الصوفي وحي يوحيه المولى سبحانه لعباده الذين أراد إسعادهم وقضى في الأزل إكرامهم لأنه موهبة توهب ، فتأتي السعادة وتحظى بالحسنى وزيادة .. فيتراءى للمتصوفين رؤى خاصة بهم .. يرونها رأي العين ، وقد يمسك بعضهم عن الإفصاح بها لأسباب عديدة كما يقول ابن الفارض في بوحه هذا البيت المفرد:

يا رُبّ جوهر علم لو أبوح به           لقـيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ومن مرائيه الخاصة مث لقوله :

آنست في الحي نارا       ليلاً فبشرت أهلي

قلت امكثوا فلعلي           أجد هواي لعلي

نوديت منها كفاحاً         ردوا ليالي وصلي

صارت جبالي دكاً          من هيبة المتجلي

وصرت موسى زماني      مذ صار بعضي كلي

فهو قد رأى نارً مقدسة .. وتوقع أن يجد عليها هدى ورمزاً للضياء .. فسمع من خلالها نداء الحق تعالى ، واعتراه ما اعتراه من هيبته وجلاله ..
.. فهو لا ريب كشف له الحجاب فظهر ما غاب وانكشف له كون جديد لا سبيل أن يخطر إلى وعينا شيء منه ، أو من بعض ظلاله فمهما قلنا عن انفعاله أو تفاعله بما وراء ما نحياه .. فهو صادق ما دام عرف عنه كذلك ، لأنه لم يبتدع موضوع كشف الغطاء وإدراك ما لم يكن مدرك .. فهو ونظراؤه يقطعون سبيل الجدل لأنهم يعبرون ـ كما أشرت غير مرة ـ عن حالة ذوقية وجدانية عايشوها بحبات قلوبهم وإشاراقاتهم وترنيماتهم ومرائيهم فانعكست أنواراً ، وانبجست أسراراً .

ويبقى ـ في نظري ـ ابن الفارض أمير الشعر الصوفي ، ولم لا وهو يهدر دائماً

وما زلت مذ نيطت علي تمائمي        أبـايع سلـطان الهوى وأبايع

وإني مذ شاهدت فيّ جمــاله      بلـوعة أشـواق المحبة والع

أُراني بوادي الحب أرعى جماله       ألا في سبيل الحب ما أنا صانع

صبرت على أهواله صبر شاكر      وما أنا في شيء سوى البعد جازع

كل أشعاره هكذا مرشحة بمفردات الحب والجمال والغزل والهيمان .

على أيديه اشتهر شعر التصوف وقد كون تياراً فريداً في الشعر الإلهي ..

وكما أسس مدرسة من مريديه عملت تحولاً في دنيا الأدب الصوفي حيث تأسست هذه المدرسة وتكونت باجتماعها ثلاثة عناصر متآلفة متعاونة وهي :

.. الأول : عاطفي ؛ والذي تحوّل معه الحب العذري النزيه إلى قيمة وإلى مثل أعلى  .

.. الثاني : فكري : وكأنه مستقى من حكماء اليونان وفلاسفة الرومان .

.. الثالث : أخلاقي : وهو الذروة عندهم فبلغ الثراء بالوصايا والحكم والمعاني العالية بحيث أضحى أغنى تراث أخلاقي وتربوي في حضارتنا حتى الغزالي المفكر والعالم والحجة تدفقت قريحته بالشعر الصوفي كقوله :

ما بال نفسي تطيل شكواها     إلى الورى ، وهي ترتجي الله

لو أنها من مليكها اقتربت     وأخلصت ودّها لأدناها

أفقرها للورى ولو لجأ        إليه من دونهم لأغناها

ومن السودان يطل علينا عبد المحمود نور الدايم بديوان رائع أسماه شراب الكاس يقول في مطلعه هائيته العملاقة نقتطف من جرعاتها :

افتح لباب كريم أنت راجيه          بماله وهو يرضى من مراضيه

واستغفر الله من أحوال نفسك مع      دمع على الخد بالأحزان تجريه

وناجه في ظلام الليل منكــسراً     ذليل نفــس خشوعاً إذ تناجيه

والله حاكم والغـفران شــاهده    ما يريده تعــالى فيك يمضيه

والستر مكشوف والأهوال ظاهرة     والذنب يغفره بالحــب يبديه

إن رمت وصـلاً في الحيـاة به     تفنى عن الكون قاصيه ودانيه

فقيّد النفس عن إطلاقــها أدبـاً     وارمق بعينك حسناً فهو حاويه

لا تشغل القلب إلا بالـجمال ولا     تهوى سـواه بحـال أو بتنويه

ما لذّلي غيره حتى أمـــيل له      إذ حبه في الحشا شوقاً لأطويه

ما لذّلي غيره حتى أمـيل لـه     إذ حبه في الحشا شوقاً لأطويه
إن للخطاب الصوفي في طروحاته الشعرية تفاصيله الممتنعة عن الاستقصاء ، مما يقتضي بعد التأمل مع رصيد الصفاء لتلقي موجّهاته ، والجلوس في مواقعه وحتى نتجنب التورّط في قضاياه ونظرياته العليا ومساربه الروحية وما فيه من أهوال ونحن نستطلعها ؛ علينا بالمواجهة والملامسة المبتهجة كي نحصل على الانتساب المعرفي ، والاندماج الذوقي والتربّص في المسالك التي يحفرها في القلب انتشاء ، حينها ننسجم بل ونتنبه لعمق المعطى الصوفي لا سيما في شعرهم الفلسفي وكشوفاتهم الرقيقة والعميقة معاً ناهيك على مقدرة اللفظ على استيعاب المعنى وتوجهاته وتقاطعاته بما فيها من مفاهيم وتطلعات نحو ما هو أرفع وأسمى ما في هذه الحياة لنكوّن فكرة وإلمامة في المشهد الثقافي المعاصر ..
وهنا لا بد لنا من وقفة في المغرب العربي ، لأن الحرف واحد ، والموقف واحد والشعر واحد وكذلك التصوف .. لا سيما أن العلاقة وطيدة بين الشعر والتصوف والتجربة بينهما متشابهة إن لم تكن متماثلة خصوصاًَ رمزية اللغة وإشارة الدلالة ، وتجربة السفر الروحي من الكائن إلى المكوّن عبر هذا الكون الواسع من خلال عملية الكشف عن معنى الروح الواحدة بين كينونة الإنسان ومحيطها الكوني ، فضلاً عن استدعاء الشخصيات الصوفية من كبار الأولياء وأهل العرفان في القصيدة التي دبّجها الشاعر لتجربته الشعورية ، وحاورها ، وتحدث معها ، وعنها، واتخذ منها قناعاً ونسج من وحي حضورها مساقاً لمجاهداته وفيوضاته التي تتجلى عبر المعاني الرقيقة للحكمة الصوفية واشتياقها للملأ الأعلى ، متجاوزاً الظاهر الكوني ، محلّقاً في الغيب ، ومنصتاً إلى كل إيقاع خفي متستّر بين حنايا الطبيعة التي تخجب حكاياها في ثنايا الأسرار البعيدة .
إنها مسألة الهروب إلى الذات ، والوقوع في هواجسها من خلال اكتشاف إبداعي لدورة شعرية جديدة ، لها منطلقها المتمثل في امتزاج تجربة الشعر الخلاقة في الحالة الصوفية ، لتصاغ بقالب تعبير فني متميّ. حيث تتوطد العلاقة العضوية بين النص الشعري والذات الشاعرة الناطقة في ذلك الإنجاز بلغتها الخاصة بل الفريدة، وبدرجات توتّرها الشعوري والوجداني والورحي ، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة التواصل والتعاضد بين الكلمة الخضراء الندية بالمرجعية الصوفية ، والتآخي مع الشعر تكويناً وتركيباً ولغة وإيقاعاً وصورة وخيالاً ، مما يؤكد ثنائية الشعر والتصوف في حديقة الأدب العربي بما فيها من أطياف وأزاهير ..

وإذا تأملنا الذات في أعماق الشاعر المغربي فريد الأنصاري لوجدناها متحولة إلى لهيب وجمار إذ ان تجربته الشعرية ثمة احتراق يلتهم الجوانح والشاعر هو زيتها ووقودها :

أوقدْ مصابيح القصيدة واحترق        فالنور من لهب الجوانح يولد

زيتونة القرآن أشرق طلعـها       من زيتها حرف الهداية يوقد
وهذا اللون المضيء .. هو قلادة للشعر الصوفي في جيد الأدب الروحي يدفعنا إلى نبعه ليرد من صفاء عيونه ، ويشتد أوار العطش فلا نجد له رواء إلا في عيون الشعر الصوفي الخالد على مدى التاريخ مروراً بعمر الخيام في رباعياته وجلال الدين الرومي في المثنوي والشيرازي من أدباء فارس ، وكذلك قصائد الابتهال والأذكار والتوجيه وأشعار المديح النبوي .. مما تمثله المعاني الرؤيوية التي انتقلت من التصوف إلى الشعر ، إذ الشاعر كالصوفي ، كل منهما يرى في لحظات انفصاله عن عالم الحس وانتقاله إلى الواردات والخواطر النورانية ، مما يمثل مرحلة تسبق الوجود اللغوي للقصيدة ..

ولسان حال المبدع المتصوف يردد ، وعيونه تصافح الغيوم :

إن قلبي يراك في كل شيء         فهـو يهفو للطير في نغماته

وقول الشاعر محمد الحلوي يترجم قصة آدم بخياله وهو يسبح في العالم العُلوي الفردوسي :

في جـنان لو رآها آدمٌ         ما عصى خالقه أو أذنبا

لو رأى إبليس في أحلامه         بــابها أقبل يعدو تائبا

وفي قصيدة مشاهدات ذوقية لعبد الكريم ثابت ـ من المغرب أيضاً ـ تنطلق روح الشاعر هائمة مخترقة مظاهر الوجود ، باحثة عن سر الحياة ومعاني الفناء والخلود ، منطلقة تحوم إلى ما وراء الحجب محاولة الكشف عن غوامض الاستتار:

وبات خيالي وراء الوهاد            يطوف ليكشف هذا الوجود

وسر الحياة ومعنى الجماد           ومعنى الفناء وسر الخلود

وهكذا فإن المهوم الصوفي للشعر ينقل ـ كما رأيت ـ علاقة الشاعر بقصيدته من مجرد صناعة شعرية بمقتضياتها الوصفية والبيانية إلى البحث عن الحقيقة الشعرية التي تصير هدف الذات الشاعرة المدركة لكل مكابداتها ، ومعاناتها ، وكنه تجلياتها ، وهي تنشد بصورة ما ، إذكاء التوتر الوجداني في أثناء وثبة المفهوم وانتقال المقصود إلى حيّ. العبارة الشعرية والمشاهدات القلبية " مهما اتسعت الرؤية وضاقت العبارة " وتفتحت آفاق التحليق والخيال وتنوعت ملامج الإشارة وإيحاءات الرموز ، وانبجست من الحالة الذوقية روعة الوصف ودقة البيان ، ولو أنهما عن تصوير تلك المواجيد والأحوال والتجليات لايغنيا

مُصطَلحَات الصّوفية
إن للصوفية مصطلحات تعبّر عنها ألفاظ وكلمات وتراكب , ولها معان خاصة ومطالب مخصوصة غير ما يدّل عليه ظاهر الألفاظ والكلمات أو تتضمّن هذه الكلمات والألفاظ على مدلولاتها الأصلية ولكن لها معان أعمق وأكثر من مفهومها ومدلولها الظاهر بداهة ولأول وهلة فإنها لم توضع إلا لنوع معيّن وقسم خاص من المفاهيم والمقاصد الغير المتبادر إليها الذهن , ولكل قوم ما اصطلحوا عليه , فلا يدرك أبعادها , ولا يفهم مطالبها إلا من كان له معرفة وإلمام , وعلم وإدراك بمصطلحات القوم وبما اختاروا لها من الكلمات والألفاظ هي كالألفاظ , والكلمات كالكلمات ولكن لا يفهم منها شيئاً مع معرفته باللغة التي استعملت فيها تلك الألفاظ والكلمات , وإتقانه إياها , ويستغرب ويتعجب ويضل في متاهاتها , ويتحيّر في مسالكها وصحاريها وبراريها , وما أصدق ما قاله السمعاني في هذا الخصوص نفسه كما ينقل عنه الإمام الذهبي أنه قال:
" كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره , فقيه صالح ديّن خيّر , كثير الذكر , دائم الفكر , سريع الدمعة , تفقّه على المخرّمي , وصحب الشيخ حماداً الدباس , وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له , مضيناً لزيارته , فخرج وقعد بين أصحابه , وختموا القرآن , فألقى درساً ما فهمت منه شيئاً , وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس , فلعلهم فهموا لإلفهم كلامه وعبارته " (1).

فلم يفهم منه شيئاً لأنه لم يكن له علم بمصطلحات القوم ومدلولات كلماتهم , وفي مثل ذلك قال من قال:

أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء القوم غير نسائها

وقد أقرّ بذلك صوفي قديم نقلا عن الشبلي أنه أنشد:
_________
(1) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 441.

علم التصوف علم لا نفاد له ... علم سنيّ سماوي ربوبيّ
فيه الفوائد لأرباب يعرفها ... أهل الجزالة والصنع الخصوصي (1).
وكثيراً ما يمر على القارئ ألفاظ لها معناها الظاهر والعادي , لكن القوم يستعملونها كاصطلاح خاص تعبيراً عن فلسفة مخصوصة وعقيدة مميّزة يؤمنون بها ويعتقدون فيها فهو لعدم معرفته لا يدرك حقيقتها فلا يصل إلى الفهم الصحيح والمعنى الحقيقي الذي يجعله مطلعاً على مذهب القوم ومشربهم , فأردنا في هذا الباب أن نذكر بعض المصطلحات التي عليها تدور رحى التصوف , وقد كثر استعمالها في كتابنا ولا بدّ لمن أراد التعرف لمذهب أهل التصوف من أن يعرفها والمفاهيم التي وضعت لأجلها , وآنذاك يصل إلى الكنه والمغذي والمقصود والمطلوب.

ولقد كثر استعمال مصطلحات " الحقيقة المحمدية " و " القطب " و " الأبدال " و " الأوتاد " وغيرها فهذه قد مرّ بيانها في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " تحت عناوين مختلفة , فلا فائدة لتكرار ما ذكر هناك , ونذكر الأشياء التي بقى توضيحها وكشف مفاهيمها ومدلولاتها , وقد كثر ورودها في كتابنا وكتب الصوفية , فمنها:

" الغيبة " , وهي عندهم: " أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها " (2).
ويقول القشيري والكمشخانوي:
" هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق بما يرد عليه , ثم قد يغيب عن غيره فقط , وقد يغيب عن غيره وعن نفسه أيضاً إذا عظم الوارد " (3).

وينشد الكمشخانوي:
_________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر محمد الكلاباذي ص 106 ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1980م.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف ص 140.
(3) الرسالة القشيرية ج 1 ص 232 , أيضاً جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 254.
أيا من يرى الأسباب أعلى وجوده ... ويفرح بالتيه الدنيّ وبالأنس
فلو كنت من أهل الوجود حقيقة ... لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي
وكنت بلا حال مع الله واقفاً ... خليّاً عن التذكار للجن والأنس (1).

ويقول الهجويري:

" المراد من الغيبة غيبة القلب عما دون الحق إلى حدّ أن يغيب عن نفسه , حتى أنه بغيبته عن نفسه لا يرى نفسه " (2).

وبمثل ذلك قال الطوسي (3).

وينقل الدكتور عبد الحليم محمود عن سيده أحمد الدردير أنه قال مبيناً حالة غيبته عن نفسه:

" حتى لو تكلّم الناس وأنا معهم بكلام وخاطبوني به لا أدري ما قالوا , وهم لا يعلمون مني هذا الحال , لأني صورتي الظاهرية صورة العاقل الصاحي , وهذا أمر عجيب لا يعرفه إلاّ من ذاقه " (4).

فمعنى الغيبة عند الصوفية هو أن يغيب الإنسان عن فكرة وذهنه ووجوده لا يدري ما يقع في الكون ولا يفهم كلام الناس , فظاهره معهم , وباطنه غائب عنهم , وهذا مقام سنيّ عندهم يحوزه كبار أوليائهم ومشايخهم , فيحكون عن ذي النون المصري أنه:

" بعث إنساناً من أصحابه إلى أبي يزيد , لينقل إليه صفة أبي يزيد. فلما جاء الرجل إلى بسطام سأل عن دار أبي يزيد: ماذا تريد؟ فقال: أريد أبا يزيد.
فقال: من أبو يزيد؟ وأين أبو يزيد؟ أنا في طلب أبي يزيد.

فخرج الرجل , وقال: هذا مجنون.

ورجع الرجل إلى ذي النون فأخبره بما شاهد , فبكى ذو النون وقال , أخي أبو يزيد
_________
(1) جامع الأصول في الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 125.
(2) كشف المحجوب للهجويري ص 489.
(3) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 416.
(4) سيدي أحمد الدردير للدكتور عبد الحليم محمود ص 77 ط دار الكتب الحديثة القاهرة.
ذهب في الذاهبين إلى الله (1).

ومثل ذلك حكى ابن عجيبة عن الشبلي أنه قال له رجل: أين الشبلي؟

قال: مات , لا رحمه الله (2).

فهذه هي الغيبة الصوفية , يقولون: أن الإنسان ليستغرق في ذكر الله تعالى ومحبته حتى أنه ينسى نفسه , والمعلوم شرعاً وعقلاً أن ذكر الله عز وجل لا يستجلب هذا النوع من الجنون والهذيان , بل يثمر الراحة والاطئنان والسكينة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (3).

فنسيان الكون والنفس وذهاب العقل والفهم أمر مذموم , وليس شيئاً محموداً حتى يكون من ثمرات ذكر الله تعالى ومحبته , بل أنها أذواق شيطانية لا تقرها الشريعة الإسلامية.

هذا ويذكر القشيري صوفياً غاب فكره وذهنه وعقله وفهمه , وهو أبو علي الدقاق , فيحكي عن أبي نصر المؤذن بنيسابور أنه قال:
" كنت أقرأ القرآن في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق بنيسابور , وقت كونه هناك وكان يتكلم في الحج كثيراً , فأثر في قلبي كلامه , فخرجت إلى الحج تلك السنة , وتركت الحانوت والحرفة , وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله خرج إلى الحج أيضاً في تلك السنة , وكنت مدة كونه بنيسابور أخدمه وأواظب على القراءة في مجلسه , فرأيته يوماً في البادية: تطهر ونسي قمقمة كانت بيده , فحملتها , فلما عاد إلى رحلة وضعتها عنده , فقال: جزاك الله خيراً. حيث حملت هذا.
ثم نظر إليَ طويلاً كأنه لم يرني قطَ , وقال:
رأيتك مرة. فمن أنت؟

فقلت: المستغاث بالله , صحبتك مدة , وخرجت من مسكني ومالي بسببك ,
_________
(1) الرسالة القشيرية ج 1 ص 234 , 235 , كشف المحجوب للهجويري ص 490 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 308 , مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 103 , ترصيع الجواهر المكية ص 42.
(2) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 308 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة.
(3) سورة الرعد الآية 28.
وتقطعت في المفازة بك , والساعة تقول: رأيتك مرة " (1).

وذلك لأنه كان غائباً عن نفسه:

وحكى عن أبي عقال أنه " دخل عليه بعض الفقراء فقال له: سلام عليكم.
فقال له أبو عقال: وعليكم السلام , فقال الرجل: أنا فلان فقال أبو عقال:
أنت فلان , كيف أنت؟ وكيف حالك؟ وغاب عن حالته.

قال هذا الرجل , فقلت له: سلام عليكم.

فقال: وعليكم السلام , وكأنه لم يرني قط.

ففعلت مثل هذا غير مرة , فعلمت أن الرجل غائب فتركته , وخرجت من عنده (2).

وحكاية أخرى حكاها كل من القشيري وابن الملقن وعماد الدين الأموي , وتبيَن حقيقة هذا المصطلح , فينقلون عن الجنيد أنه:

" كان قاعداً , وعنده أمرأته , فدخل عليه الشبلي , فأرادت أمرأته أن تستتر , فقال لها الجنيد: لا خبر للشبلي عنك , فاقعدي.

فلم يزل يكلَمه الجنيد , حتى بكى الشبلي , فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الجنيد لامرأته: أستتري , فقد أفاق الشبلي من غيبته (3).

هذا بالنسبة لغيبة الصوفي عن ذهنه وفكره ووجوده , وأما غيبته هو عن الخلق ووصوله إلى الله كما يدَعون , فيروي الأموي " أن الحسن رحمه الله أختفى عند حبيب العجمي من الحجاج , فسعى به , فدخل عليه الشرط , فقالوا: أين الحسن؟ قيل لنا إن الحسن عندك فقال: هل ترون شيئاً؟

ففتشوا الدار كلها وخرجوا وهم لا يرونه , لأنه كان عند الله فلم يروه " (4).

فهذه هي أقاويل المتصوفة في " الغيبة " إحدى مصطلحاتهم.
_________
(1) الرسالة القشيرية ج 1 ص 234.
(2) أيضاً ص 221.
(3) أنظر الرسالة القشيرية ج 1 ص 233 , أيضاً طبقات الأولياء لابن الملقن 211 , أيضاً حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 273 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي ط دار صادر بيروت.
(4) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 69 بهامش قوت القلوب.
ومثلها " السكر " كما يقولون: " السكر هو أن يغيب الإنسان عن تمييز الأشياء " (1).

ويقول شهاب الدين يحيى السهروردي المقتول: " السكر سانح قدسي للنفس يؤدي إلى إبطال النظام عن الحركات " (2).

ويذكره المنوفي الحسيني بقوله:
" السكر غيبة بوارد شهود الخلق " (3).

ويقول: روزبهان:

" السكر هو كثرة شرب أقداح حسن التجلََي " (4).
ويقول الطوسي: " السكر معناها قريب من معنى الغيبة غير أن السكر أقوى من الغيبة " (5).

وقريباً من معنى اصطلاح الغيبة والسكر " المحو " كما يقول الكمشخانوي:

" إذا غلب عليه (الصوفي) المحو فلا علم ولا عقل فهم ولا حسّ كما روى مسنداً أن أبا عقال المغربي أقام بمكة أربع سنين ولم يأكل ولم يشرب إلى أن مات , وكان يسلَم عليه خاص أصحابه فلم يعرَفه نفسه , ثم يغيب عنه الشيخ حتى لو عاوده بالكلام لم يعرفه الشيخ , ومنهم من يعود إلى حال أداء الفرض فقط " (6).
ومثل ذلك ذكروا عن أبي عبد الله التروغندي أنه " ما كان يفيق إلا في أوقات الصلاة , يصلي الفريضة ثم يعود إلى حالته , فلم كذلك إلى أن مات " (7).

ومنها " الصولة ": وهي أن لا يرى أحد إلا الله (8).
_________
(1) التعرف إلأى مذهب اهل التصوف للكلاباذي ص 138.
(2) كلمة التصوف للسهروردي ضمن رسالة أز شيخ إشراق فصل في شرح بعض مصطلحات الصوفية ص 125 ط مؤسسة انتشارات إسلامي لاهور باكستان.
(3) جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 1 ص 304.
(4) شرح الحجب والأستار لروزبهان ص 19.
(5) كتاب اللمع للطوسي ص 416.
(6) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 126.
(7) الرسالة القشيرية ج 1 ص 321.
(8) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 274.
وأما " الحضور " و " الصحو " فهما: " رجوع الصوفي إلى الإحساس بعد غيبة عقله وإحساسه " (1).

ويذكر الهجويري أن داود عليه السلام رأى أمرأة أوريا في حالة السكر فيقول:

" وقع نظر داود عليه السلام على ما لم يكن ينبغي له أن ينظر إليه أي على أمرأة أوريا وكان ذلك في حالة السكر , أما نظر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أمرأة زيد فكانت تلك النظرة في محل الصحوة " (2).

ومن المصطلحات الصوفية " الجمع " وهو: " شهود الحق بلا خلق , وجمع الجمع شهود الخلق قائماً بالحق , ويسمى الفرق بعد الجمع " (3).
ويصرح القشيري " جمع الجمع: الإستهلاك بالكلية , وفناء الإحساس بما سوى الله عز وجل عند غلبات الحقيقة. . . فالعبد يطالع نفسه في هذه الحالة في تصريف الحق سبحانه , يشهد مبدئ ذاته وعينه بقدرته , ومجري أفعاله وأحواله عليه بعلمه ومشيئته " (4).

ويقول روزبهان: " الجمع هو ظهور التجلي في الروح " (5).

وقد جمع هذه المصطلحات الصوفية كلها عطاء الله الأسكندري في حمه حيث قال:

" وصاحب حقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق , وفني عن الأسباب بشهود مسبَب الأسباب , فهو عبد مواجه بالحقيقة , ظاهر عليه سناها , سالك للطريقة , قد استولى على مداها , غير أنه غريق الأنوار , مطموس الآثار , قد غاب سكره على صحوه ,
_________
(1) أنظر اللمع للطوسي ص 416 , كشف المحجوب ص 490 , جامع الأصول ص 229 , كلمة التصوف للسهروردي ص 125 , جمهرة ص 305.
(2) كشف المحجوب للهجويري ص 414 ط دار النهضة العربية بيروت.
(3) اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق القاشاني من صوفية القرن الثامن الهجري ص 41 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981م , أيضاً متممات جامع الأصول في الأولياء ص 80 , أيضاً جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ص 302.
(4) الرسالة القشيرية ج 1 ص 225 , 226.
(5) شرح الحجب والأستار لروزبهان.
وجمعه على فرقه , وفناؤه على بقائه , وغيبته على حضوره " (1).

ويشرح النفزي الرندي هذه العبارة بقوله:
" هذا هو حال الخاصة من أرباب الحقائق , وهم الذين غابوا عن (شهود) الخلق بشهود الملك الحق , فلم يقع لهم شعور بهم , ولا التفات إليهم , وفنوا عن الأسباب برؤية مسبب الأسباب , فلم يروا لها فعلاً ولا جَعْلاً , فهم مُواجهون بحقيقة الحق ظاهر عليهم سناها , أي: نورها وضياؤها , سالكون طريقة الحق , قد استولوا على مداها , أي: وصلوا إلى غايتها ومنتهاها , إلاّ أنهم غرقوا في بحار أنوار التوحيد , مطموس عليهم آثار الوسايط والعبيد , أي: مغلق عليهم رؤية ذلك والشعور به قد غلب سكرهم , وهو: عدم إحساسهم بالأغيار , على صحوحهم , وهو: وجود إحساسهم بها , وجمعُهم , وهو ثبوتُ وجود الحق فرداً , على فرقهم وهو ثبوت وجود الخلق , وفنائهم , وهو: استهلاكهم في شهود الحق على بقائهم وهو شعورهم بالخلق , وغيبتهم وهو ذهاب أحوال الخلق عن نظرهم على حضورهم مع الخلق.
ومعاني هذه الألفاظ , كما تراها , متقاربة , وهي ألفاظ تداولها الصوفية المحققون بينهم وعبّروها بها في كتبهم , ووضعوها على معان اختصوا بفهمها , ليتعرّف بعضهم من بعض ما يتخاطبون به , ولهم ألفاظ كثيرة غيرها " (2).

ولعلّ معنى اصطلاح " الجمع " يتضح أكثر بنصّ الهجويري حيث يقول:

" الجمع هو أن يصير كل المحبّ كل المحبوب. . . وهو أن يكون العبد في الحكم والهاً ومدهوشاً ويكون حكمه حكم المجانين. . .

ويقول واحد من المشايخ رحمه الله: جاء درويش إلى مكة وأقام سنة في مشاهدة الكعبة , فلم يطعم ولم يشرب ولم ينم ولم يذهب للطهارة , لا جتماع همّته برؤية البيت , لأن الله تعالى قد أضافه إلى نفسه فصار غذاء جسده ومشرب روحه. . .
_________
(1) الحكم العطائية لتاج الدين بن عطاء الأسكندري ص 208 ضمن غيث المواهب العلية.
(2) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 208 , 209 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط مطبعة السعادة القاهرة 1380هـ.

ومثل جمع همه المجنون في ليلى لأنه حينما لم يكن يراها كان كل العالم وكل الموجودات عنده صورة ليلى " (1).
وكثيراً ما يذكر الصوفية عند بيان مصطلحاتهم العشق الغزلي والحب الطبيعي , ويشبهون الله عز وجل بمعشوق مجازي ويحملون وصفه سبحانه وتعالى على ليلى وغيرها , ثم يحاولون ربط العلاقة بين الحبين , سنذكر هذا المبدأ مفصلاً في هذا الباب إن شاء الله.

وعلى كلّ فإن الصوفية تكلّموا وراء ستار هذه المصطلحات والكلمات في موضوعات لا تمتّ إلأى الإسلام بصلة , وأعتقدوا بالحلول والاتحاد , والوصول والاتصال. وقد استغرب المسلمون عقائدهم وأفكارهم هذه.

فما يدّل على اعتقاد الصوفية بحلول ذات الله تعالى في العبد اصطلاحهم " الفناء " , وهو من أهمّ المصطلحات التي يقوم عليها مذهبهم وتتأسس عليها ديانتهم. والفناء عند المتصوفة: فناء ذات العبد في ذات الرب , فتزول الصفات البشرية في هذا المقام , وتبقى الصفات الإلهية , وتفنى جهة العبد البشرية في الجهة الربانية فيكون العبد والرب شيئاً واحداً - والعياذ بالله -.
فيصرح داود بن محمود القيصري:
" المراد من الفناء فناء جهة العبد البشرية في الجهة الربانية إذ لكل عبد جهة من الحضرة الإلهية. . . وهذا الفناء موجب لأن يتعين العبد بتعينات حقانية وصفات ربانية " (2).

ويقول النفزي الرندي:

" فناء الذات: أي لا موجود على الإطلاق إلا لله تعالى , وأنشدوا في ذلك:

فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... فكان فناؤه عين البقاء " (3).
_________
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 498 , 499.
(2) مقدمة شرح الفصوص للقيصري مخطوط نقلاً عن ملحقات ختم الأولياء للحكيم الترمذي ص 491 ط بيروت.
(3) غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية للنفزي الرندي ج 1 ص 99.
ويعتبر فريد الدين العطار فناء السالك في الله كفناء القطرة في البحر (1).

ويقول ابن الدباغ:

" وأعلم أن المحب ما لم يصل إلى مقام الاتحاد لا تنقطع الحجب التي بينه وبين محبوبه , فإنها كثيرة لكن بعضها ألطف وأشدّ نورانية من بعض , وكلّما كشف له منها حجاب تاقت النفس إلى كشف ما بعده حتى تزول جميعها عند الاتحاد " (2).

ويصرح أيضاً عقيدة اتصال الصوفي بالله تعالى , بقوله:
" وأعلم أن كل من أحب ذاتاً ما محبة كاملة خالصة , وأراد الاتصال بتلك الذات لا يمكنه ذلك إلا بخلع ما سواها وترك الإحساس به , فإذا صحّ له هذا مع صحة التوجه فقد وصل إلى مطلوب من الاتصال , ولا مانع من الاتصال بالحق مع حصول معرفته إلا بالشعور بما سواه , ومن تجرّد عن بدنه واطّرحه ناحية وفني عن شعوره بذلك فقد اتصل بالحق , لأن بدن الإنسان أقرب العالم المحسوس إليه , فإذا فني عنه فقد فني عن العالم كله , وهذا هو الوصول , ومن صار له هذا الانسلاخ ملكة بحيث يفعله متى شاء فهو الواصل على الحقيقة لتمكنه من مقام شهود الحق " (3).

ويقولون: أن الله يتجلّى على العبد في هذا المقام , كما يذكر ذلك السهروردي في عوارفه بقوله:

" أما الفناء الباطن فهو محو آثار الوجود عند لمعان نور الشهود , يكون في تجلّي الذات , وهو أكمل أقسام اليقين في الدنيا " (4).

وقال: " قد يكون التجلّي بطريق الأفعال , وقد يكون بطريق الصفات , وقد يكون بطريق الذات " (5).

ويكتب ظهير الدين القادري: " الفناء هو أن يطالع الحق سرّ وليه بأدنى تجلّ ,
_________
(1) أنظر منطق الطير لفريد الدين العطار المقالة الرابعة والأربعون ص 404 ط دار الأندلس بيروت.
(2) مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب ص 68 تحقيق المستشرق هـ. ريتر ط دار صادر بيروت 1379هـ.
(3) مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 94.
(4) عوارف المعارف للسهروردي ص 154.
(5) أيضاً 526.
فيتلاشى الكون ويفنى الولي تحت تلك الإشارة " (1).

ويقول ابن عجيبة:

" إن القلوب إذا صفت الأكدار والأغيار , وملئت بالأنوار والأسرار لا يتجلّى فيها إلا الحق " (2).

وينقل الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه كان يقول:

" إذا ما تجلّى الحق من غيب ذاته ... تلاشى وجود الغير حقاً بلا شكّ " (3).
ويقول المنوفي الحسيني شارحاً " الصدق ":

" هو الفناء في الحق بالتجلّي الذاتي " (4).
ويبين القاشاني معنى التجلّي الشهودي بقوله:

" هو ظهور الوجود المسمى بإسم النور وهو ظهور الحق بصور أسمائه في الأكوان التي هي صورها , وذلك الظهور هو النفس الرحماني الذي يوجد به الكل ّ " (5).

ويقول مصطفى ابن الحسين الصادقي بأن العارف يذكر الله تعالى ويصقل قلبه " حتى صار بحيث إذا تجلّى له المحبوب لم ير في تلك المرآة إلا وجهه الكريم وهو قد اضمحلّ بجنب ذاك الجمال , وانمحق تحت أنوار الجلال , ولم يبق منه أثر ولا خبر بل استولى عليه الربّ سبحانه , فصار سمعه الذي به يسمع , وبصره الذي به يبصر ويده التي بها يبطش , فتجلّى الحق سبحانه حينئذ بذاته لذاته , وكان محباً لذاته بذاته جاز إطلاق إسم المحبوب على ذلك العبد " (6).

ويقول الوزير لسان الدين بن لخطيب: (أي النفس)
" فإذا جازت هذا المقام وهو فناء , وعدم منها الخلق بالكلية , وتجلّى لها الحق
_________
(1) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 38 ط ... المطبعة الخيرية مصر 1306 هـ.
(2) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 27.
(3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 71.
(4) جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج 1 ص 305.
(5) اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص 156.
(6) المنهج الموصول إلى الطريقة الأنهج لمصطفى بن الحسين الصادقي مخطوط ص 8 , 9.
فشهدته موصوفاً بالصفة التي تليق به , فحينئذ يصح الوصول " (1).

وإليكم الآن ما قاله الجيلي عبد الكريم موضحاً معنى التجلي:

" التجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على اقتضاه القانون الخلقي التشبيهي " (2).

وأصرح من ذلك ماقاله في مقام آخر:

" إن االعبد إذا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يتجلّى عليه بإسم أو صفة , فإنه يفنى العبد فناء يعدمه عن نفسه , ويسلبه عن وجوده , فإذا طمس النور العبدي وفني الروح الخلقي أقام الحق سبحانه وتعالى في الهيكل العبدي " (3).

رقصات صوفية

تحت وطأة الشوق تشد نفسي رحالها
وتجد السير نحو أعماقها وغياهيبها السرية
لا مجال للفرار من قوة جاذبيتك
تجرفني أمواج سحرك الى لججي العميقة
فحبك أقوى من أن يُقاوم...
و هناك في مركز الكيان
أسمع صوتاً يهمس بإلحاح أن:
"اخلع نعليك، فالمكان الذي أنت فيه مقدس"
أخلع نعليّ،
أتجرد من كل تلك القشور التي لا فائدة منها، ولاخير فيها...
باتضاع أنحني...،
وبخشية مقدسة ألج عتبة مركز الكيان،
تتلاشى حدود الزمان والمكان بنشوة أبدية...
المغارة تنقلب سماء
دفء وحب ونور يملأ المكان...
ضجيج الصمت يوقظ حواس الحب العميقة...
نبض حب يخفق بشدة في قلب طفل ضعيف
ألمس حباً متجسداً بجسد غض
أستنشق عبير أبدية حق من أنفاسه
تبصر عيناي وجه الحب الحقيقي في ملامحه البريئة
أصوات ملائكية، ومكاغاة تغسل أذني بتناغمها
أفغر فمي اندهاشاً فتتلذذ نفسي وأذوق ما أطيب الرب
أستسلم بلا مقاومة لأمواج حبه الغامرة
كأطياف سرابية تتبدد الأفكار في محضره
ولا يبقى في مركز الكيان سواه...
كالبخور تنتشر عذوبة حبه
فتعبق أجوائي سحراً وعطراً
ويقول: " الإنسان الكامل هو مظهره الأكمل وجلاه ألأفضل " (4).

فليشاهد القارئ كيف أبدل الصوفية الحلول بكلمة " التجلي " , والحق أن التجلي الصوفي ليس إلا الحلول المسيحي.

ويستغرب الباحث حينما يجد الصوفية يبّرؤن أنفسهم عن الاعتقاد بالحلول , ومع هذه التصريحات والتوضيحات التي لا تترك مجالاً للريب والشك في هذا الخصوص.

ومقام الفناء - على حد تعبيرهم - هو الذي ادعى فيه كثير من مشايخ الصوفية الحلول والاتحاد حسب روايات المتصوفية كما نقلوا عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يقول:

" سبحاني ما أعظم شأني " (5).

فيقولون: أن قائل هذه الكلمة ليس أبا يزيد بل الله سبحانه وتعالى هو الذي قال بها كما صرح بذلك القشيري في رسالته حيث قال:

" قال أبو يزيد: سبحاني , ما قال إلا الحق " (6).
_________
(1) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 464 ط دار الفكر العربي.
(2) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 49 ط مصطفى البابي الطبعة الرابعة 1402 هـ.
(3) أيضاً ص 67.
(4) أيضاً ج 2 ص 17.
(5) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 75 , رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 73 , فوائح الجمال لنجم الدين الكبري ص 36 , درر الغواص للشعراني ص 85 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 204 , جمهرة الأولياء ج 1 ص 234.
(6) ترتيب السلوك للقشيري ص 73 من مجموعة الرسائل القشيرية ط إسلام آباد باكستان.
ويقول نجم الدين الكبري:

" تتجلّى سبحات وجهه الكريم ويجري على لسان السيار (الصوفي) بحكم الاضطرار: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني " (1).
لماذا هذا التستر وراء كلمة " التجلي " ولم يصرحون ويقولون " تحلّ " وما التجلّي غير الحلول باختلاف لفظي والمعنى واحد.

ونقل عن البسطامي أيضاً الهجويري يرى أنه كان يوماً في الصومعة , فجاءه رجل وقال:

هل أبو يزيد في البيت؟
فقال: هل في البيت إلا الله (2).

ونقلوا عنه أنه قال:

" ما في الجبة غير الله " (3).
وذكر الوزير لسان الدين عنه أيضاً أنه قال:

" قال لي الحق: يا أبا يزيد , كل هؤلاء خلقي إلا أنت , أنت أنا , وأنا أنت " (4).

وقال أيضاً: " رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد , إن خلقي يحبون أن يروك.

فقلت: زيّني بوحدانيتك , وألبسني أنانيتك , وأرفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك , فتكون أنت ذاك , ولا أكون أنا هنا " (5).

فهذا النص صريح في معناه , جليّ في محتواه , يدلّ على اتحاد اللاهوت بالناسوت , فالعجب ممن يؤولون مثل هذه النصوص يتأويلات سخيفة لتبرئة ساحة المتصوفة ويسمونها شطحات ويقولون: " لاعبرة بها لأن حكم أصحابها المغميّ عليهم " (6).
مع أن هذه العبارات ومثلها تقضي خروج أصحابها عن الدين , وأنها ضلال عن قصد السبيل , ونتيجة للاشتغال بالفلسفات الاشراقية وغيرها وإلاّ فلم لم تصدر
_________
(1) فوائح الجمال لنجم الدين الكبري ص 55.
(2) كشف المحجوب للهجويري ص 499.
(3) أنظر جمهرة الأولياء ع للمنوفي الحسيني ص 234.
(4) روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 353.
(5) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 461.
(6) أنظر حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2ص 373 بهامش قوت القلوب.
هذه العبارات من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهم أعبد الناس وأخشاهم لله.

وإن الله يحفظ وليه من التفوه بهذه الكلمات الكفرية , والشيطان هو الذي يتكلّم على ألسنتهم ويستولي على أذهانهم وقلوبهم. أعاذ الله جميع المسلمين من ذلك.

هذا وقد نقل الفيتوري عن أبي راوي الفحل أنه كان يقول:

" لا إله غيري , ولا معبود سواي إلى أن سمع به علماء أفريقية فأنكروا عليه , وأفتوا بتكفيره ففرّ منهم " (1).
ومن المعلوم أن أقوال الصوفية هذه ناتجة عن فكرة الفناء , فالصوفية يدّعون الألوهية لاعتقادهم بالحلول والاتحاد عند وصولهم إلى الله وفنائهم فيه حسب ما يزعمون.

فيقول الوزير لسان الدين بن الخطيب:

" ثم يفنى بعد ذلك الفناء الثاني. . . وكثير من الطوائف تدعي الحلول والاتحاد والكل متفقون على أنه لا يبقى في ذلك المقام إلا الله " (2).

وينقل الشعراني عن أبي مدين المغربي أنه كان يقول:

" إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره " (3).
ويقول محمد القونوي:

" الإنسان الكامل مجلى تام للحق , يظهر الحق به من حيث ذاته " (4).
وينسبون إلى الجيلاني أنه قال:

" قال لي الله: يا غوث الأعظم , ما ظهرت في شيء كظهوري في الإنسان " (5).
وأما أمر الحلاج وأقواله وأشعاره في هذا الخصوص فهي معروفة مشهورة نذكر بعضاً منها ونعرض عن الباقي لأننا نريد أن نفرد له ولأمثاله من ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والرومي وغيرهم كتاباً مستقلاً إن شاء الله , فمنها
_________
(1) الوصية الكبرى لعبد السلام الفيتوري ص 81.
(2) روضة التعريف للوزير لسان الدين ص 511.
(3) طبقات الشعراني ج 1 ص 154.
(4) رسالة النصوص لمحمد القونوي ص 42.
(5) مقدمة مقصود المؤمنون لبايزيد الأنصاري تقديم الصوفي الدكتور مير ولي خان ص 106 ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكسنان 1396هـ.

أنه سئل:

من أنت؟
قال: أنا الحق (1).

ومن أشعاره المشهورة:

" سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته ... الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراَ ... في صورة الأكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب " (2).

وأيضاً:

" رأيت ربي بعين قلبي ... فقلت: من أنت؟ قال: أنت
ففي بقائي ولا بقائي ... وفي فنائي وجدت أنت
أشار سري إليك حتى ... فنيت عني ودمت أنت " (3).

ومما يدلّ على جرأة المتصوفة على الكذب ونسبه القول إلى غير قائله أن ابن عجيبه الحسني نسب في إيقاظه نفس هذه الأبيات التي قالها الحلاج , نسبها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال:

" ومما ينسب لسيدنا علي كرم الله وجهه:

رأيت ربي بعين قلبي. . . إلخ " (4).
ويقول الحلاج أيضاً:

فأنا الحق حق للحق حق ... لا بس ذاته فما ثمّ فرق (5).

ومن أبياته المشهورة كذلك:

" أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
روحه روحي وروحي روحه ... من رأى روحين حلّت بدنا " (6).
_________
(1) أنظر مكاشفة القلوب للغزالي ص 26 ط الشعب القاهرة , أيضاً عوارف المعارف للسهروردي 79.
(2) ديوان الحلاج الطبعة الثانية بغداد 1404 هـ.
(3) ديوان الحلاج ص 37.
(4) أنظر إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 58 , 59.
(5) أيضاً ص 67.
(6) أيضاً ص 77 , 78.
هذا بالنسبة للحلول والاتحاد , والوصول والاتصال , الذي يسمونه بوحدة الشهود أيضاً.

وأما " وحدة الوجود " فسنذكر عقيدة الصوفية هذه بالتفصيل إن شاء الله عند ذكر ابن عربي وأفكاره في الكتاب المستقبل إن شاء الله , ولكننا نذكر هنا ملخصاً وإجمالاً.

فيعتقد كثير من الصوفية بأنه ليس هناك فرق بين الله وخلقه إلا أن الله تعالى كلّ , والخلق جزؤه , وأن الله متجلّ في كل شيء من الكون حتى الكلاب والخنازير , فالكل مظاهره , وما في الوجود إلا الله , فهو الظاهر في الكون , والكون مظهره.

فيقول ابن عربي:

" فلا مظهر له إلا نحن , ولا ظهور لنا إلا به , فبه عرفنا أنفسنا وعرفناه , وبنا تحقق عين ما يستحق الإله:

فلولاه لما كنا ... ولولا نحن ما كانا
فإن قلنا بأنا " هو" يكون الحق إيانا
فبدانا ... وأخفاه ... وأبداه ... وأخفانا
فكان الحق أكوانا وكنا نحن ... أعيانا
فيظهرنا ... لنظهر سراراً ثم أعلانا
ويقول أيضاً:

" فالكل أسماء الله , أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته , فما في الوجود إلا الله , والأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها " (1).

ويقول:

" فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده ةمن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات , فكما لا يزول عنه باختلاف الصور إسم الظل كذلك لا يزول باختلاف الصور إسم العالم أو إسم سوى الحق " (2).
_________
(1) أيضاً ص 53.
(2) فصوص الحكم لابن عربي ص 103 ط دار الكتاب العربي بيروت.
وأيضاً " أسماؤنا أسماء الله تعالى إذ إليه الافتقار بلا شك , وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره " (1).

ويقول:
" يا محجوب لم لم تروجه الحق في كل شيء , في ظلمة ونور , مركب بسيط وولطيف وكثيف " (2).

ونصوص أخرى كثيرة له لم نذكرها تجنباً عن الإطالة ز

هذا ويقول حيدر الآملي:

" ليس في الوجود سوى الله " (3).

ونقل روزبهان بقلي شيرازي عن الشبلي أنه قال:

" ليس هناك غير الله " (4).

ونقل ابن عجيبة الحسني عن ابن وفا أنه قال:

" جميع العالمين له ظلال " (5).

ويقول: " ولا شيء في الكون سواه " (6).

وأيضاً: " فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق " (7).

ويقول ابن عطاء الأسكندري:

" كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء إذ هو المتجلي فيها بمحاسن صفاته وأسمائه " (8).

ويقول النفزي الرندي:

" لا موجود سوى الله تعالى على التحقيق , وإن وجود ما سواه إنما هو وهم مجرّد " (9).
_________
(1) أيضاً ص 106.
(2) ذخائر الأعلاق لابن عجيبة ص 78 ط مطبعة السعادة القاهرة.
(3) كتاب نص النصوص لحدير الآملي مخطوط نقلا عن ملحقات ختم الأولياء ع ص 506 ط بيروت.
(4) شرح شطحيات ص 278 ط طهران 1360 هـ.
(5) إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 254.
(6) أيضاً ص 272.
(7) إيقاظ الهمم ص 56.
(8) الحكم العطائية لابن عطاء الله الأسكندري متن غيث المواهب العلية ج 1 ص 100.
(9) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 323.
والوزير لسان الدين بن الخطيب يذكر وحدة الوجود بقوله:

" قال بعض كبارنا: أن الحق عين ما ظهر , وعين ما بطن , ويرون (أي الصوفية) أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة , ووجود الإثنينية وهم , باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الظلال , والصدا , وصور المرائي (جمع مرآة) , وأن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم , كان الله ولا شيء معه " (1).

وأيضاً " فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره وما فيه واحداً , وذلك الواحد هو الحق , وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل , فإذا سقط الباطل وهو اللازم بالأوهام لم يبق إلا الحق. . . فالكل واحد , وإن كان متفرقاً , فسبحان من هو الكل ولا شيء سواه " (2).
ويشرح فلسفة وحدة الوجود بايزيد الأنصاري قائلاً:

" إن الموجودات واحدة مع ذات المعبود. . . قال الشاعر:

ها أنا أم أنت هذان الإلهان
حاشاك حاشاك عن إثبات الاثنين
لإاين ذاتك حيث كنت أرى
قد بان ذاتي حيث لا أنا

كما قيل: من أثبت الله نفى النفس , ومن أثبت النفس نفى الله. . . والموحّد لا يشرك وجود مع ذات المعبود حتى لا يصير مشركاً (3).

فالشرك عندهم إثبات الأثنين إذ لا إثنينية عندهم.

وبذلك قال فخر الدين العراقي المتوفى 688 هـ:

" أأنت أم أنا هذا العين في العين ... حاشاي حاشاي من إثبات إثنين " (4).
ويقول أيضاً:
_________
(1) روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 499.
(2) أيضاً ص 603.
(3) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 235 وما بعد ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكستان.
(4) لمعات ص 56 الطبعة الأولى انتشارات مولى إيران.

" وما الوجه إلا واحد غير أنه ... إذا أنت أعددت المرايا تعدداً " (1).

يعني لا وجود سوى وجه الله والعالم كله عكس لذات الله ووجهه.
ويقول النسفي:
" إن الله هو الموجود حقيقة , والعالم كله خيال ووهم " (2).

ويقول الصوفي الشيعي محمد كاظم عصار: " أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله , وأن الحق تعالى أوجد العبادة في العباد , فهو في الحقيقة يعتبر معبوداً وعابداً وموجداً للعبادة , وحامداً وخالقاً للحمد ومحموداً " (3).

ويقول محمد القونوي:

" إن الوسائط السببية ليست غير تعيّنات الحق في المراتب الإلهية والكونية على إختلاف ضروبها. . . من حيث أن ظاهر الحق مجلي لباطنه " (4).
ويقول: " إن الله هو عين الظاهر وعين المظهر " (5).

وأما ابن الفارض فيقول:

" لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلّت
كلانا مصلّ ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعتي " (6).

وأيضاَ:
" فبي موقفي لا , بل إليّ توجهي ... كذلك صلاتي لي , ومني كعبتي " (7).
_________
(1) أيضا ص 50.
(2) زبدة الحقائق للنسفي ص 82 ط كتابخانه طهوري إيران 1405هـ هجري قمري.
(3) رسالة وحدة الوجود لمحمد كاظم عصار ضمن ثلاث رسائل في الحكمة الإسلامية ترجمة صلاح الصادي ص 16 ط المطبعة المرتضوية إيران.
(4) رسالة النصوص لمحمد القونوي ص 37 ط نشردانشكا هي إيران 1362 هجري قمري.
(5) أيضاً ً ص 57.
(6) نقلاً عن مصرع التصوف للبقاعي المتوفى 885 هـ. تحقيق عبد الرحمن الوكيل ص 64 ط دار الكتب العلمية بيروت.
(7) أنزر مصرع التصوف للعلامة البقاعي ص 73.
وأيضاً:

" إليّ رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي عليّ أستدلّت " (1).

يعني أنه هو المرسل , والرسول , والمرسل إليه.

فالحاصل أن الصوفية يعتقدون أن العالم كله ظل وعكس لذات الله تعالى , فهل في الوجود إلا الله , والإنس والجن , والشجر والحجر , والدود والدواب , والطيور والسباع , والكلاب والخنازير صور مختلفة للتجلي الإلهي , فكل شيء من العالمين إله عند الصوفية , وعلى ذلك نقل الطوسي عن أبي حمزة الصوفي أنه كان إذا سمع صوتاً مثل هبوب الرياح وخرير الماء وصياح الطيور فكان يصيح ويقول: لبيك (2).

ونقل عن أبي الحسين النوري أنه سمع نباح الكلاب فقال: لبيك وسعديك (3).

وأما تجلّيه سبحانه وتعالى وظهوره في القرود والخنازير - عياذاً بالله من نقل الكفر الصوفي البواح - فهو كما ذكر ابن عجيبة الحسني حيث نقل عن الششتري أنه قال:

" محبوبي قد عمّ الوجود , وقد ظهر في بيض وسود , وفي النصارى مع اليهود , وفي الخنازير مع القرود , وفي الحروف مع النقط , أفهمني قط , أفهمني قط " (4).
ونقل البقاعي عن بعض أهل العلم أنه " رأى شخصاً ممن ينتحل هذه المقالة القبيحة بثغر الأسكندرية , وأن ذلك الشخص قال له: أن الله تعالى هو عين كل شيء , فمرّ بهما حمار , فقال: وهذا الحمار؟

فقال: (أي الصوفي): وهذا الحمار.

فقال: وروث الحمار؟

فقال: وروث الحمار. نسأل الله السلامة والتوفيق " (5).

ويقول عبد الرحمن الوكيل محقق " مصرع التصوف ":
_________
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 495.
(2) أيضاً ص 492.
(3) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 55.
(4) مصرع التصوف لبرهان الدين البقاعي ص 123.
(5) هامش مصرع التصوف للوكيل ص 123.
" ذكر الإمام ابن تيمية الصدوق مثل هذه القصة , فقال: مرّ شيخان منهم التلمساني والشيرازي على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم , فقال الشيرازي للتلمساني: هذا (وأشار إلأى جثة الكلب الأجرب) أيضاً هو ذات الله؟

فقال: وهل ثمّ شيء خارج عنها؟ نعم: الجميع ذاته.

وليس هذا بمستغرب ممن يدينون بأن الله سبحانه وتعالى عين كل شيء , فالروث شيء , وحسب الصوفية أن تكون هذه بعض أربابهم وآلهتهم " (1).

وقال في مقدمة كتاب " مصرع التصوف ":

" إن الصوفية ينشدون " وما الكلب والخنزير إلا إلهنا " (2).

هذا وإن الصوفية يعتقدون أن الشيطان أيضاً صورة لذات الله , تجلّت الذات الإلهية فيه , كما ذكر ذلك بايزيد الأنصاري:

" فالشيطان صورة تجلّى فيها بصفة الإضلال والإغواء " (3).

وبناء على هذه المعتقدات الكفرية الضالة وهذه الأباطيل الشركية الزائغة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كفر القائلين بالاتحاد أعظم من كفر النصارى ".
وقبل أن نتكلم عن الفكرة الباطلة الأخرى , فكرة وحدة الأديان نريد أن نبحث فكرة خبيثة نتجت عن " وحدة الوجود " , وهي: أن الصوفية قد عشقوا الصور الجميلة لاعتقادهم أنها مظاهر الحق , فتصوف وحدة الوجود دعوة إلى خلاعة ماجنة وإلى حبّ الشهوات الرذيلة , حيث جعلوا العشق الطبيعي سلّماً للحب الإلهي , وحاكوا في كتبهم الحكايات الغزلية والأساطير العشقية , وجعلوا مجنون ليلى قدوة لهم في حبّهم لله تعالى.

فيقول ابن عربي: ... " الجمال محبوب لذاته , فالعالم كله محب لله وجمال صنعه , سار في خلقه ,
_________
(1) مقدمة كتاب مصرع التصوف ص 5.
(2) المصدر السابق.
(3) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 244.
والعالم مظاهره , فحبّ العالم بعضه بعضاً من حب الله نفسه , فإن الحب صفة الموجود وما في الوجود إلا الله , والجلال والجمال لله. . . فلا محب ولا محبوب إلا الله عز وجل , فما في الوجود إلا الحضرة الإلهية , وهي ذاته وصفاته , وأفعاله " (1).

ويصرح في فصوصه: " فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي " (2).

فحب الصور الجميلة من النساء وغيرهن هو حب لله , لأن الله الظاهر فيهما.

ويقول: " فما أحب الله إلا الله , والعبد لا يتصف بالحب , إذ لا حكم له فيه , فإنه ما أحبه منه سواه , الظاهر فيه , وهو الظاهر " (3).

وأيضاً: " إن الحسن معشوقٌ لذاته في كل شيء ظهر " (4).

وجعلوا الحب السفلي سلّماً للحب الإلهي كما صرّح بذلك الوزير لسان الدين بن الخطيب بقوله:

" عشق الحادث للحادث ربما كان سلّماً للحب الحقيقي الوصل للسعادة " (5).
وصرح أيضاً ابن الدباغ حيث ذكر:

" وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورها
يقول خليلي والظباء سوانح ... أهذا الذي تهوى فقلت نظيرها
لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها
أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... توسلّت قبّلتك تغورها
فقد صحّ أن الجمال الظاهر هو المعنى اللائح على الهياكل الإنسانية التي في غاية كمال الشكل وتمام الهيئة.

وأما الجمال الباطن فهو ما تفيده الأنوار القدسية الإلهية إذا أشرقت على العقول الزكية من الإتصاف بأنواع العلوم الدينية وأسرار المعارف الربانية المؤدية إلى المحبة
_________
(1) الفتوحات المكية لابن عربي ج 2 ص 114.
(2) فصوص الحكم لابن عربي ص 218.
(3) الفتوحات المكية ج 2 ص 111.
(4) ذخائر الأعلاق لابن عربي ص 38.
(5) روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين ص 292.
الحقيقية , ولا يدرك هذا الجمال إلا المعقول التي هي غاية الصفاء المستنيرة من أنوار الله التي تكون سبباً لحصول محبة الحق " (1).

ويقول:

" النظر إلى الجمال عبادة إذا قصد بالتعليق به الوصول إلى خالقه إذ لا يستدلّ على علم الصانع وقدرته إلا بإتقان صنعته وأحكامها. . . وكيف لا يكون النظر إلأى الجمال بهذا الاعتبار عبادة والناظر إليه مطالع لفاطره وواهبه , ومستدلّ به على جماله الذي لا ينبغي إلا له , إذ لا يعطي الجمال إلا من هو أجمل منه , ولا نسبة بين الجمالين كما لا نسبة بين المجاز والحقيقة والفعل والفاعل , بل لا يسمى الجمال المبدع جمالاً إلا من حيث النظر إلى موجده , وأما بالنظر إلى ذاته فهو مجاز محض.

والنظر إلى الواهب هو المقصود , وهذا موصل إليه ودالّ عليه (2).
فانظر إلى القوم كيف يدعون إلى معصية الله ورسوله بالحث على النظر إلى النساء الجميلة , بدليل أن النظر إلأى جمالهن يوصل إلى محبة الله ودال على حبّه إذ أنه هو خالق ذاك الجمال , وأن خالقه أجمل منه.

فأين قول الله عز وجل , الذي أمر فيه المؤمنين {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (3).

ولكن حب الشهوات قد استعبد الصوفية وذهب بهم إلى أنهم كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" النظر إلى الوجه الحسن عبادة " (4).

وفي ذلك يقول عبد الرحمن الوكيل:

" النساء عند الصوفية هنّ أجمل تعينات الذات الإلهية. . . ودائماً ترى الصوفية
_________
(1) مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ ص 47 , 48 ط ... دار صادر بيروت 1379 هـ.
(2) أيضاً ص 120.
(3) سورة النور الآية 30.
(4) مشارق أنوار القلوب ص 116.
يلهجون بذكر النساء , ويرونهن أكمل وأجمل وأتم تعينات الذات الإلهية ومجاليها , وهذا يجعلك تؤمن بأن هناك في أعماق التصوف حيواناً ضارياً يستعبده الشبق والغلمة الداعرة , ويستعلن دائماً بالصريخ الملتهب عما يزلزله من رجفات الشهوات العارمة , وينزو بعربدته على كل مقدسات الدين ومحارم الفضيلة , وتؤمن كذلك أن من مقومات التصوف عبادة المرأة , وتعرف عن يقين لماذا يبحث الصوفية عن درويشات يسلكن معهم طريق القوم " (1).

وأما الاستدلال من أبيات مجنون وأقواله وحكاياته فكما ذكر الوزير لسان الدين في مسألة عبادة الله لا خوفاً ولا رجاءً , يستدل على كون المحبة هي الأصل , لا الخوف والرجاء , من أشعار مجنون يذكرها في روضته:

لو قيل لمجنون ليلى أوصلها
تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال: غبار من تراب نعالها
أحبّ إلى نفسي وأشفى لبلواها (2).
يذكر لسان الدين هذه الأبيات الغزلية ثم يبني عليها قاعدته في الحب بذات الله مستدلاً منها ومن الفلسفة التي ذكرت فيها.

هذا ونقل الشعراني عن الشبلي أنه كان يقول:

" قيل لمجنون بني عامر: أتحبّ ليلى؟
قال: لا.
قيل: ولم؟
قال: لأن المحبة ذريعة للوصلة , وقد سقطت الذريعة , فليلى أن , وأنا ليلى " (3).

فذكر هذه الحكاية واستدل منها على اتصال الصوفي بذات الله سبحانه وتعالى.

ويدعم الطوسي قول من قال: " أنا أنت وأنت أنا " بحب مجنون ليلى , فيقول:

" أما قول القائل " أنا أنت وأنت أنا " فمعناه الإشارة إلى ما أشار إلأيه الشبلي , رحمه الله حيث قال في مجلسه: يا قوم , هذا مجنون بني عامر كان إذا سئل عن ليلى , فكان يقول: أنا
_________
(1) هامش مصرع التصوف ص 141 , 142.
(2) روضة التعريف بالحب الشريف ص 428.
(3) طبقات الشعراني ج 1 ص 104.

ليلى , فكان يغيب بليلى عن ليلى حتى يبقى بمشهد ليلى , ويغيبه عن كل معنى سوى ليلى , ويشهد الأشياء كلها بليلى " (1).
وابن عربي يذكر أنواع الحب وكيفياته , فيقول:

" كان قيس ليلى في هذا المقام , حيث كان يصيح: ليلى , ليلى , في كل ما يكلّم به فإنه كان يتخيّل أنه فقيد لها , ولم يكن. وإنما قرب الصورة المتخيّلة أفرطت في القرب فلم يشاهدها , فكان يطلبها طلب الفائدة , ألا تراه حين جاءته من خارج فلم تطابق صورتها الظاهرة الصورة الباطنة المتخيّلة , التي مسكها في خياله منها , فرآها كأنها مزاحمة لتلك الصورة فخاف فقدها , فقال لها: إليك عني , فأنا حبّك شغلني عنك , يريد أ، تلك الصورة هي عين الحب , فبقي يطلبها: ليلى , ليلى " (2).

يذكر هذا النص ثم يقارن بين الحب الطبيعي والحب الإلهي ويربط العلاقة بينهما.

وروى الشعراني عن أبي الحسين الشيراوي أنه كان يقول:
" رؤى مجنون بني عامر في المنام بعد موته , فقيل له: ما فعل الله بك؟
فقال: غفر لي وجعلني حجة على المحبين " (3).

وإليكم الآن ما قاله الجيلي شارحاً " العشق " ومستدلاً منه على الفناء الإصطلاح الصوفي , فيقول:

" إذا طفح الودّ حتى أفنى المحب والمحبوب سمي عشقاً , وفي هذا المقام يرى العاشق معشوقة فلا يعرفه ولا يصيح إليه , كما روي عن مجنون ليلى أنها مرّت به ذات يوم فدعته إليها لتحدثه , فقال لها: دعيني فإني مشغولٌ بليلى عنك , وهذا آخر مقامات الوصول والقرب فيه ينكر العارف معروفه , فلا يبقى عارف ولا معروف , ولا عاشق ولا معشوق , ولا يبقى إلا العشق وحده , والعشق هو الذات المحض الصرف الذي لا يدخل تحت رسم ولا نعت ولا وصف , فهو أغنى العشق في إبتداء ظهوره يفنى العاشق حتى لا يبقى له إسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف , فإذا امتحن العاشق وانطمس أخذ العشق في
_________
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 437.
(2) الفتوحات المكية لابن عربي ج 2 ص 111.
(3) طبقات الشعراني ج 1 ص 120.
فناء المعشوق والعاشق , فلا يزال يفنى منه الإسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقى عاشق ولا معشوق , فحينئذ يظهر العاشق بالصورتين ويتصف بالصفتين , فيسمى بالعاشق ويسمى بالمعشوق " (1).

هذا ويستدل الطوسي وابن الدباغ على فناء العبد في محبة الله من حكاية عاشق ومعشوق أنهما:
" ركبا سفينة فزلّت قدم أحدهما من أعلى السفينة فسقط في البحر , فلما رآه صاحبه لم يتمالك أن سقط معه , فلما إلى السفينة قال الأول منهما لصاحبه: أنا سقطت دون قصد وأنت لماذا سقطت؟

فقال له: ظننت أنني أنت , وغبت عن نفسي فسقطت.

كلّما مسك شيء مسنّي ... فإذا أنت أنا في كل حال " (2).
وذكروا هذه الحكاية كدليل على الحلول الصوفي والفناء في الذات الإلهي , وكبرهان على القاعدة الصوفية " تقوى المحبة بحسب قوتها حتى لا يفهم المحبّ أن بينه وبين محبوبه فرقاً أصلاً كما قيل:

أفنيتني بك عني ... يا غاية المتني
أدينيتني منك حتى ... ظننت أنك أني " (3).

ويقيس ابن الدباغ محبة الله على محبة الأشخاص , ويحمل وصفة على وصف العباد حيث يقول:

" إن المحب إذا تحقق في مقام وجد الموجود , وظهرت عليه آثار الشهود , يشهد محبوبة في سائر الذوات , وصفاته مع سائر الصفات , فلا يرى الوجود سواها ولا يراها سواه:
_________
(1) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 80 , 81 ط ... مصطفى البابي الطبعة الرابعة.
(2) كتاب اللمع للطوسي ص 437 , أيضاً مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ ص 9.
(3) مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 8.
وطارحني غنج اللحاظ معانياً
أغار عليها أن تلمّ بمسمعي
فكرّرت طرفي في الوجود بأسره
فلم أر فيه غير معناك مقنعي
وطالعت في سرّ الهوى فإذا التي
أطوف عليها في معالمها معي " (1).

ويذكر في موضع آخر من كتابه قاعدة من قواعد الحب ثم يستدل عليها من حكايات غزلية عشقية , فيقول:

" سئل سري السقطي: هل يجد المحب طعم الألم؟
فقال: لا , قيل: وإن ضرب بالسيف؟
قال: وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة على ضربه.
وحكى أن بعض الشطّار ضرب مائة سوطاً فما تألم بذلك , ثم ضرب بعد ذلك سوطاً واحداً فتألم وصاح , فسئل عن ذلك فقال: العين التي كنت أضرب من أجلها كانت معي ناظرة إليّ فلم أجد للضرب ألماً , فلما غابت عني رجعت إلى جسمي فوجد الألم.

وكذلك أيضاً حكي أن بشر بن الحارث قال: رأيت شخصاً ببغداد قد ضرب ألف سوط ولم يتكلم , فلما حمل إلى السجن تبعته فسألته عن سكوته , فقال: معشوقي الذي كنت أضرب من أجله كان حذائي ينظر إليّ , قلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر؟

قال: فزعق زعقة وخرّ ميتاً " (2).

وكذلك عماد الدين الأموي يبين أصلاً من أصول المحبة ثم يدعمها بحكاية غزلية , فيقول:

" وأصل حال المحب أن يقطع تشوقه عن كل شيء سوى محبوبه , فمن نظر إلى سواء فهو محجوب من مولاه.
يحكى أن بعض الناس رأى امرأة جميلة فاشتغل قلبه بها فقال لها: كلي بك مشغول , فقالت: إن كان كلّك بكلي مشغول , فكلي لك مبذول , لكن لي أخت لو رأيت حسنها وجمالها لم تذكرني , فقال: أين هي؟

فقالت: وراءك , فالتفت وراءه فلطمته لطمة وقالت: يا كذاب , لو كنت صادقاً فيما قلت لم يلتفت إلى غيري " (3).
_________
(1) مشارق ص 37.
(2) نفس المصدر ص 75.
(3) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 119.
وأما نجم الدين الكبري فيذكر العشق نقلاً عن الجنيد أنه سئل عن العشق , فقال: " لا أدري ما هو , ولكن رأيت رجلاً أعمى عشق صبياً , وكان الصبي لا ينقاد له , فقال الأعمى: يا حبيبي , أيش تريد مني؟
قال الصبي: روحك , ففارق روحه في الحال " (1).

ثم يقول:

" وقد يفنى العاشق في العشق , فيكون العاشق هو العشق , ثم يفنى العشق في المعشوق , عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر , فبقيت أياماً لا آكل ولا أشرب إلا ما شاء الله , حتى كثرت نار العشق فكنت أتنفّس نيراناً , فتتلقى الناران ما بيني وبين السماء , فما كنت أدري من ثمة أين تلتحقان. فعملت أن ذلك شاهدي في السماء " (2).
فهكذا أعتقد الصوفية أن الله يتجلّى في الصور الجميلة من النساء والصبيان , فالعشق بهنَّ هو العشق بذات الله تعالى , وعلى ذلك لا يستحيون من ذكر وقائعهم التي مضت بهم من العشق بالجواري والصبيان.

فهذا هو الحب الذي قالوا عنه:

" الحب حج ثان " (3).

ونقلوا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال:

" لو ولّيت حساب الخلق يوم القيامة لم أعذب أحداً من العشاق لأنهم لا اختيار لهم في عشقهم " (4).

وأخيراً نذكر من ابن الفارض أبياته الخليعة المشهورة حيث ينشد:

ففي النشأة الأولى تراءت (أي الذات الإلهية) لآدم
ففي مرة لبني وأخرى بثينة
بمظهر حواء قبل حكم الأمومة
وآوانه تدعي بعزة عزت
وتظهر للعشاق في كل مظهر
ولَلسْنَ سواها , لا وَلا كُّنَّ غيرها
من اللبس في أشكال بديعة
وما إن لها في حسنها من شريكة (5).
_________
(1) فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبرى ص 37 , 38 ط ألمانيا بتحقيق المستشرق فريتز مائر.
(2) أيضاً ص 39.
(3) أنظر روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين ط دار الفكر العربي.
(4) أيضاً ص 415.
(5) مصرع التصوف ص 101 ط دار الكتب العلمية بيروت.

ثم يعلّق عليها الوكيل بقوله:

يفتري سلطان الزنادقة أن الذات الإلهية - أتم وأجمل ما تتجلّى - في صورة النساء الجميلات , ويفتري أنها تجلّت في صورة ليلى وبثينة وعزة , وقد رمز بهنّ عن كل أمرأة جميلة عاشقة معشوقة , ولما كان من طبيعة هذا الرب الصوفي العشق , كان لا بد له من التجلّي في صور عشاق ليعشق , ويعشق , فتجلّى في صور قيس وجميل وكثير عشاق أولئك الغانيات.
وقد رمز بهم عن كل فتى اختبله الحب وتيمته الصبابة.

قم يفتري أيضاً الزعم بأن العاشق ليس غير العشيقة , بل هو هي , فالرب الصوفي عشق وعاشق وعشيقة (1).

وأما وحدة الأديان فيؤمن بها الصوفية نتيجة إيمانهم بوحدة الوجود , فيقولون: إن الله هو الظاهر في كل شيء , والشيء يطلق على الصنم أيضاً فكل من عبد شجراً أو حجراً , حيواناً أو إنساناً , كوكباّ أو ملكاً , فهو في الحقيقة يعبد الله , وهذا هو معنى " لا إله إلا الله " عندهم كما يقول عبد الكريم الجيلي:

" لا إله إلا أنا: يعني الإلهية المعبودة ليست إلا أنا , فأنا الظاهر في تلك الأوثان والأفلاك والطبائع , وفي كل ما يعبده أهل كل ملّة ونحلة , فما تلك الآلهة إلا أنا , ولهذا أثبت لهم لفظة الآلهة , وتسمية لهم بهذه اللفظة من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقة لا مجازية , ولا كما يزعم أهل الظاهر أن الحق إنما أراد بذلك من حيث أنهم سموهم آلهة , لا من حيث أنهم في أنفسهم لهم هذه التسمية , وهذا غلط منهم وافتراء على الحق , لأن هذه الأشياء كلها بل جميع ما في الوجود له من جهة ذات الله تعالى في الحقيقة هذه التسمية تسمية حقيقة , لا كما يزعم المقلد من أهل الحجاب أنها تسمية مجازية , ولو كان كذلك لكان الكلام أن تلك الحجارة والكواكب والطبائع والأشياء التي تعبدونها ليست بآلهة , وأن لا إله إلا الله أنا فأعبدوني , لكنه إنما أراد الحق أن يبين لهم أن تلك
_________
(1) هامش المصرع ص 101.
الآلهة مظاهر , وأن حكم الألوهية فيهم حقيقة وأنهم ما عبدوا في جميع ذلك إلا هو , فقال (لا إله إلا أنا) أي ما ثم ما يطلق عليه إسم الإله إلا وهو أنا , فما في العالم ما يعبد غيري , وكيف يعبدون غيري وأنا خلقتهم ليعبدوني ولا يكون إلا ما خلقتهم له , قال عليه الصلاة والسلام في هذا المقام " كل ميسر لما خلق له " أي لعبادة الحق لأن الحق تعالى قال (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) فنبه الحق نبيه موسى عليه السلام على أن أهل تلك الإلهة إنما عبدوا الله تعالى , ولكن من جهة ذلك المظهر , فطلب من موسى أن يعبده من جهة جميع المظاهر فقال (لا إله إلا أنا) أي ما ثم إلا أنا , وكل ما أطلقتموه عليه إسم الإله فهو أنا " (1).

ويقول العطار:

" ليس في عين الإنسان إلا شيء واحد , حيث لا وجود هنا للكعبة والدير " (2).

ويقول الشعراني:

" إعلم أن الموحد سعيه بأي وجه كان توحيده (3) وإن لم يكن مؤمناً بكتاب ولا رسول ويدخل الجنة.

وأما ابن عربي فأمره مشهور , وقد ذكر في كتبه نصوصاً عديدة , وأنشد أبياتاً كثيرة تدلّ على أنه يؤمن بوحدة الأديان , فعبادة الأصنام والأوثان عنده هي عبادة الله تعالى , والدير لديه كالكعبة , الكنيسة كالمسجد , لتنوع التجليات الإلهية , فهو الظاهر المتجلي في كل شيء , فيقول:

" لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى الغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالدين ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هند وأختها ... وقيس وليلى ثم ميّ وعيلان " (4).
_________
(1) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 99.
(2) منطق الطير لفريد الدين عطار ص 389 ط ... دار الأندلس بيروت.
(3) اليواقيت والجواهر للشعراني (2/ 58).
(4) ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق لابن عربي ص 49 وما بعد.
وأنشد أيضاً:

" فوقتا أسمى راعي الظبى بالفلا ... ووقتاً أسمى راهباً ومنجماً
تثلّث محبوبي وقد كان واحداً ... كما صيّروا الأقنام بالذات أقنما " (1).

وصرح قائلاً:
" العارف المكمّل من رأي كل معبود مجلي للحق يعبد فيه , ولذلك سمّوه كلهم إلهاً مع إسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك , هذا إسم الشخصية فيه , والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده , وهي على الحقيقة مجلي الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلي المختص " (2).

وعبادة العجل عنده هي عبادة الله كما يقول:

" وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل , لعلمه بأن الله قد قضى ألاّ يُعبد إلاّ إياه , وما حكم الله بشيء إلا وقع. فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه. فإن العارف من يرى الحق في كل شيء , بل يراه عين كل شيء " (3).

ويؤمن كذلك بدخول جميع الناس في الجنة , مسلماً كان أم كافراً. حيث يقول:

" فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة , وما ثمّ إلا الاعتقادات. فالكل مصيب , وكل مصيب مأجور , وكل مأجور سعيد , وكل سعيد مرضي عنه , وإن شقي زماناً ما في الدار الآخرة " (4).
ويقول أيضاً:

" وأما أهل النار فمآلهم إلى النعيم , ولكن في النار إذ لا بد لصورة النار بعد إنتهاء مدة العقاب أن تكون برداً وسلاماً على من فيها , وهذا نعيمهم , فنعيم أهل النار بعد
_________
(1) أيضاً ص 52 , 53.
(2) أنظر فصوص الحكم لابن عربي ص 195.
(3) أيضاً ص 192.
(4) أيضاً ص 114.

استيفاء الحقوق نعيم خليل الله حين ألقي في النار فإنه عليه السلام تعذّب برؤيتها وبما تعوّد في علمه وتقرر أنها صورة تؤلم من جاورها من الحيوان وما علم مراد الله فيها ومنها في حقه.
فبعد وجود هذه الآلام وجد برداً وسلاماً مع شهود الصورة اللونية في حقه , وهي نار في عيون الناس. فالشيء الواحد يتنوع في عيون الناظرين: هكذا هو التجلّي الإلهي " (1).

وهكذا نختم كتابنا هذا سائلين المولى عزّ وجلّ أن نكون قد وفقنا لتبيين حقيقة الصوفية وردّ شبهات المتصوفين , ونسأل الله الرشاد والهدي وحسن الخاتمة والحمد لله ربّ العالمين.
_________
(1) فصوص الحكم فص حكمة نفسية في كلمة يونسية ص 169 , 170.
ليس العاشق مسلما أو مسيحيا،
أو جزءا من أي عقيدة.
دين العشق لا مذهب له
لتؤمن به أو لا تؤمن
مولانا جلال الدين الرومي

محي الدين ابن عربي ، الذي يعرف في تاريخنا بلقب الشيخ الأكبر أو شيخ الصوفية الأكبر .

دين الهوى عند شيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي

وحتى نفهم أهمية هذا الرجل في تاريخ التصوف، ينبغي أن نعرج على مفهوم التصوف ، الذي غالبًا ما يفهم بمعنيين : 
الأول : معنى عام ، وشعبي نراه متمثلًا في الاحتفالات الخاصة بالأولياء والمولد ، وهي طقوس فلكلورية شعبية تنسب إلى التصوف وهي في الواقع أقرب ما تتم بحجة التصوف ، إذ الشعوب كلها لها احتفالات ، وهذا لا يعني التصوف في شيء.
والآخر : معنى خاص يكون فيه التصوف طريقًا لفهم العالم ، بعيدًا عن الانشغال في الإطار الخارجي الشكلي للدين،  إنما يحاول المتصوف من خلاله الوصول إلى معرفة تتجاوز ظاهر الأشياء إلى إدراك المعنى الكامن خلفها .
من أجل هذا يحرص الصوفيون على  إبانة الفرق القائم بين الظاهر والباطن ، والشريعة والحقيقة، على أساس أن كل ظاهرة شرعية تخفي خلفها حقيقة باطنة .فالشرع مجموعة عبادات ، وهذه العبادات عند الصوفي  باب يدخل منه إلى حقيقة مطلوبة من وراء هذه المسألة ، فالشريعة والحقيقة ، والظاهر والباطن ، والمعلن والمستتر ، والعام والخاص ، هي الثنائيات التي يقوم عليها التصوف.
وفي الحقيقة بدأ التصوف في تاريخ الإنسانية منذ وقت مبكر ، وقد أخذ أسماء وأشكالًا عدّة فهو عرف في اليهودية باسم القبالة(الكابالا) ، وفي المسيحية بالرهبنة ، وفي الإسلام بالتصوف .ويمكن القول إن هذا الاتجاه ظهر منذ القرن الأول من خلال خبرات عميقة تتجاوز الشكل الظاهر للشريعة إلى إدراك باطن وحقيقة هذا العالم. وتتطور تطورًا كبيرًا جدًا خلال القرون الخمسة الأولى ، إلى أن وصل إلى محطة غير مسبوقة ، هي محطة ابن عربي ، الذي ولد في الأندلس ، عام 560هـ ، وفيها نشأ ودرس ، ويبدو أنه جذب للتصوف منذ صغره ، فالمؤرخون لحياته عرضوا حوارًا له مع ابن رشد ، الفيلسوف المشهور ،  قال فيه : "دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبي الوليد بن رشد،  وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليّ في خلوتي ، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع . فبعثني والدي إليه فى حاجةٍ ، قصداً منه حتى يجتمع بي ، فإنَّه كان من أصدقائه ، وأنا (آنذاك) صبي ما بقل وجهي ولا طرَّ شاربي . فعندما دخلت عليه ، قام من مكانه إليَّ محبَّةً وإعظاماً ، فعانقني وقال لي : نعم ! قلت له : نعم ! فزاد فرحه بي لفهمي عنه ، ثم استشعرتُ بما أفرحه ، فقلت : لا ! فانقبض وتغير لونه وشك فيما عنده . وقال لي : كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي ، هل هو ما أعطاه لنا النظر ؟ قلت : نعم ولا ، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها ! فاصفرَّ لونُه" .
وهذا حوار بسيط بين شخصين ، يظهر الصلة بين علوم النظر القائمة على تدبر ذهني،  وبين الإدراك المباشر للحقيقة، ومعرفة الصوفي التي تقوم على إدراك الشيء بمجمله، ويدل على طبيعة المسار الفكري في الإسلام،  فابن رشد يمثل المسار الفكري الفلسفي الذي يستند على فلسفة أرسطو ، وهذا المسار يمكن وصفه بأنه غير متوازن مع فلسفة الفكر العربي ، أما ابن عربي فيمثل مسارًا فكريًا آخر هو التصوف ، وأحسب أنه مسار متناغم مع الشخصية الإسلامية والعربية .
والتقى ابن عربي بابن رشد مرة أخرى عندما حمل على نعشه .ووصف جنازته كالآتي «ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وقلنا في ذلك:

«هذا الإمام وهذه أعماله 
ياليت شعري هل أتت آماله».
واللافت وصفه له  بالإمام وذكره لمؤلفاته التي ساوت وزن جثمانه، وهي على كثرتها لم تحقق آمال قاضي قرطبة وطموحاته.
وهذا الوصف يعكس قلقه المعرفي.إذ تراه مستخرجًا للعلوم الفلسفية، لكن منهجه الصوفي بقي الأساس ، وكانت مصر هي المحطة الأولى التي منها انتقل للشام ومكة لينتهي به المقام على أطراف الشام وحدود تركيا المعاصرة "قونيا".وفي فترة حياته الممتدة من 560_ 638ه ، كتب مؤلفات عدّة ، بأفق عميق تتجلى فيه المعرفة واللغة الصوفية ، نادرًا مانجده عند شخص آخر ، فهو (كون) غير محدود ، وقد أخبرنا في فهرست أعدها لمؤلفاته أنها بلغت 250 ، وهو ألف بعد هذا الفهرست كتبا جديدة وصلت إلى 500 كتاب حسب ما أشارت له بعض الدراسات الحديثة.أما كتابه الأساسي فهو الفتوحات المكية وهو 37 سفر ، و560 باب ، وقد نشر في أربع مجلدات دون تحقيق ، ثم عمد عثمان يحيى إلى تحقيقه ، واستغرق هذا منه 25 سنة ، خرج فيها ب 17جزء ، ومات دون أن يكملها ، ولا أظن أنه من اليسير استكمال تحقيقه. فهو نص صوفي ، موغل في التعمق، ولغته رمزية ، ويستخدم إشارات إلهية ، ولا بد عند قراءته من الانتباه لكل المفردات .يقول في بدايته:
"لو علمتَه لَمْ يَكُن هُو، وَلو جَهلَك لَمْ تكن أنت: فبعلمه أوجدَك، وبعجزك عبدتَه! فهو هو لِهُوَ: لا لَكَ. وأنت أنت : لأنت وَلَهُ! فأنت مرتبط به، ما هو مرتبط بك . الدائرةُ – مطلقةً –مرتبطةٌ بالنقطة .النقطةُ – مطلقةً-ليست مرتبطةً بالدائرة . نقطةُ الدائرة مرتبطةٌ بالدائرة"
هذا نص لا يتجاوز السطرين وفيه يُقِر ابن عربي أن الخلق لو عرفوا الله ، فما ظنوا أنهم عرفوه ليس هو ، ولو هو الذي جهلهم ، لما وُجِدوا ، فالخلق موجودون بشرط معرفة الرب بهم .وهو وهم (أي الخلق) في اختلاف أساسي ، فهو هو بصرف النظر عنهم ، وهم هم وهو ، فهو النقطة والوجود هو الدائرة ، ونقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة. 
ونقطة الدائرة نظرية كبيرة لا يمكن بسط الحديث عنها ، وباختصار فيما فهمت  النقطة هي الإنسان الكامل الذي تجتمع فيه صفات الربوبية والإنسانية ، وتسميه الصوفية ب "القطب" .ولم يتحدث ابن عربي مباشرة عن مفهوم القطب . وإنما رمز به لغة وأظهر : أن الناس إما عوام شغلهم الشاغل المسائل المؤقتة ـ وإما أهل ولاية وهم خواص الخواص، ومن أهل الولاية ثمة نقطة عليا (نقطة القطب) محل نظر الله من العالم .
وقد شرح هذه النظرية عبد الكريم الجيلي بالتفصيل ، وأودى شرحه به إلى مشكلات عدّة ، ومثله شهاب الدين السهروردي الذي شرحها تحت عنوان الحكيم المتأله ، وقوبِل شرحه بمعارضة قوية أدت في ختام المطاف لمقتله .وكذلك محمد ابن عبد الحق ابن سبعين الذي شرحها تحت اسم "المحقق" في كتابه بد العارف الذي اضطهد بسببه .
لقد كان ابن عربي بارعًا حينما أشار لهذه الفكرة "القطب" دون أن تؤخذ عليه شخصيًا ، ويمكن القول إنه من الشخصيات الحدّية التي إما أن تتعامل معها بتقدير شديد ، أو باستنكار ونقض ، وهذا الأمر لا يكون إلا لكل من تجاوز النمط السائد ، بمعنى اننا لا يمكن أن نتخذ موقفًا متوازنًا حيال مثل هذه الشخصيات .فلو سألنا بعض الفقهاء  من مثل البقاعي والأوزاعي سيقولون هو كافر ، ولو سألنا المتصوفة سيقولون عنه هو الشيخ الأكبر.وهذه المعايير والأحكام متعلقة بنظام المعرفة ، فهو جوبه بكره شديد خاصة من فقهاء الظاهر والناس السطحيين .
أما إذا انتقلنا لحياته فسنرى أنها تمثل منظومة  متكاملة فيها المعرفة ، والخبرة الصوفية، والتأليف ، والسفر،  والمشيخة ، والرؤيا الصادمة . وآخذ مثالًا على بعض رؤياه أختاره من  كتابه فصوص الحكم الذي تعرض فيه إلى موضوع دقيق وهو : كيف أن الله يتجلى تجليا كاملا في الإنسان .
 "لما شاء الحق سبحانه وتعالى من حيث أسمائه الحسنى التي لايبلغها الإحصاء أن يرى أعيانها و إن شئت قلت أن يرى عينه في كون جامع يحصر الأمر كله .لكونه متصفا بالوجود ، و يظهر به سره إليه.فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة ، فانه تظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور إليه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل و لا تجليه له. وقد كان الحق أوجد العالم كله وجود شبح مسوى لا روح فيه ، فكان كمرآة غير مجلوة ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلا إلا و لابد أن يقبل روحا إلهيا عبر عنه بالنفخ فيه ، وما هو إلا حصول استعداد من تلك الصورة المسواة لقبول الفيض التجلي الدائم الذي لم يزل و لايزال. وما بقي ثمة قابل ، والقابل لا يكون إلا من فيضه القدس. فالأمر كله منه ابتداؤه و انتهاؤه : ( وإليه يرجع الأمر كله) كما ابتدأ منه. فاقتضى الأمر جلاء مرآة العالم ، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة و روح تلك الصورة. وكانت الملائكة من بعض قوى تلك الصورة التي هي صورة تلك العالم المعبر عنه في اصطلاح القوم ب " الإنسان الكبير". فكانت الملائكة له كالقوى الروحانية و الحسية التي هي النشأة الإنسانية. وكل قوة محجوبة بنفسها لا ترى أفضل من ذاتها. وأن فيها فيما تزعم ، الأهلية لكل منصب عال ومرتبة رفيعة عند الله لما عندها من الجمعية الإلهية". شرج الجامي لفصوص الحكم ص 49.50.51.52.53.54.
بمعنى ان الوجود الإلهي يظهر في كل شيء ولكنه لا يتجلى في شيء مثلما يتجلى في الإنسان .وفي الفصوص استعرض ابن عربي الأنبياء السابقين من حيث ان كل نبي يعكس تجليًا من التجليات الإلهية ـ وفي النهاية وضع نفسه على نحو مشكل ، ومثير للجدل في هذا السياق ، عندما رأى رؤيا حكاها وهي انه رأى الكعبة مبنية من لبنة من ذهب وأخرى من فضة وثمة لبنة ناقصة فيها هي "ابن عربي" .وهذه مسألة كفيلة بإباحة دمه في ثفافتنا التي كثيرًا ما تميل إلى هذا الحل ، ليس مع أصحاب الصوفية فقط وإنما أصحاب الاتجاهات الجديدة ، الذين يحملون فكر مختلف كالشعراء والعلماء والمشايخ الأجلاء الذين لا خلاف عليهم من مثل الشريف الرضي فهو عالم حظي باهتمام السنة والشيعة ، وهو الذي قال:

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به    لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثـــنا 
ولاستحل رجال مسلمون دمي    يرون أقبح ما يأتـــونه حســــــنا
فهذا الإمام مثل محطة أساسية عند الشيعة ، وعلامة كبرى عند أهل السنة ، يرى انه في نفسه أمور كثيرة لو نطق بها سيستباح دمه . وهذه الرؤية تظهر ان استباحة الدم والميل إلى الاستتار يمثل هاجسا دائما في تراثنا ، في الوقت الذي يظهر بصورة مؤقتة في الحضارات والثقافات الأخرى .وهذا مرتبط بسياق الجماعة ، فثمة سياق ليبرالي يسمح بتفجر الأفكار الجديدة والمواقف الإنسانية ، وسياق آخر حازم ونمطي يخشى من الجديد المختلف وبالتالي يجد من الأسهل قطع الخيط وإنهاء المشكلة .
وابن عربي في إطار تطوره الفكري تعرض لقضية تغيير أساسية ، هي حل المشكلات الموجودة بين الديانات ، إذ  رأى ان الديانات لم تتغير كثيرًا ، وأن فيها اختلاف أساسي يجعل الإنسان الذي هو المجلى الكامل للألوهية ، ومحل الظهور أو التجلي الإلهي مختلف في اعتقاداته .
وطرح سيرة أخرى حين قال:

لقدْ كنتُ قبلَ اليـومِ أُنكر صاحبي                    إذا لم يكن ديني إلى دينِهِ داني

          وقـد صـار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ          فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
          وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائـــفٍ              وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
          أدينُ بدينِ الحبِّ أنـىَّ توجَّـهـتْ            ركائبه فالحبُّ ديني وإيمانـي

إذا كان هو في السابق يرى أن الناس يمكن تصنيفهم على حسب اعتقاداتهم الدينية ، فإن كانوا من دين آخر فهو ينكر عليهم وبالتالي ينكرهم .وفجأة وجد قلبه يقبل كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن ، حتى الاعتقادات الوثنية يراها في هذه الحالة ان المقصود بها التقرب إلى الله الكامل في الأشياء ، ولما يصل إلى هذه الأشياء يكتشف أن المسعى واحد والشكل مختلف ، فقلبه الذي صار قابلًا كل صورة ،يقبل بيت الأوثان والكعبة والمصحف والتوراة.
وقوله أدين بدين الحب يمكن أن نفسره باتجاهين :
_اتجاه النظر إلى الأديان بِعَدِّها تجليات متتالية للحقيقة الإلهية وهذا الحل الأيسر.

_واتجاه آخر أكثر تعقيدًا ، وهو البدء في فكرة الحب نفسها ، ورصد الكيفية التي يرتقي الصوفي بها ليصل إلى هذا المستوى.
فهو لما نزل بمكة كان عمره في الأربعينات ، والتقى فيها برجل معروف اسمه الشيخ زاهر الدين ابن رستم الكيلاني ، أصله من أصفهان ، وهو عالم في الحديث ، وكان له ابنة تسمى ب "النظام" ، ولما رآها أحبها حبًا عميقًا بحيث استطاع أن يصل به إلى التماس مع الوجود الحقيقي للأشياء .وهو وصفها فقال:" بنت عذراء ، طفيلةٌ هيفاءُ ، تقيِّد النظر وتزيِّن المحاضِر والمحاضر وتحير المناظر ، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس .. ساحرةُ الطرفِ ، عراقيَّة الظرف ، إن أسهبت أتعبت ، وإن أوجزت أعجزت ، وإن أفصحت أوضحت ، إن نطقت خَرِسَ قسُّ بنُ ساعدةَ، وإن كَرُمت خَنَسَ معنُ بنُ زائدة، وإن وفَّت قصَّر السمؤال خطاه ... ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض السيئة الأغراض ، لأخذتُ فى شرح ما أودع الله تعالى فى خلقها من الحسن ، وفى خُلُقها الذى هو روضةُ المزنِ ، شمسٌ بين العلماء ، بستان بين الأدباء ، حُقَّةٌ مختومة ، واسطة عقدٍ منظومة ، يتيمة دهرها ، كريمة عصرها .. مسكنُها جيادٌ وبيتها من العينِ السوادُ ومن الصدر الفؤاد ، أشرقت بها تهامه ، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه .. عليها مسحة مَلَكٍ وهمَّة مَلِكٍ ".
 
وقال:
طالَ شَوقي لِطَفلَةٍ ذاتِ نَثرٍ       وَنِظامٍ وَمِنبَرٍ وَبَيانِ
مِن بَناتِ المُلوكِ مِن دارِ فُرسٍ       مِن أَجَلَّ البِلادِ مِن أَصبَهانِ
هِيَ بِنتُ العِراقِ بِنتُ إِمامي       وَأَنا ضِدُّها سَليلُ يَماني
هَل رَأَيتُم يا سادَتي أَو سَمِعتُم       أَنَّ ضِدَّينِ قَطُّ يَجتَمِعانِ

وقوله سليل يماني يعني انه عربي ، وهو لم يقصد في هذه الأبيات الإشارة إلى الاختلاف بينهما في الأصل فقط وإنما أراد أن يقول: إنه اكتمل في وعيه وخبراته الحياتية ، إذ تزوج أكثر من مرة قبل وبعد أن التقى بها ، وهي طفلة ولكنها في نظره كبيرة ، فبهذا المعنى هما ضدان ، وبمعنى ما التقيا ، لقاء وصفه:
إِذا ما اِلتَقَينا لِلوَداعِ حَسِبتَنا       لَدى الضَمِّ وَالتَعنيقِ حَرفاً مُشَدَّدا
والحرف المشدد في العربية عبارة عن حرفين لكنهما لا يظهران ، بمعنى أن حبه لها لم يكن في المطلق ، وإنما هو امتزاج رأى أنه وصل من خلاله إلى الالتصاق "الحرف المشدد "، ولم تقتصر المسألة على الجانب الحسي  فحبه إن أحب ليس مثل الآخرين ، ومثله النظام التي إذا عشقت فعشقها مختلف.الحب عندهما طريق وحيد لإدراك المعنى الكامن خلف الأشياء ، ولكن حينما كثر الكلام على حبهما ، اضطر إلى الابتعاد ، وقال :

إِنَّ الفِراقَ مَعَ الغَرامِ لَقاتِلي       صَعبُ الغَرامِ مَعَ اللِقاءِ يَهونُ
والغرام في اللغة هو العذاب ، ولذلك جاء في كتاب الله تعالى في وصف جنهم " إن عذابها كان غراما" ، لقد كان صاحبنا في حالة توهج عند اللقاء ، وصعب عليه الانقطاع ، والأصعب من هذا هو رفض أتباعه وأعدائه لحبه للنظام ، فعشقه تهمة كبرى .وهذا الرفض اتهام جاهز يدعو إلى الاستغراب ، فيبدو أن الأشخاص الذين يرتقون بفكرهم يعيبهم الحب أو العشق في نظر العامة ، لكن ابن عربي لم يضره هذا وعشق عشقًا حقيقيًا ، وكتب في هذا العشق ديوان " ترجمان الأشواق " أي المعبر عن الأشواق .وثار الخلق وقالوا الشيخ الأكبر أحب بنتًا صغيرة ، ألا يخجل من نفسه ؟ 
وهذه الثورة تنم عن  فهم ساذج للأشياء ، وتعارض حقائق في التراث نمر عليها مرورًا سريعًا ، فمثلًا الشيخ نجم الدين كوبْرى رجل صوفي كبير ، وهو واحد من أهم الشخصيات التي أثرت في تاريخ الحضارة العربية ، وعلى أيدي تلامذته أسلم ملوك المغول ، وقد أسسوا دولة كاملة ، وهو واحد ممن كتبوا كتابة أقل ما توصف به أنها مذهلة،   ومع هذا في كتابه "فوائح الجمال وفواتح الجلال " يحدثنا بشكل صريح عن الحالات التي مرّ بها وهو شيخ كبير ،
فيقول: " عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر ، فبقيت أيامًا لا آكل ولا أشرب _ إلا ما شاء الله_ حتى كثرت نار العشق ، فكنت أتنفس نيرانا ...وكلما تنفست نارًا ، تنفَّسوا من السماء _ بحذاء نَفَسي _نارًا ، فتلتقي الناران ما بيني وبين السماء ، فما كنت أدري من ثَمَّة أين تلتحقان ؛ فعلمتُ أن ذلك شاهدي في السماء" ( ص182_183).
قد يقول بعض الناس إن الصوفيين معرضون لمثل تلك الحالات ،  فنقول لهم خذوا الفقهاء ، وأشد المذاهب الفقهية تشددًا " الحنبلي" ومن كبار الأسماء في هذا المذهب طوال التاريخ أبو الفرج ابن الجوزي ، وهو علامة كبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية ، مؤرخ ، وفقيه ، وصاحب مجلس وعظي ، ووقف وقفات ضد الصوفية ، وكتب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم  وغيره من المؤلفات الهامة .وكان إلى جانب هذا قد أحب واحدة اسمها " نسيم الصبا" ، والصبا ريح لطيفة تهب في الجزيرة العربية في المساء ، وقد تزوجها فأقاما مدة متحابين، حتى وقعت بينهما وحشة بسبب اهتمامه بالعلم والتعليم ففارقها وطلقها ، فحصل له عند ذلك ندم وهيام أشرف منه على التلف، فحضرت في بعض الأيام مجلس وعظه، فحين رآها عرفها، فاتفق أنه جاءته امرأتان وجلستا أمامه فحجبتاها عنه فأنشد في الحال: 
أيا جبلي نعمان بالله خليا    نسيم الصبا يخلصْ إلي نسيمها
و هذا البيت الذي استشهد به ابن الجوزي هو من قصيدة قالها مجنون ليلى .وهذه الحادثة أو الخبر عدّ منقصة له ، إلا أنه كان من القوة بحيث استهان بهذا وكتب عنه المؤرخون أنه برغم علوّ كعبه في العلوم إلا أنه كان لا ينفكُّ عن جارية حسناء ، ليس هذا فقط وإنما حتى وهو في آخر حياته وقع بقصة حبّ عميقة مع امرأة اسمها (خاتون أم محيي الدين ) وتوفي وكانت جنازته كبيرة جدا وبعد يوم من وفاته ماتت خاتون أم محيي الدين ، وقال المؤرخون : فعد ذلك من كراماته لأنه كان مُغرمٌ بها .
هذه بعض وقائع الحب الجزئية فيما يبدو ، وإجابات للوصول إلى معنى خلف المعنى البسيط للأمر ،  فصاحبنا وصل الحب به إلى مذهب كامل ورؤية مختلفة يقول : "لا احْتِجَار عَلَى الهَوَى ولِهَذَا يُهْوَى ، بالهوى يُجْتَنَبُ الهَوَى، وَحَقِّ الهَوَى إنَّ الهَوَى سَبَبُ الهَوَى، وَلَوْلا الهَوَى فِي الحُبِّ مَا عُبِدَ الهَوَى ، بِالهَوَى يُتّبَعُ الحَقّ، وَالهَوَى يُقْعِدَك مَقْعَدَ صِدْق ، الهَوَى مَلاذُ، وفِي العِبَادةِ بِهِ إلتِذَاذْ، وَهُو مَعَاذٌ لِمَنْ بِهِ عَاذْ
فالمعنى انطلق من الحسية وكونهما في اللقاء حرفاً مشدداً ، إلى إعلاء للحالة وتوهج فيها يتجاوز حتى العاشق والمعشوق . فيقول :" الأحْبَابُ أرْبَابْ ، والمَحْبُوبُ خَلْفَ البَابْ، المُحِبُّ رَبُّ دَعْوَى ، فَهُوَ صَاحِبُ بَلْوَى، المَحْبُوب إنْ شَاءَ وَصَلْ ، وإنْ شَاءَ هَجَرْ، المُحِبُّ إذَا ادّعَى مَحَبَّة اُخْتُبِرَ ، فالمُحِبُّ فِي الاختبارِ والحَبِيبُ مُثَارٌ مِنَ الأغْيَار، ولِهَذَا لا تُدْرِكْهُ الأبْصَار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَار".

ورب الشيء أي صاحبه ، وخلف الباب أي محتجب ومستترٌ لا يظهر. وفي قوله السابق محاولة للوصول إلى معنى عميق ، وإلى الإعلاء لحالة الحب الجزئية والوصول إلى معنى أرقى من حالات الحب النمطي .
لذلك فرق بين الشوق والاشتياق فالحال الأول يقارب حال الجائع الذي يأكل كل ما جاع  ، وهو  غالبًا مايسكن في اللقاء ، أما الحال الآخر فإنه يهيج صاحبه عند اللقاء بالمحبوب ، ولا يعرف الاشتياق إلا العشاق ، إذ كلما توغلوا أصبحوا أكثر رغبة في المزيد إلى ما لا نهاية  ." الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء، لا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق. مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق. مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟ وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن! للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة. والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟ وهَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور. والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه. وَلاَ بحُكْمِ مَنْ أَحَبَّهْ. فَمَا حَبَّ محُبٌّ إلاَّ نَفْسَهُ. أوْ، ما عَشِقَ عاشِقٌ، إِلاَّ مَعْنَاهُ وَحِسَّهُ. لِذَلِك،العُشَّاقُ يَتأَلمونَ بِالْفِراق، وَيَطْلُبُونَ لَذَّةَ التَّلاَق.فَهُمْ فى حُظُوظ نُفُوسِهمْ يَسْعَوْن.وَهُمْ في العُشَّاقِ الأَعْلَوْن.فَإنهَّمْ العُلَماءُ بالأُمُور، وبالَّذى خَبَّاهُ الحقُّ خَلْف السُّتُور.فَلاَ مِنَّةً لُمحبٍّ عَلَى محْبُوبِهِ، فَإنَّهُ مَعَ مَطْلُوبهِ. وَلاَ عنْدَهُ محْبُوبٌ ومَرْغُوب سِوَى مَا تَقِرُّ بِهِ عَيْنُه، وَيَبْتَهجُ بِهِ كَوْنُه. وَلَوْ أرَادَ المحِبُّ ما يُريدُهُ المحْبُوبُ مِنَ الهَجْرِ، هَلَكَ.. بَينْ الإرَادَة، وَالأَمْرِ ! وَمَا صَحَّ دَعْوَاهُ فىِ المحَبَّةِ، وَلاَ كَانَ مِنَ الأَحِبَّةِ".
الحب ليس بديلا ، هو معنى وراء الأشكال الظاهرية ، من يقوم بثيابه كيف يسكن ، فالمحبوب هو مجلى لحقيقة العالم ، والمحب أدرك هذا فيه فاختبره ، فالقضية بالمحب لا المحبوب.مثل شخص ينظر بمرآة ، فيكون المحبوب مرآة ، يتجلى فيها العاشق، بمعنى أن العاشق يرى حقيقته على مرآة المعشوق ، ومن هنا جاء الفرق بين مستويات العشق.فهناك عشق عذري، وعابر وكامل ...والعشق في اللغة من العشقة : أي جذع الشجرة الذي إن قطع جف وأصبح هشًّا، ، وهناك مستوى أعلى  يمثله حب الصوفيين ومنهم ابن عربي ، يرى فيه المحب حقيقته متجلية على مرآة محبوبه ، والحب يمتد إلى ما لا نهاية ، وهو لا يتوقف عند فعل ما مهما كان عميقا ، لذلك يتألم المحب بالفراق ويلتذ باللقاء ، بمعنى أن احتجاب المحبوب يعني أن المحب لا يستطيع أن يرى ذاته .لذلك فصّل صاحبنا القول في الإرادة والأمر فهناك أشياء تكون بالإرادة وأشياء أخرى تكون بالأمر وهناك أمر تكويني وأمر تكليفي.
فالأمر التكويني في أن آدم لابد من أن يعصي ربه حتى يتواجد الخلق ، والأمر التكليفي هو أنه قال له لا تأكل من الشجرة ، فهو قال هذا وهو أمر تكليفي وليس تكويني، فيبدو آدم يعصي الله، ولكن الحقيقة هو أنه لابد أن يأكل من الشجر حتى يتواجد الخلق وإلا لم تكتمل مسألة الوجود .
وقد تم إعلاء هذا الأمر إلى إبليس نفسه الذي أطاع الله بالأمر التكويني وعصاه بالأمر التكليفي، وهذا يفسر كيف ان إبليس كلم الله في القرآن وقال له "فبعزّتِكَ لأغْوِيَنّهُم أجْمَعِين " لأن هذه المهمة يريدها الله ولكن لم يأمره بها ، ففي الحب هناك إرادة وهناك أمر.  إرادة : وهي عقل المحب والمحبوب وأمر: وهو حالة المحب والمحبوب ، والعقل هو السيطرة ، والصوفي بحبه يحاول أن يوازي بين ( العقل والسيطرة ، وحالة التوتر ) ليسيطر على الأمر والفيضان العشقي المتوهج في نفسه وإن فارق المحبوب ، وهذا ما قد يفسر لنا ابتعاد ابن عربي عن النظام بسبب كلام الناس ، أو الإعلان الخاص بالسر ، ولكنه يرجع ليكتب ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق ، وفيه يجلي حبه في ظل الحضرة الإلهية ، فيصير الحب هو دينه ويتجاوز الخلافات بين الديانات.


تتعالى الزفرات والأنـَّـات من المتألمين والمعذبين في أماكن عديدة من عالمنا بسبب الحروب والمنازعات،  ويتفجر العنف الطائفي والاقتتال الداخلي وما  ينجم عنهما من ويلات في بعض الدول، لبروز تيارات متطرفة وتعصبات متشددة تتحكم بمصائر الناس وتبث الخوف واليأس فيهم وتضع السلم العالمي في خطر. يضاف إلى هذا، حالة التمزق والضياع "والتشظي الأخلاقي" التي يعيشها كثرة من جيل الحداثة، لانجرافهم وراء بهارج العصر ومادياته ولذاته المدمرة، وانقيادهم في غير الهدف الإيجابي الذي اخترعت من أجله تـَقنيات الاتصالات وشِباكها.. التي أصبحت مهوى أفئدتهم وشغلهم الشاغل مما تسبب في ابتعادهم عن القيم والضوابط الأخلاقية، فتنامت والحالة هذه القضايا والمعضلات المجتمعية!
Photo: ‎من ديوان شمس التبريزي لجلال الدين الرومي 

جلال الدينا يصف دخول شمس التبريزي حياته‎
لقد باتت الحاجة ملحَّة "لإنقاذ هُوية الكائن البشري من التلاشي في عالمنا الذي تسيطر عليه الثقافة التسويقية، وهنالك مخاوف من أن يختزل الطغيان التكنولوجي المتزايد الإنسان عن كونه إنساناً بتحويله إلى مجرد آلة للإنتاج والاستهلاك دون أي أفق يتطلع منه إلى ما وراء التلاعب التكنولوجي" والحديث للأب المستشرق الإيطالي  البروفيسور جوزيف سكاتولين أستاذ التصوف الإسلامي في المعهد البابوي للدراسات الإسلامية والعربية بروما، الذي يقرع الجرس مُـنبهاً عقلاء العالم إلى لـُـباب مُعضلةٍ تلامس المجتمع الدولي بأسره، يقول: "إن الإنسان صنع الآلة ثم تحول على صورتها ومِثالها - إن لم يكن قد تحول إلى عَبـْدٍ لها - ومن يدري، أيتحول إلى روبوتٍ متقن، يعمل وينتج ويستهلك في إطار نظام روبوتي شامل محكم مطلق بحيث يصبح وجوده مجرد وظيفة عملية روبوتية، يمكن تبديلها بكل سهولة بوحدات روبوتية أخرى؟" ويضيف في كتابه الجديد القيـِّم المعنون "التـَجلـِياتُ الروحية ُ في الإسلام - نصوصٌ صوفية ٌ عَبرَ التاريخ-" "لقد أخذ الإنسان شيئاً فشيئاً - وبإرادته - ينعزل عن السر الإلهي المطلق الذي هو غاية رغبات القلب البشري وبُغية رحلة حجه عبر الزمن." واستناداً إلى هذه الدلالة يَسُوغ ُ القولُ: إن الجفاف الروحي الناجم عن هجر جوهر التقاليد الدينية يُعَّرض عالمنا لحالة عدم الاستقرار! لقد حان الوقت أن ينهض الإنسان من غفلته وينفض عنه إلى غير رجعة الخصومات والمنازعات، والتعنت الأعمى الذي يُـفضي إلى التفرقةِ والجفاء والخراب.. وأن تكون مسيرة حياته - فعلُ محبة- بهذا: "يحقق الإنسان دعوته الأسمى التي هي مقصد الديانات التي تقود نحو اللقاء مع السر الإلهي المطلق الذي هو سر حُبٍّ مطلق، كما عرفه واختبره الصوفية باعتبارهم أكثر عمقا وتفهما له".

قالت شاعِرَة ٌ لِذِي النون تصف قوماً مرَّت بهم ببعض نواحي الشام:

 Photo: ‎إن مهمتك ليست البحث عن الحب!  بل.. البحث بداخلك عن تلك الجدران والحواجز التي تبقيه بعيدا عن روحك..
مولانا جلال الدين الرومي‎

قومٌ هُمومُهمُ بالله قد علقـت            فــما لهُمُ هِــمـَـمٌ تسمــو إلى أحَدِ

Photo: ‎ليس العاشق مسلما أو مسيحيا،
أو جزءا من أي عقيدة.
دين العشق لا مذهب له
لتؤمن به أو لا تؤمن
مولانا جلال الدين الرومي‎ 

ويشير البروفيسور  سكاتولين ، الذي كرَّس عمره المديد للدراسات والبحوث الصوفية واللاهوتية والفلسفية   إلى أن "الحدود التي تحدد وتكبـِّـل وجودنا البشري العادي المرسوم في إطار الزمان والمكان، ممكنٌ تجاوزها، من خلال الخبرة الصوفية التي هي في أساسها لقاء مع الحقيقة المطلقة،  التي هي  ليست ملكاً أو حكراً لأي كائن، كما أنها لا يمكن حصرها في حدود ثقافة بشرية معينة". ويضيف قائلا في كتابه الجديد الذي شارك في إنجازه الباحث الأستاذ أحمد حسن أنور/ ماجستير تصوف إسلامي/ ويعمل على رسالة الدكتوراه بإشراف  البروفيسور سكاتولين : "إن الصوفية هي  جوهر كل  خبرة دينية وهي خبرة عملية ذاتية وليست ضرباً من العلوم النظرية، وإنها لقاء حَيٌّ وخبرة ملموسة مع مَنْ هو الأساس الأول والغاية القصوى بل والهدف الأخير للوجود البشري ووجود الكون كله". من هذا المـَلـْحَظ فإن توظيف الصوفية لتكون الأساس في التقارب والتعارف بين الأديان بل والثقافات والحضارات، سيحقق قوة يمكنها مجابهة التحديات وفرض احترام هُوية الجماعات البشرية لتحقيق الخير الشامل. وليس بخافٍ على أحد أن "التصوف الإسلامي يمثل ثروة روحية عظيمة ليس فقط على مستوى الحضارة الإسلامية بل على مستوى الحضارات العالمية جمعاء، لذلك فهو مؤهل لكي يكون مجالاً مفتوحا للتلاقي بين الحضارات والأديان العالمية". يضاف إلى هذا أن "نشر البعد الروحي في الإسلام وفي الأديان كلها هو رد على كل أصحاب الفكر المتطرف". لأن البعد الروحي في الأديان، وقد  شاء الخالق تعالى لحكمته التي هي فوق إدراك عقولنا البشرية أن تكون مختلفة متنوعة، يقوم على المحبة والتعاضد والأخوة بين البشر على اختلاف عقائدهم ومنابتهم ولونهم وجنسهم بهدف بناء حضارة إنسانية مزدهرة.. وهذا بالطبع لا يروق  لمن" يزرعون الزؤان بين القمح" الذين من مصلحتهم تفريق الناس وتشتيتهم، وإبقاء بؤر التوتر مشتعلة وجراح الإنسانية نازفة!
Photo: ‎«ليختر أحدنا الآخر رفيقًا له!/ وليجلس أحدنا عند قدمى الآخر!/ ففى داخلنا الكثير من الانسجام/ ولا تظنن أننا ما نراه فحسب

مولانا جلال الدين الرومي‎
في تعْريفٍ من عشراتٍ.. وردت في الكتاب لكلمة صوفيّ، قال بـِشـْر بن الحارث "الصُّوفيَ من صَفـَا قلبُهُ لله". ومتى تمَّ هذا ، أشرق نوره في عبده، وحيثما يحل النور تنهزم العتمة.

في قصيدته المطولة التائية الكبرى (٧٦١ بيتاً) أنشد سلطان العاشقين عمر ابن الفارض هذا البيت المُعبِّر:

وَمِن نـُورِهِ مِشكاة ُ ذاتي أشـْرَقـــَت           عليَّ فـَـنارت بي عشاي كصَحْوَتي

ولتوضيح فكرة التصوُّف للمتسائل أو المعترض فقد تم إفرادُ جزءٍ وافر في الباب الأول من الكتاب لهذا الأمر، إلى جانب مكانة التصوف ومراحله التاريخية ومدى أهمية للإنسان المعاصر. يقول البروفيسور سكاتولين : "إن أصوبَ وأعقلَ طريقٍ إزاء تضارب الآراء والأحكام المسبقة والأهواء الفردية المتحيزة هو اللجوء إلى الواقع التاريخي الأكثر موضوعية وثقة، مع إعادة قراءة مصادره الأصلية على ضوء المناهج العلمية المقبولة عامة في المراكز العلمية المعاصرة، فالتصوف الإسلامي يمثل حركة تاريخية واسعة ممتدة عبر القرون أنتجت أنتاجاً دينياً وثقافيا وفنياً متميزاً في جملة الحضارة الإسلامية".
Photo: ‎في الحياة تحاشي التطرف بجميع أنواعه ، لأنه سيحطم اتزانك الداخلي


شمس التبربزي‎
وقد وصف فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر (  وفضيلته حالياً حفظه الله: الإمام الأكبر الجديد، شيخ الجامع الأزهر) وصف  الكتاب في معرض تصديره له بأنه "سِفرٌ ثمينٌ، يعرض في أمانة علمية دقيقة مظاهر التجليات الروحية في الإسلام، ويتحدث عن التصوف الإسلامي نشأة وتطوراً وازدهاراً وعرضاً لبعض المفاهيم والقضايا الإنسانية، وذلك من خلال نصوص شيوخ التصوف أنفسهم، أخذاً من كتبهم وأقوالهم بدءاً من القرن الأول وانتهاء بالقرن السابع الهجريين، وأنــَّـه منجمٌ مملوء بمأثورات كبار الشيوخ والعارفين بالله تعالى، وقد جمع درراً غوالي من عيون قصائد الحب الإلهي وأسراره، واحتشد فيه من أقوال الصوفية قدر كبير قلَّ أن يجتمع في سفر آخر قبل هذا الكتاب".

Photo: ‎ان تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح
وان تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز
وان تستطع ادراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم
ان كل ما تبحث عنه هو أنت

مولانا جلال الدين الرومي‎
ان تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح
وان تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز
وان تستطع ادراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم
ان كل ما تبحث عنه هو أنت

مولانا جلال الدين الرومي

إنَّ هذا العمل الذي  يثري المكتبة العربية  ينبض بالحياة، وقد  جاء في ستمائة وثمانين صفحة من القطع الكبير، وهو بستانٌ مُشرَّعٌ زاخرٌ بالثمارِ اليانعةِ والأزاهير الشذية بحيث يمكن للباحث أو القارئ أن يقطف منه ما يحلو له من  قطوف المعرفة.. ثمَّ إنك تجدُ فيه الأقوال الحِكمية في حَنـِيَّـةٍ، والحوارات العقلانية الهادفة في حَنـِيـَّـةٍ أخرى، وقامات الشخصيات الصوفية في ثالثة يُطِـلـُّونَ وغزير إنتاجهم من حولهم كالسُرُجِ المنيرةِ يهيبونَ أن يستثمر المرء جذوة حياته لما هو خير وأبقى.. وتهب النسائم محملة بشذى النشائد والأشعار لمبدعين ذهب أهل الزمان بأسمائهم، وأجهز على ذكراهم النسيان، وفي أركان من البستان مواضع تتسامى في فضاءاتها الابتهالات والتضرعات حتى إذا استوقفتك عشت صفاءً روحياً وسَرعان ما يحل الضياء في قلبك فإذا أنت في تجليات مع الحقيقة النـُّـورِيَّة التي هي مصدر الكل ومرجع الكل.

Photo: ‎وذلك الدعاء الذي لم يبح به لساني، والمقسوم للروح المكتوم فيها.

مولانا جلال الدين الرومي‎
وذلك الدعاء الذي لم يبح به لساني، والمقسوم للروح المكتوم فيها.

مولانا جلال الدين الرومي

لقد أحب العلامة  سكاتولين ، شرقنا العربي، فأقام فيه باحثاً ومعلماً ومؤلفاً. ولعمري أن أشدَّ ما يؤلمه جَوْر الإنسان وقهره وتعاليه على أخيه الإنسان. ويرى بعلمه وفطنته وخبرته ،  ضرورة الامتلاء من جوهر الديانات وبعدها الروحي والإنساني، و تبادل الخبرات الدينية لتكون عوامل إيجابية بناءة للأخوّة والتعايش السلمي بين  بني الغبراء والثقافات. ولا ينفك يوصي أن تكون الحوارات حقيقية عقلانية  بعيدةً عن حُمَيـَّـا الجدل أو المفاضلة أو الأحكام المسبقة  إيماناً منه أن: "ثمة مساحة إنسانية ودينية واسعة كافية يمكن لأبناء الديانات أن يتحركوا فيها للسير في مسيرة مشتركة منفتحة نحو الغاية الأخيرة الأسمى". و يدعو حيثما حلَّ وفي مؤلفاته أن "يستعيد كل إنسان بعده الجوهري بصفته كائناً  متسائلا رحالة ً في مسيرة دائمة مفتوحة متوجهة للقاء المطلق" وهو يُريد أن يحيي الرجاء والأمل ليعيش الناس في عالمٍ تخلو فضاءاته من الغيوم الداكنة المتصاعدة بفعل آلات الدمار، وأرضه من دماء مجزرة قايين لهابيل المتجددة بأشكال وألوان! وزبدة القول، يُريد أن "تدخل البشرية إلى طور جديد هو طور المحبة أساس كل دينٍ وكل حضارة شريفة".

Photo: ‎“العشق نبع، فانغمر  كل قطرة تنفصل، عمر مستجد” 

مولانا جلال الدين الرومي‎
“العشق نبع، فانغمر كل قطرة تنفصل، عمر مستجد” 

مولانا جلال الدين الرومي

جاء في موضع من الكتاب: سـُمعت رابعة العدوية البصرية تقول لأبي عبد الله سفيان الثوري المولود في الكوفة "إنما أنت أيامٌ معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب  بعضـُك ، ويوشكُ إذا ذهب البعضُ أن يذهب الكلُّ وأنت تعلم، فاعمل". فهلا تحركت الأمم والشعوب بتقاليدهم الدينية المتعددة، وبهدي جوهرها الروحي الذي يجمع ولا يفرق، لإنقاذ الهوية الإنسانية من التلاشي، ولتحقيق مستقبل مشرق يسوده الخير والوئام. إنها مهمتنا جميعا قبل أن نصبح خبراً ويطوينا النسيان!   ومسك الختام هذا البيت  البديع للشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة أحد شعراء المعلقات  :
Photo: ‎“إن الماضي تفسير, والمستقبل وهم. إن العالم لا يتحرك عبر الزمن وكأنه خط مستقيم, يمضي من الماضي إلى المستقبل. بل إن الزمن يتحرك من خلالنا وفي داخلنا” 

#قواعد_العشق_الأربعون‎
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ           وكـلُّ نـعـيـمٍ لا محـالة زائِــلُ

«وقف المتصوفة المسلمون من العقل والنظر العقلي موقفاً نقدياً، وذهبوا إلى أن المعرفة العقلية محدودة، لأن العقل لا يقدم إلا حقائق تتعلق بالواقع المادي الطبيعي.
وإن تعذر التعبير عن حقائق التصوف بألفاظ اللغة العادية يرجع كما يرى ستيس في كتابه «التصوص والفلسفة» إلى أمرين
أولهما: إن هذه اللغة موضوعة ضمن قوالب العقل،
وثانيهما: إن المتصوف بوصفه بشراً يعيش من جهة أولى في العالم الزمكاني المادي حيث تسود قوانين المنطق».‏
مناجات صوفية كردية
هذا الألمُ، أثقلُ بمراتبَ من لذّةِ الوِصالِ
الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي


(اعلم): يا (أنا!) لك أمورٌ تسعةٌ في دنياك، تعاميتَ عن ماهيتها وعواقبها: أما جسدك فكالثمرة المتزهرة المتزينة صيفاً، المنكمشة المتفسخة شتاءً. وأما حيوانيتكَ، فانظر إلى جنس الحيوان كيف يسرع فيهم الموتُ والزوالُ. وأما إنسانيتك، فمترددة بين الإنطفاء والإصطفاء والزوال والبقاء.. فاستحفظ على مابقي، بما من شأنه أن يبقى بذكر الدائم الباقي. وأما حياتك، فكقامتك قصيرة، معينة الحدود، لاتقدم، ولاتأخر.. فلا تتألم ولاتحزن ولاتخف لها، ولاتحمل عليها مالاطاقة به مما تطاول إليه طول الأمل. وأما وجودك، فليس ملكاً لك، فله مالك الملك له، واشفق به منك.. فمداخلتك بغير ما أمرك به. فكما أنها من الفضول وشغل فضولي، فكثيراً ماتضرّ، ألا ترى الحرص ومرق النوم كيف يفعلان ويجلبان الخيبة والسهر! وأما مصائبك، فلا تمرّ حقيقةً، لأنها تمر سريعاً، بل تحلو لأنها تحول.. فتحول وجهكَ من الفناء في الفاني، إلى البقاء بالباقي.. وأما أنت هنا الآن، فمسافر، ثم مسافرٌ، والمسافر لايعلق قلبُه بما لايتعلق به، ويفارقه بسرعة. فكما ترتحل من هذا المنزل في هذا المسجد البتة، كذلك تفارق هذه البلدة قطعاً، أما إلى بطنها، أو إلى خارجها.. فكما ستفارق بالضرورة، كذلك تذهب، بل تخرج وتطرد (شئتَ، أم أبيتَ) من هذه الدنيا الفانية، فاخرج، وأنت عزيز، قبل أن تُطردَ، وأنت ذليلٌ..

Photo: ‎أنا الذي هجرت الروح، وكالورد مزقت الأكمام، ومن هنا 
فقد صار عقلي غريبا عن روحي 

مولانا جلال الدين الرومي‎
أنا الذي هجرت الروح، وكالورد مزقت الأكمام، ومن هنا 
فقد صار عقلي غريبا عن روحي 

مولانا جلال الدين الرومي

وأما وجودك، فافديه لموجده الذي يشتريه بثمنٍ غالٍ، فسارع إلى البيع، بل الفداء، أما أولاً، فلأنه يزول مجاناً، وثانياً، لأنه مالُه، وإليه يؤول، وثالثاً، لأنه إن إعتمدتَ عليه، سقطتَ في العدم، لأنه (باب إليه)، وإذا فتحته بالترك، وصلتَ إلى الوجود الثابت.. ورابعاً، لأنه إذا تمسّكتَ به، كان في يدكَ نقطة وجود فقط. ويحيط بك مالا يتناهى من الاعدام الهائلة.. وإذا نفضتَ يدَكَ منه، إستبدلتَ لمعةً بشمسٍ، فينقلب محيطُكَ إلى مالا يتناهى من أنوار الوجود. وأما لذائذ الدنيا، فقسمتك تأتيكَ، فلا تطشْ في طلبها. ولزوالها سرعة لايليق بالعاقل تعليق القلب بها. وكيف ما كانت عاقبة دنياكَ، فترك اللذائذ أولى. إذ أما إلى السعادة، وهي تستلزم تركها، وأما إلى الشقاوة، ومن ينتظر الصلب كيف يلتذ ويستعذب مايزيد عذابه من تزيينات آلات الصلب، وان توهمتَ بالكفر العدم، العياذ بالله، فأولى بالترك، إذ بزوال اللذة، يحس ذلك العدمُ الهائلُ ألمَه الأليم آناً فآناً في ضمن زوال اللذائذ. وهذا الألم أثقل بمراتبَ من لذة الوصال، إن كنتَ تشعرُ..
Photo: ‎يتكون الفكر و الحب من مواد مختلفة 
فالفكر يربط البشر ف عقد 
لكن الحب يذيب جميع العقد 
إن الفكر حذر علي الدوام وهو يقول ناصحا "احذر الكثير من النشوة" بينما الحب يقول "لا تكترث أقدم علي هذه المجازفة" وفي حين أن الفكر لا يمكن ان يتلاشي بسهولة
فان الحب يتهدم بسهولة ويصبح ركاما من تلقاء نفسه لكن الكنوز تتواري بين الانقاض 
والقلب الكسير يخبئ كنوزا” 

#قواعد_العشق_الأربعون‎
فصوص النصوص الصوفية (١-٧) الغَوْثيةُ .. ووَصْفُ القُطْبِ

قال الغوثُ الأعظمُ، المستوحشُ من غير الله، المستأنسُ بالله: قال اللهُ تعالى: ياغوثَ الأعظم. قلتُ: لبيك يا رَبَّ الغوث. قال:

كُلُّ طَوْرٍ بين الناسوت والملكوت

فهو شريعةٌ

وكُلُّ طَوْرٍ بين الملكوت والجبروت

فهو طريقةٌ

وكُلُّ طَوْرٍ بين الجبروت واللاهوت

فهو حقيقةٌ

يا غوث الأعظم، ما ظهرتُ فى شىءٍ كظهورى فى الإنسان.

يا غوث الأعظم، مَنْ قصَّر عن سفرى فى الباطن، ابتُلى بسفر الظاهر ولم يزدد منى إلا بُعداً .. ومَنْ أراد العبارة بعد الوصول، فقد أشرك .. ومَنْ رآنى استغنى عن السؤال فى كل حال، ومَنْ لم يرنى لم ينفعه السؤال، لأنه محجوب بالمقال.

يا غوث الأعظم، المحبة حجابٌ بين المحب والمحبوب، فإذا فنى المحبُّ عن المحبة، وُصل بالمحبوب.

يا غوث الأعظم، نَمْ عندى لا كنوم العَوَام، تَرَنى! فقلتُ: يا رب كيف أنام عندك؟ قال: بخمود الجسم عن اللذات وخمود النفس عن الشهوات، وخمود القلب عن الخطرات، وخمود الروح عن اللحظات، وفناء ذاتك فى الذات.

يا غوث الأعظم، قُلْ لأصحابك وأحبابك، مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر! فإذا تَمَّ فقرُهم فلا ثَمَّ إلاَّ أَنَا.
Photo: ‎وأنت ماء لكنك سجين في دوامة، فادخل معنا السيل المنطلق

ديوان شمس التبريزي‎
■ ■ ■

تظهر فى هذه العبارات السابقة، المختارة من (غوثية) الإمام عبدالقادر الجيلانى، طبيعة النصوص الصوفية التى أسميها «فصوص النصوص» لأنها تمثل بالنسبة إلى بقية النصوص ما يمثله الفصُّ بالنسبة للخاتم.. ولهذه (النصوص الفصوص) سمات وخصائص، أهمها وأبرزها الإيجاز الشديد فى المفردات المستعملة وتركيز المعنى الواسع فى أقل عدد من الكلمات، تأكيداً للقدرة على توليد الدلالات فى نفس المتلقى، قارئاً للنص كان أم سامعاً.

Photo: ‎فعاد الى قلبي.. تركت الشكوي، انه يهب آلاف الأرواح، فماذا يحدث ان أصبح خصماً لأحد الأرواح وأنا القاضي أكون غاضباً..والخصمان راضيان

مولانا جلال الدين الرومي 
من ديون شمس التبربزي‎
فعاد الى قلبي.. تركت الشكوي، انه يهب آلاف الأرواح، فماذا يحدث ان أصبح خصماً لأحد الأرواح وأنا القاضي أكون غاضباً..والخصمان راضيان

مولانا جلال الدين الرومي 
من ديون شمس التبربزي

فالإيجازُ اللفظى يقترن دوماً بالطاقة الإيحائية للمفردات والكلمات الاصطلاحية التى تصير فى النص كأنها رموز تشير إلى معانٍ أوسع بكثير مما تعبِّر عنه المفردة أو الكلمة بذاتها، أو فى سياقٍ آخر. وهو ما نراه مثلاً فى العبارة الأخيرة، التى تخرج فيها كلمة (الفقر) من معناها العام المتداول، لتكون معادلاً للطريق الصوفى كله، بناءً على أن العبادة الحقة لله هى (الافتقار إلى الله) وعلى أن الصوفى فى حقيقة حاله، هو (الفقير إلى الله)..
ثم تأخذنا العبارة إلى معنى دقيق، هو أن هذا «الفقر» مراتب، هى على الترتيب: الافتقار إلى الله، الإمعان فى الشعور بهذا الافتقار، افتقاد الشعور بالافتقار ذاته، ونسيان (الفقير) لحاله مع تعلقه بالمحبوب الأعلى الذى لا يتحقق الوصال معه إلا بتجاوز أى شعور بما سواه، وهنا يتم المعنى العميق للفقر، ويصل الصوفى إلى أعتاب مولاه.

وقد رأيت أن أبدأ هذه النصوص (الفصوص) السبعة بمختارات من أعمال الإمام عبدالقادر الجيلانى، لأنه ممن لا يختلف أحدٌ على مكانته.. فهو عند الصوفية واحدٌ من الأقطاب الأربعة الكبار الذين أسسوا أوسع الطرق الصوفية انتشاراً (الجيلانى، الرفاعى، البدوى، الدسوقى)..
وهو فقيه من أعلام المذهب الحنبلى، وله عند الحنابلة مكانة متميزة. بل إن أشهر فقهاء الحنابلة، الإمام ابن تيمية، كان يمتدح الإمام عبدالقادر الجيلانى ويقدِّره تقديراً عظيماً، ويدعوه: شيخ الإسلام. وقد وضع ابن تيمية شرحاً على كتابه «فتوح الغيب» وهو كتاب فى التصوف! مع أن ابن تيمية اشتهر بعدائه للصوفية.. لكن الرجل فى واقع الأمر، كان يعادى المتصوفة ذوى المنازع الفلسفية، ولا يعادى التصوف ذاته، بدليل أن له كتاباً فى التصوف عنوانه: رسالة الصوفية والفقراء.

Photo: ‎أفعل الأشياء من عمق روحك ، حينها ستشعر أن ثمة نهرا يجري فيك.. نهرا من السعادة

 مولانا جلال الدين الرومي‎
أفعل الأشياء من عمق روحك ، حينها ستشعر أن ثمة نهرا يجري فيك.. نهرا من السعادة

مولانا جلال الدين الرومي

ولد الإمام محيى الدين عبدالقادر الجيلانى فى جيلان، ببلاد فارس (إيران) ولذلك انتسب إليها. وقد كانت عادة الناس فى الزمن القديم، أن يقولوا للرجل إذا كان مولده بجيلان (جيلانى) وإذا كان نسبه يعود إلى واحدٍ من أهل جيلان، يقال له (جيلى) تمييزاً للمنسوب إلى البلد عن المنسوب إلى واحدٍ من أهلها.

وقد رحل الإمام الجيلانى فى شبابه المبكر نحو بغداد، وظل بها حتى وفاته سنة ٥٦١ هجرية، بعدما نال فى زمانه (وبعد وفاته) شهرة كبيرة، جعلت كثيرين من المؤرِّخين يخصِّصون كتباً كاملة للتأريخ لحياته الحافلة.. وقد أحصيتُ فى كتابى (التراث المجهول) خمسة وعشرين كتاباً فى سيرة الإمام الجيلانى، منها:
غبطة الناظر من ترجمة الشيخ عبدالقادر، لابن حجر العسقلانى- روضة الناظر فى مناقب الغوث عبدالقادر، للفيروزآبادى صاحب القاموس – بهجة الأسرار فى ترجمة الشيخ عبدالقادر وذريته الأطهار، للشطنوفى.. إلى جانب ما لا حصر له من أخبار ووقائع أوردها عنه كبار مؤرِّخى الإسلام فى مدوَّناتهم التاريخية الكبيرة.

وللإمام الجيلانى كتاب شهير فى الفقه هو «الغنية لطالبى طريق الحق» وله مجالس جُمعت فى ثلاثة كتب: فتوح الغيب (مطبوع) الفتح الربانى والفيض الرحمانى (مطبوع) جلاء الخاطر فى الباطن والظاهر (مخطوط).. وله أشعار كانت متفرقة حتى جمعتها فى ديوان كان النصف الثانى من رسالتى للدكتوراه، وقد أضفتُ إليها مقالاته الرمزية، التى منها «الغوثية» التى رأينا مختارات منها فى بداية هذه المقالة.. ومنها أيضاً، المختارات التالية:
Photo: ‎“من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحب إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم. تذكّر، أن المرء لا يعرف إلا ما هو قادر على أن يحب. فلا حكمة من دون حب. وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً.” 

قواعد العشق الأربعون‎
ياغوث الأعظم، ما بَعُدَ عنى أحدٌ بالمعاصى، ولا قَرُبَ منى أحدٌ بالطاعات.. أهل المعاصى محجوبون بالمعاصى، وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات، ولى وراءهم قومٌ ليس لهم غَمُّ المعاصى ولا هَمُّ الطاعات!

ياغوث الأعظم، أهل الطاعة يذَّكَّرون النعيم، وأهل العصيان يذكرون الرحيم. وأنا قريبٌ إلى العاصى إذا فرغ من العصيان، وبعيدٌ عن المطيع إذا فرغ من الطاعات.
ياغوث الأعظم، إذا عرفت ظاهر العشق فعليك بالفناء عن العشق، لأن العشق حجاب بين العاشق والمعشوق.. وإذا أردت أن تدخل حَرَمى، فلا تلتفت بالملك وبالملكوت وبالجبروت، لأن الملك شيطان العالم، والملكوت شيطان العارف، والجبروت شيطان الواقف. فمن رضى بواحدٍ منها، فهو عندى من المطرودين.

ياغوث الأعظم، كمال المعراج (مازاغ البصر وما طغى) ولا صلاة لمن لا معراج له عندى .

■ ■ ■
Photo: ‎مولانا جلال الدين الرومي يحكي عن شمس التبربزي 
أسال الله لكم أن تجدوه شمساً بحياتكم‎
مولانا جلال الدين الرومي يحكي عن شمس التبربزي 

وقد نُسبت هذه الرسالة المسماة بالغوثية، إلى صوفى آخر شهير، هو محيى الدين بن عربى. لكن نسبتها للإمام الجيلانى أقرب إلى الصحة، خاصة أنها تقترب فى لغتها من نصوص أخرى ثابتة النسبة للإمام الجيلانى، منها نص «وصف القطب»


والغوثية، عند الصوفية، مصطلح خاص يعبِّر عن إحدى صفات القطب (الغوث) الذى يغيث الله به الخلق، ويقبل شفاعته فيهم، ولذلك عَدَّ الصوفية النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الأصل لغوث المسلمين فى الدنيا والآخرة. أما الكاملون من الأولياء، فهم وارثون لهذا المقام عند النبى.. ونصُّ الغوثية الذى مَرَّت علينا فقراتٌ منه، هو نوعٌ من النصوص المسماة فى اصطلاح الصوفية (الخطاب الفهوانى) ومعنى الفهوانية مشتقٌ هنا من قولهم:
Photo: ‎إن السعي وراء الحب يغيرنا فما من أحد يسعي وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته
فما إن تبدأ رحلة البحث عن الحب
حتي تبدأ أن تتغير من الداخل والخارج

من قواعد العشق الاربعين‎
فاه الرجل، إذا تكلم.. لكنها فى حقيقة أمرها كلام إلهى يتجلى على قلب الصوفى فى لحظات الكشف والفيض. ومنها (المواقف والمخاطبات) لمحمد بن عبد الجبار النِّفَّرى، وبعض قصائد الشاعر الصوفى الأشهر: ابن الفارض.

وبطبيعة الحال، فإن الفقرات المختارة من (الغوثية) فيما سبق، تحتاج إلى شرح طويل لا يسمح به المقام هنا. وما المراد بهذه المقالات شرح مقاصد النصوص الصوفية، بقدر ما نريد التعريف بها والإشارة إليها كمخزون أدبى هائل فى تراثنا، نَسِيَه المعاصرون وأهملوه، فحرموا أنفسهم من آيات بيانية ناصعة.. ولسوف نختتم هذه المقالة بمختارات من كلام الإمام الجيلانى فى (وصف القطب) ونلحق به بعضاً من نصوصه الأخرى:

■ ■ ■

أنَّى للواصف أن يبلغ وصف القطب، ولا مسلكٌ فى الحقيقة إلا وله فيه مأخذٌ مكين، ولا درجة فى الولاية إلا وله فيها موطن ثابت، ولا مقام فى النهاية إلا وله فيه قدمٌ راسخ، ولا منازلة فى المشاهدة إلا وله فيها مشربٌ هنى، ولا معراج إلى مراقى الحضرة إلا وله فيه مسرىً علىٌّ، ولا أمرٌ فى كونيْ الملك والملكوت إلا وله فيه كشف خارق، ولا سرٌّ فى عالميْ الغيب والشهادة إلا وله فيه مطالعة، ولا مظهر لوجودٍ إلا وله فيه مشاركةٌ ، ولا فعل لقوىٍّ إلا وله فيه مباطنة، ولا نور إلا وله فيه قبسٌ، ولا معرفة إلا وله فيها نَفَسٌ.. ولا مكرمةٌ إلا وهو إليها مخطوب، ولا مرتبةٌ إلا وهو إليها مجذوبٌ.
Photo: ‎شمس الدين التبربزي‎
شمس الدين التبربزي

لا مرمى فوق مرماه، ولا مغشى فوق مغشاه، ولا وجود أتمُّ من وجوده، ولا شهود أظهرُ من شهوده، ولا اقتفاء للشرع أشدُّ من اقتفائه.. إلا أنه كائنٌ بائنٌ، متصلٌ، أرضىٌّ سماوىٌّ، قُدسىٌّ غيبـىٌّ.. مستترٌ باتصاله.. بارزٌ بانفعاله.

ولولا أن جُملته وتفصيله، وأوله وآخره، منطوٍ فى حواشى تمكين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممزوج رحيقه بتنسيم نسمات رعايته.. لخرق سهمُ القدرة سياجَ الحكمة! ولو خلق الله لهذا الأمر الذى أُشير إليه لساناً، لسمعتم ورأيتم عجباً:

ما فى الصبابة منهلٌ مستعذب ... إلا ولى فيه الألذُّ الأطيب

■ ■ ■

ولهذا النص السابق قصةٌ مذكورة فى المخطوطات التى حفظته من الضياع، ملخصها الآتى: قال المؤدب الحاسب، كنتُ كثيراً ما أود أن أسأل الشيخ عبد القادر الجيلانى عن شىءٍ من صفات القطب، فدخلتُ إلى مجلسه وهو يتكلم، فلما جلست قطع كلامه وقال: أنَّى للواصف.. إلخ.

Photo: ‎يوماً  ستهتدي روحا إليه 

مولانا جلال الدين الرومي‎
يوماً ستهتدي روحا إليه 

مولانا جلال الدين الرومي

وحين انتهت مقالة الإمام الجيلانى فى وصف القطب، أنشد مباشرةً من خاطره، ومن دون تمهيد، القصيدة التى ذكرنا مطلعها (مافى الصبابة..) وهى قصيدة طويلة مذكورة بالكامل فى ديوانه.

وبعد.. فإن للإمام عبد القادر الجيلانى كثيراً من النصوص الفصوص، الأخرى، التى يضيق المجال هنا عن الإشارة إليها وتقديم فقرات منها، لكننى أود أن أختتم هذه السطور بواحدة من مقالاته الخمس القصيرة عن (الحلاج) فقد اشتهر عن الإمام الجيلانى أنه قال: «عَثَرَ الحلاج، ولم يكن فى زمانه مَنْ يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذتُ بيده..» وفى هذه المقالة القصيرة التى اخترتها للقراء، يقول الإمام الجيلانى عن الحلاج:
Photo
طار واحدٌ من العارفين، إلى أفق الدعوى، بأجنحة «أنا الحق» فلما رأى روض الأبدية خالياً من الحسيس والأنيس، صَفَّر بغير لغته تعريضاً لحتفه، فظهر عليه عُقاب الملك من مكمن (إن الله غنىٌّ عن العالمين) وأنشب فى إهابه مخلب (كل نفسٍ ذائقة الموت) وقال له شرع سليمان الزمان: لِمَ تكلمت بغير لغتك؟ لِمَ ترنَّمت بلحنٍ غير معهود من مثلك؟ اُدخلْ الآن فى قفص وجودك، وارجعْ من طريق عِزَّة القِدَمِ إلى مضيق ذِلَّةِ الحدوث، وقُلْ بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد .

■ ■ ■

إشارة أخيرة : عبارة «حسب الواحد إفراد الواحد» قالها الحسين بن منصور الحلاج، يوم مقتله مصلوباً فى بغداد سنة ٣٠٩ هجرية.. 

فصوص النصوص الصوفية (٢-٧) .. بَدْو شأنِ الحكيم الترمذى
Photo: ‎“كم هم سعداء أولئك الذين يتخلصون من الأغلال التى ترسخ بها حياتهم.”‎
فى تراثنا العربى عديد من الأعلام الذين حملوا لقب (الترمذى) نسبة إلى بلدة (تِرمِذ) التى كانت تقع بوسط آسيا (أوزبكستان حالياً) وأشهر المعروفين بهذا اللقب اثنان: المحدِّث الشهير أبوعيسى محمد بن عيسى الترمذى، صاحب كتاب (السنن) فى الحديث النبوى.. والصوفى البديع، أبوعبدالله محمد بن علىّ، المعروف بالحكيم الترمذى، الذى انفرد بين الصوفية بلقب (الحكيم) فلم يحمله صوفىٌّ آخر غيره.

عاش الحكيم الترمذى فى القرن الثالث الهجرى، وتوفى بحسب أشهر الأقوال، سنة ٣٢٠ هجرية، بعدما ترك مجموعة من المؤلفات التى تفصح عناوينها عن موضوعاتها: ختم الأولياء، علم الأولياء، إثبات علل الشريعة، الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللُّبّ.. كما ترك الحكيم الترمذى (أسئلة) ليجيب عنها الصوفيةُ من بعده! فظلت قرابة أربعة قرون من الزمان، حتى أجاب عنها شيخ الصوفية الأكبر: ابن عربى.
Photo: ‎“يا أخي أنت مجرد فكر 
وما بقي منك عظام وجلد” 

مولانا  جلال الدين الرومي‎
وللحكيم الترمذى نصٌّ أدبىٌّ نادر، كاد يضيع تماماً مثلما ضاع كثيرٌ من متون تراثنا القديم، لولا مخطوطةٌ واحدة منه، بقيتْ محفوظة لما يقرب من تسعمائة عام (مؤرَّخة بسنة ٥٤٣ هجرية) وهى اليوم موجودة فى مكتبة «إسماعيل صائب» بأنقرة .. وعنوانها: رسالة بدو شأن أبى عبدالله محمد الحكيم الترمذى.

■ ■ ■

ورسالة: بدو شأن (أى: ظهور أمر) الحكيم الترمذى، نشرها قبل سنوات بعيدة د. عثمان يحيى، كملحق لتحقيقه الممتاز لكتاب (ختم الأولياء) وهو أشهر مؤلفات الحكيم الترمذى. غير أن المحقِّق لم ينتبه إلى الأهمية الأدبية لرسالة (بدو الشأن) ولم يلفت نظره تفرُّد هذا النص البديع. بل نراه يشتكى فى تقديمه للنص من أنه : وجيزٌ جداً، مقتضبٌ جداً، يعجُّ بالرؤى والأحلام، ولا ينقع غُلة الصادى تماماً.. (يقصد: لا يروى الظمأ!).
Photo: ‎وذلك الدعاء الذي لم يبح به لساني، والمقسوم للروح المكتوم فيها.

من ديوان شمس التبربزي لجلال الدين الرومي‎
وهكذا لم يعرف المحقق الكبير، رحمه الله، ولم يعرف معاصرونا أيضاً، خطورة «بدو الشأن» كنصٍّ فريد فى بابه، لا نكاد نجد له مثيلاً فى الأدب العربى، بل العالمى .. فالأدب الإنسانى عرف عدداً محدوداً من نصوص (السيرة الذاتية) التى تتماس مع ما يسمِّيه البعض (أدب الاعترافات) وهو ما نراه فى مؤلفات مثل: المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال، للإمام أبى حامد الغزالى - الاعترافات، للقديس أوغسطين- اعترافات جان جاك روسو.. وهى المؤلفات المفعمة بالنـزعة الإنسانية، وبالجرأة على حكاية وقائع الحياة بصدق.
Photo: ‎كما ترى، فإن حب الله محيط لا نهاية له، ويحاول البشر أن ينهلوا منه أكبر قدر من الماء، لكن في نهاية المطاف، يعتمد مقدار الماء الذي يحصل عليه كل منّا على حجم الكون الذي يستخدمه، وفي حين يوجد لدى البعض براميل، ولدى البعض دلاء، فإن لدى البعض الآخر طاسات فقط".

شمس التبربزي محدثاً مولانا جلال الدين الرومي‎
ولكن «بدو الشأن» تمتاز من هذه الأعمال التى حكت حيوات أصحابها، بأنها أكثر جرأة ومغامرة فى الكتابة، لأن الحكيم الترمذى يحكى فيها سيرته، مازجاً بين وقائع حياته والرؤى التى كان يراها، أو تراه فيها زوجته. وهو ما أعطى فى النهاية نصاً أدبياً بديعاً، لم نعرف له مثيلاً أو مشابهاً.. فلنقترب من «بدو الشأن» لنتعرف إلى هذا النصّ النادر، من خلال الفقرات التاليات التى أضفتُ إليها بعض الكلمات الشارحة بين قوسين، وضبطتُ مفرداتها حسبما يناسب القارئ فى أيامنا هذه:
Photo: ‎فالحب لا يمكن تفسيره ولا يمكن إلا معايشته واختباره
ومع أن الحب لا يمكن تفسير فهو يفسر كل شئ

شمس التبريزي‎
كان بدو شأنى، أن الله تبارك اسمه، قيض لى شيخى رحمة الله عليه، لـمَّا بلغت من السن ثمانيا، يحملنى على تعلم العلم ويعلِّمنى ويحثنى عليه، حتى صار ذلك لى عادةً وعوضاً عن اللعب فى وقت صباى. فجمع لى فى حداثتى علم الآثار (الحديث النبوى) وعلم الرأى. حتى إذا قارب سنى سبعاً وعشرين أو نحوه، وقع علىَّ حرصُ الخروج إلى بيت الله الحرام، فتهيأ لى الخروج.
Photo: ‎بعض الناس يتغذون عبى تعاسات الآخرين، ولا يحبّون رؤية أن ينخفض عدد البؤساء على وجه الأرض".‎
فوقفت بالعراق طالباً للحديث، وخرجت إلى البصرة، فخرجت منها إلى مكة فى رجب، فقدمت مكة فى بقية شعبان. فرزق الله المقام بها، إلى وقت الحج. وفتح لى باب الدعاء، عند الملتزم، فى كل ليلة سحراً. ووقع على قلبى تصحيح التوبة، والخروج مما دَقَّ وجَلَّ. وحججتُ، فرجعت وقد أصبتُ قلبى.
Photo: ‎“لا تجزع من جرحك، وإلا فكيف للنور أن يتسلل إلى باطنك؟” 
مولانا جلال الدين الرومي‎
ووقع علىَّ حُبُّ الخلوة فى المنـزل، والخروج إلى الصحراء. فكنتُ أطوف فى الخرابات والنواويس (المقابر) وطلبت أصحاب صدقٍ يعينوننى على ذلك، فعزّ علىَّ، فاعتصمتُ بهذه الخرابات والخلوات. فبينما أنا على هذه الحال، إذ رأيت فيما يرى النائم، كأنى أرى رسول الله عليه الصلاة والسلام دخل المسجد الجامع فى كورتنا (بلدتنا) فأدخل على أثره فألزم اقتفاء أثره.
Photo: ‎ألا يقول الله{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }
فالله لا يقبع بعيداً فى السموات العالية ، بل يقبع فى داخل كل منا لذلك فهو لا يتخلى عنا ، فكيف له أن يتخلى عن نفسه؟ 
شمس التبربزي‎
فما زال يمشى حتى دخل المقصورة، وأنا على أثره، ومن القرب منه حتى كأنى أكاد ألتزق بظهره، واضعاً خُطاى على ذلك الموضع الذى يخطو عليه، حتى دخلت المقصورة. فرقى المنبر فرقيتُ على أثره، كلما رقى درجةً رقيتُ على أثره. حتى إذا استوى على أعلاها درجة، قعد عليها، فقعدت عند الدرجة الثانية من مجلسه عند قدميه، ويمينى إلى وجهه ووجهى إلى الأبواب التى تلى السوق، وشمالى إلى الناس. فانتبهت من منامى وأنا على تلك الحال.
Photo: ‎ولقد شهدت جماله في ذاتي             لما صفت وتصقلت مرآتي
وتزينت بجماله وجلاله                    وكماله ووصاله خلواتي
أنواره قد أوقدت مصباحي               فتلألأت من ضوئه مشكاتي

من قصيدة شمس التبربزي لمولانا جلال الدين الرومي‎
ثم من بعد ذلك بمدةٍ يسيرة، بينا أنا ذات ليلة أصلِّى، ثقلتُ فوضعتُ رأسى فى مُصلاَّى جنب فراشى، إذ رأيت صحراء عظيمة، لا أدرى فى أى مكان هى، فأرى مجلساً عظيماً، وصدراً مهيئاً لذلك المجلس، فكأنه يقال لى: إنه يذهب بك إلى ربك! فادخلْ تلك الحجب، فلا أرى شخصاً ولا صورة. إلا أنه وقع فى قلبى أنى لما دخلت، وقع علىَّ الفزع فى ذلك الحجاب. فأيقنتُ فى منامى بالوقوف بين يديه (تعالى) فما لبثتُ أن رأيتُ نفسى خارجاً من الحجب، وبالقرب من باب الحجاب واقفاً، وأنا أقول: «عفا عنى!» وأجد نَفَسى قد سَكَنَ من الفزع.
Photo: ‎منتشيا بالرقص تذهب
انت ياروحي من الارواح
فلا تذهب بدوني .
ضاحكا مع احبائك
تدخل البستان
فلا تذهب بدوني .


جلال الدين الرومي‎
فدام لى شأن رياضة النفس، من تجنب الشهوات، وقعود فى البيت على عزلة من الخلق، وطول نجوى من الدعاء. فانفتح له شىء بعد شىء، ووجدت فى قلبى قوة وانتباهاً. وطلبت من يعيننى، فكان يكون لنا اجتماع بالليالى، نتناظر ونتذاكر وندعو ونتضرع بالأسحار.
Photo: ‎امض ، و لتفتح عين الروح ، و انظر الي من سلبت قلوبهم ، قوم كأنهم القلوب عاليها سافلها ، و قوم كأنهم الأرواح لا قدم لهم و لا رؤوس

من ديوان شمس التبربزي 
لمولانا جلال الدين الرومي‎
فأصابتنى غموم من طريق البهتان والسعايات (الدسائس) وحُمل ذلك على غير محمله. وكثرت القالة (الدعاوى) وهان ذلك كله علىّ. وسُلِّط علىَّ أشباهٌ ممن ينتحلون العلم، يؤذوننى ويرموننى بالهوى والبدعة ويبهتون. وأنا فى طريقى، ليلاً ونهاراً، دؤوباً دؤوباً.
Photo: ‎منتشيا بالرقص تذهب
انت ياروحي من الارواح
فلا تذهب بدوني .
ضاحكا مع احبائك
تدخل البستان
فلا تذهب بدوني .


جلال الدين الرومي‎
حتى اشتد البلاء، وصار الأمر إلى أن سعى بى (أبلغ عنى) وإلى بلخ (بلدة بأفغانستان) وورد البلاء من عنده. إذ رُفع إليه أن هنا مَنْ يتكلم فى الحب، ويفسد الناس، ويبتدع، ويدَّعى النبوة! وتقوَّلوا علىَّ ما لم يخطر قطُّ ببالى، حتى سرتُ إلى «بلخ» وكُتب علىَّ قباله (فى مجلس الأمير) ألاَّ أتكلم فى الحب!

وكان ذلك من الله، تبارك اسمه، سبباً فى تطهيرى. فإن الغموم تطهر القلب. وذكرتُ قول داود، عليه السلام أنه قال: يا رب أمرتنى أن أُطَهِّر بدنى بالصوم والصلاة، فبمَ أُطَهِّر قلبى؟ قال: بالغموم والهموم يا داود!
Photo: ‎ان أخذت.. وان عفوت.. فماذا ينقص من ملكك، فالعشاق هنا كالكلأ.. الصحارئ بهم تمتلئ

ديوان شمس التبريزي - لجلال الدين الرومي‎
فتواترت علىَّ الغموم، حتى وجدتُ سبيلاً إلى تذليل نفسى. وهاجت بالبلاد فتنةٌ وانتقاضُ أمرٍ، حتى هرب جميع من كانوا يؤذوننى، ويشنِّعون علىَّ فى البلاد. وابتلوا بالفتنة، ووقعوا فى الغربة، وخلت البلاد منهم. فبينما أنا كذلك، إذ قالت لى أهلى (زوجتى) إنى رأيت فى المنام كأن قائماً فى الهواء، خارجاً من الدار، فى السكة، فى صورة رجل شاب، جعد، عليه ثيابٌ بياض، له نعلان. وينادينى فى الهواء: أين زوجك؟ قلت: خرج. قال: قولى له إن الأمير يأمرك أن تعدل.
Photo: ‎فهنا قد يحترق العشاق كالعود اليابس، وذلك المعشوق الذي ندر مثله هو الذي يشعل النار

ديوان شمس التربيزي - جلال الدين الرومي‎
فلم يأت (يمرُّ) على هذا مدة، حتى اجتمع الناس ببابى، من مشايخ البلد، من غير أن أشعر بهم، وقرعوا الباب فخرجت إليهم. فكلمونى فى القعود لهم (التدريس) فما زالوا يكلموننى فى ذلك حتى أجبتهم إلى القعود. فذكرتُ لهم من الكلام شيئاً، كأنه يُغترف من البحر. فأُخذت منى القلوب مأخذاً. واجتمع الناس، فلم تحتمل دارى ذلك، وامتلأت السكة والمسجد.

وذهبت الأكاذيب والأقاويل الباطلة، ووقع الناس فى التوبة، وظهرت التلامذة. وأقبلت الرياسة والفتن، بلوى من الله لعبده.

ورجع أولئك الأشكال (الحاسدون) إلى البلاد، بعد ما قويتُ وكثرتْ التلامذةُ عندى وأخذتْ القلوبَ مواعظى. وتبين لهم أن هذا كان منهم بغياً وحسداً، فلم ينفذ لهم بعد ذلك قولٌ، وقبل ذلك، كانوا صيروا السلطان والبلاد علىَّ، بحالٍ (بحيث) لا أجترئ أن أطلع رأسى، فأبى الله إلا أن يبطل كيدهم.
Photo: ‎استمع إلى هذا الناى يأخذ فى الشكاية ، ومن الفرقات يمضى فى الحكاية .
منذ أن كان من الغاب اقتلاعى ، ضج الرجال والنساء فى صوت إلتياعى‎
وتتابعت علىَّ الرؤى من أهلى (زوجتى) كل ذلك بقرب الصبح. ترى الرؤيا بعد الرؤيا، كأنها رسالة. ولم يكن يُحتاج إلى عبارتها (تفسيرها) لبيانها ووضوح تأويلها. وكان فيما رأت، أن قالت:

رأيتُ حوضاً كبيراً فى موضعٍ لا أعرفه. وما الحوض صافياً كما العين. فيظهر على ذلك الحوض فى الماء عناقيد عنب، بيض كلها. وأنا وأختى قعودٌ على رأس ذلك الحوض، نأخذ من ذلك العنب فنأكله، وأقدامنا متدلية فى الحوض، موضوعة على ظهر الماء، لا ترسبُ ولا تغيب.

فأقولُ لأختى الصغرى: نحن نأكل من هذا العنب كما ترين، فمن يرسل هذا إلينا؟ فإذا برجل مقبل، جَعْد، قد تَعَمَّم بعمامة بيضاء، وقد أرخى شعره من خلف العمامة، وعليه ثياب بياض. فيقول لى (لزوجة الحكيم) بمعزل منهما: قولى لمحمد بن علىّ، أن لا يقرأ «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة» حتى يُتم الآية.
Photo: ‎اختر الحب ،الحب ! فمن دون حياة الحب العذبة , تمسي الحياة عبئاً ثقيلاً 

مولانا جلال الدين الرومي‎
لا يوزن بهذا الميزان دقيقٌ ولا خبز، وإنما يوزن بهذا كلام هذا، ويشير إلى لسانه. ويوزن بهذا هذا وهذا، ويشير إلى يديه وقدميه. أنت لا تعلمين أن لفضول الكلام سُكراً، كسكر الخمر إذا شرب! فأقول له: أحب أن تقول لى من أنتم؟

فيقول: أنا من الملائكة، ونحن نسيح فى الأرض، وننـزل بيت المقدس. ورأيت بيده اليمنى آساً أخضر رطباً، وبيده الأخرى رياحين. فهو يكلمنى وذاك بيده. فيقول: نحن نسيح فى الأرض، فنذهب إلى العُبَّاد. فنضع هذه الرياحين على قلوب العُبَّاد حتى يقوموا بهذا إلى عبادة الله، وبهذا الآس على قلوب الصدّيقين والموقنين، حتى يعلموا الصدق بهذا. فقولى لمحمد بن علىّ: ألا ترضى أن يكون لك هذان؟
Photo: ‎فهب البصر نوراً آخر غير نور الشمس والقمر، يامن صار نورك أعظم من نور الشمس والقمر‎
يشير إلى الآس وإلى الرياحين. ثم قال: إن الله قادر على أن يرفع للمتقين تقواهم، إلى موضع لا يحتاجون فيه إلى أن يتقوا. ولكن جعل هذا عليهم، حتى يعلموا التقوى. قولى له: طَهِّر بيتك. فأقول: إن لى أولاداً صغاراً، ولا أضبط تطهير بيتى. فيقول لى: ليس من البول أعنى، إنما أعنى من هذا. ويشير إلى لسانه.

فأقول له: فَلِمَ لا تقول له أنت بنفسك؟ قال: أنا لا أقول له هذا، لأنه ليس بكبير من الأمور، وليس بقليل، هذا من الناس قليلٌ ومنه كبير.

ثم رأت مرة أخرى، كأنها فى البيت الكبير الذى فى دارنا. وفيه سُرر مُنجَّدةٌ بالإبريسم (الحرير) وأحد السرر (الأسرَّة) إلى جانب المسجد الذى فى البيت. فإذا شجرة تطلع بجنب السرير، فى قبلة المسجد. فطلعت قامة رجل، فإذا هى كخشبة يابسة، وعليها أغصانٌ كأغصان النخل، كالأوتاد امتدت هذه الشجرة طولاً فى السماء، قدر ثلاث قامات.
Photo: ‎فالأحبة طالبون الحبيب، والروح باحثة عن الأحبة ان الروح ذرة وهو كعطارد، والروح ثمرةو هو بستان، والروح قطرة وهو محيط، والروح حبة وهو منجم.‎
وتبعتها الأغصان حتى بدت وسطها، فبدت من هذه الأغصان عناقيد رطب. فأقول فى منامى: هذه الشجرة لى، وليس لأحدٍ مثل هذه الشجرة. فأدنو منها، فيجيئنى كلام من أصلها، ولا أرى أحداً. فأنظر إلى أصل الشجرة، فإذا هو قد نبت فى الصخرة.

وهى صخرةٌ كبيرة، قد أخذت قدر نصف البيت. وإذا الشجرةُ قد نبتتْ من وسط الصخرة، وإلى جانبها صخرةٌ كبيرةٌ منفردةٌ كحوضٍ، وإذا عين تنبع من أصل هذه الشجرة وتُستنقع فى الصخرة المنقورة، وذلك الماء صافٍ يشبه ماء القِضبان فى صفائه. فأسمع قائلاً من قرب الشجرة، يقول لى: أتضمنين أن تحفظى هذه الشجرة فتصير خضراء كلها؟ فأقول: أحفظها.
Photo: ‎يقول مولانا جلال الدين الرومي في أولي قصائده تلك الأبيات:
 ولقد تجمعت ظلال الألطاف مع شمس الفضل ومن كمال عشقه صار اجتماع الأضواء جائزا وعندما اختطف ريح الصبا النقاب من وجهه انمحي خيال الجميع وصار هباء منثورا لكنهم في المحو.. صار وجود كل منهم مائة وجود، فقد بدا لي المحو وجودا والوجود محوا ويقول في مقطوعة أخري بعنوان »حسناء جنت«: ولا تغتر بعقلك فكم من أستاذ فذ.. كان عمادا للعالم أصبح أكثر حنينا من الجذع الحنان وأنا الذي هجرت الروح، وكالورد مزقت الأكمام، ومن هنا فقد صار عقلي غريبا عن روحي وهذه القطرات من الألباب غلبت لبحر اللب، وذرات هذا الفتات من الروح استهلك في الأحبة فلأصمت ولآمر، ولأخف هذا الشمع، هذا الشمع الذي في نوره يتحول الشمس والقمر إلي فراشتين.‎
ثم رأتْ مرةً أخرى، كأنها نائمةٌ معى على السطح. قالت: فأسمع حديثاً من البستان، وأقول: هؤلاء أضيافنا تركناهم (لابد أن) أذهب، فأطعمهم. قالت: فأصير إلى جانب السطح لأنزل، فينحط جانب السطح فيلزق بالأرض، فاستوى على الأرض. فإذا رجلان قاعدان فى هيبة، فأدنو فأعتذر إليهما، فيبتسمان.

فيقول أحدهما: قولى لصاحبك (الحكيم الترمذى) ما اشتغالك بهذا (الحشائش) عليكَ بتقوية الضعفاء وأن تكون ظهراً لهم! وقولى له: أنت وتدٌ من أوتاد الأرض، تمسك طائفةً من الأرض. فأقول: من أنت؟ فيقول: محمد.. وقولى له إنك (إذ) تقول، يا ملك يا قدوس ارحمنا، فتقدَّس أنت، فإن كل أرضٍ تقدِّس عليها، تشتد وتقوى. وكل أرض لا تقدِّس عليها، تضعف وتهون. وقولى له: أعطيناك معمورة (والبيت المعمور) فأحسن إليهما. وانتبهتْ.

***

.. ويمتد بنا هذا النصُّ الأدبى النادر الذى لا يزال طويلاً متصلاً، فيفصح عن المزيد من سيرة حياة الحكيم الترمذى، الظاهرة والباطنة (البرَّانيَّة، والجوَّانيَّة) وفى بقية أصله المنشور، المنسى، رؤىً كثيرةٌ وبدائع .. فمن أراد المزيد، فليقرأه كاملاً.

فصوص النصوص الصوفية (3/7): حفيف أجنحة جبرائيل

السيرة الذاتية البديعة، التى كتبها عن نفسه "الحكيم الترمذى" مازجاً بين سرد وقائع حياته، وحكاية الأحلام (الرؤى) التى رآها أو رأته زوجته فيها .. واليوم، نتوقف عند نصٍّ أدبى فريد، هو (رؤيا) قدَّمها لنا السهروردى فى قصته الشائقة المشوِّقة التى جعلها بعنوان "حفيف أجنحة جبرائيل" لأنها تفسِّر الاعتقاد الصوفى، الإشراقى، القائل بأن جميع ما فى الوجود، هو صوت جناحىْ الملاك جبرائيل .. مَنْ هو السهروردى؟

هناك مجموعة من المشاهير فى تراثنا، يحملون هذا اللقب الذى هو "نسبة" إلى بلدة سُهْرَوَرْد الواقعة ببلاد فارس (إيران الحالية) .. وأشهر هؤلاء اثنان، كلاهما يحمل الكنية ذاتها، واللقب، ويفرِّق بينهما المؤرِّخون بذكر أهم مؤلفات كُلٍّ منهما، فيقولون، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب عوارف المعارف، شهاب الدين السهروردى صاحب كتاب حكمة الإشراق .. ومقصودنا منهما فى هذه المقالة، الثانى، وهو الملقب أيضاً بشيخ الإشراق، مع أنه قُتل فى شبابه (فى سن السادسة والثلاثين) لكنه يُعرف بشيخ الإشراق، لأنه مؤسس الاتجاه الصوفى الشهير، المعروف باسم (الإشراقية) لأنه يقوم على فكرة رئيسة، هى أن الوجود عبارة عن مراتب نورانية متتالية، أعلاها ومنشؤها هو نور الله .

وللسهروردى الإشراقى (المقتول بقلعة حلب، سنة 587 هجرية) مؤلفات كثيرة بالعربية والفارسية، منها كتبٌ مثل: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، اللمحات فى الحقائق. ومنها قصص قصيرة، بديعة اللغة والأفكار، مثل قصة (الغربة الغربية) التى نشرتها فى كتابى: حىّ بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها .. وقصة: صفير العنقاء (صفير سيمرغ) التى كتبها بالفارسية. والقصة التى سنتعرف إليها بعد قليل (حفيف أجنحة جبرائيل) وهى نصٌّ أدبى نادر كتبه السهروردى بالفارسية أولاً، ولا نعرف إن كان قد ترجمه للعربية بنفسه، أو أن غيره قام بذلك. ونصُّ القصة الذى سنراه بعد قليل، بعد عمل الضبط المناسب له، نشره د. عبد الرحمن بدوى فى كتابه: شخصيات قَلِقَة فى الإسلام، اعتماداً على النسخة التى وجدها المستشرق الفرنسى، المتصوف (لوى ماسينيون) بين كتب وأوراق المستشرق الألمانى الشهير (باول كراوس) الذى انتحر بالقاهرة عام 1944، لأسبابٍ غامضة، مازالت مجهولة !

وقد جعل كراوس عنوان القصة، بالعربية: أصوات أجنحة جبرائيل! وقد رأيتُ هنا، أن كلمة (حفيف) أدقُّ وأقربُ إلى مقصود السهروردى بالعنوان الفارسى (آواز بر جبرائيل) ناهيك عن أنها أصح لغوياً. لأن هذه القصة الرمزية، تخبرنا بأن ظهور (الموجودات) نابع من حفيف أجنحة جبرائيل، التى تشبه أشجاراً ضخاماً تتولد الموجودات من حركتها.

.. وأرجو من القارئ أن يصبر على النص التالى، الذى سنقدم منه فقرات مطولات، باعتباره أنموذجاً لفصوص النصوص الإبداعية التى كتبها المتصوفة. ولسوف نلحق النصوص ببعض التعليقات الشارحة، التى من شأنها إضاءة النص إذا قُرئ ثانية، بعد قراءة الشروحات الموجزة .. قال شيخ الإشراق :

* * *

لـمَّا انطلقتُ من حُجرة النساء، وتخلصتُ من بعض قيود ولفائف الأطفال. كان ذلك فى ليلةٍ، انجاب فيها الغَسَقُ الشُّهَبىُّ الشكل، مستطيراً عن قبة الفلك اللازوردى، وتبددتْ الظُلمةُ التى هى أخت العدم، على أطراف العالم السفلى.

وبعد أن أمسيتُ فى غاية القنوط من هجمات النوم، أخذتُ شمعاً فى يدى، متضجراً، وقصدت إلى رجال قصر أمى. وطوَّفتُ فى ذلك الليل ، حتى مطلع الفجر. وعندئذ، سنح لى هَوَسُ دخولِ دهليز أبى. وكان لذلك الدهليز، بابان: أحدهما إلى المدينة، والآخر إلى الصحراء والبساتين. قُمْتُ، فأغلقتُ الباب الذى يؤدى إلى المدينة، إغلاقاً محكما، وبعد رتجه، قصدتُ إلى الفتق الذى يؤدى إلى الصحراء. وعندما رفعتُ الترس، نظرتُ، وإذ عشرةُ شيوخٍ، حسان السيماء، قد اصطفوا هناك صفاً صفاً.

وقد أعجبتنى هيئتهم وجلالتهم وهيبتهم وعظمتهم وسناهم، وظهرتْ فىَّ حيرةٌ عظيمة من جمالهم وروعتهم، حتى انقطعتْ عنى مُكْنةُ نطقى. وفى وَجَلٍ عظيمٍ، وفى غايةٍ من الارتجاف، قَدَّمْتُ رجلا وأخَّرتُ أخرى. وعندئذ قلت لنفسى: لنتشجعْ، ولنكنْ مستعدين لخدمتهم، وليكن ما يكون.
سرتُ رويداً إلى الأمام، للسلام على الشيخ الذى وقف فى طرف الصف، غير أنه بسبب غاية حسن خُلُقه، سبقنى بالسلام، وتبسَّم فى وجهى تبسُّماً لطيفاً، حتى تجلَّى شكلُ نواجذه أمام حدقتى. ورغم مكارم أخلاقه وشِيَمه بقيتْ مهابته تغلب على نفسى. فسألته: من أين أقبل هؤلاء السادة، إن جاز لى السؤال؟ فأجابنى الشيخُ الذى على طرف الصف، قائلاً: إننا جماعة متجردون، وقد وصلنا إليك من كجا آباد.

لم أفهم مقاله، فسألته: فى أى إقليم توجد تلك المدينة ؟ فقال: فى إقليم لا تجد السبَّابة إليه متجهاً. وإذ ذاك علمت أنه شيخٌ مطَّلع. قلت: أخبرنى بفضلكم، ما الذى يشغلكم أكثر أوقاتكم؟ قال: إن حرفتنا الخياطة، وكل واحدٍ منا يحفظ كلام الرب عن سلطانه، وإننا لسائحون. سألته ولماذا يلازم الصمت هؤلاء الشيوخ، الذين يقفون على رأسك؟ فأجاب: لأن أمثالكم ليسوا أهلا لمحاورتهم، أنا لسانهم، وأما هم فلا يكلمون أشباهك.
.. قلتُ: أتسبحون الله عزَّ وجلَّ؟ قال: الاستغراق فى المشاهدة يشغلنا عن التسبيح، وإن كان هناك تسبيح، فإنه ليس بواسطة الألسن والجوارح، ولا بحركةٍ واهتزازٍ وما إليه . قلت: هل تعلمنى علم الخياطة؟ فتبسَّم وقال: للأسف، ليس لأشباهك ولنظرائك قِبَلٌ بهذا، فإن ذلك العلم غير ميسَّر لنوعك، وذلك أن خياطتنا لا تتعلق بعمليةٍ وقَصْدٍ وآلةٍ، لكنى سأعرفك من علم الخياطة ، قَدْر ما يمكِّنك من تصليح خرقتك الخشنة المرقعة.

وقد علمنى ذلك القدر من العلم .. ثم قلت: علِّمنى الآن كلام الله. قال: إن المسافة عظيمة، وما دُمتَ فى هذه القرية، فلا يمكنك أن تتعلم كثيراً من كلام الله تعالى، ولكنى أعلِّمك قَدْر ما أنت ميسَّر له! وأحضر لوحاً وعلَّمنى حروف هجاء عجيبة، حتى إننى استطعت أن أفهم بواسطة الهجاء، معنى كل سورة من السور.

ثم قال: الذى لا يفهم هذا الهجاء، لا يصل إلى معرفة سُوَر كلام الله، على ما ينبغى؛ وأما الذى اطَّلع على أحوال ذلك الهجاء، فقد يظهر فيه رسوخٌ ومتانة.

وعندئذ تعلَّمتُ علم الأبجد. وبعد إتمام دراستى إياه، نقشتُ حروفه على اللوح، على قدر ما كان فى مرتقى قدرتى، ومَسْرَى طاقتى. وعندئذ ظهرت لى من عجائب معانى كلام الرب، عزَّ سلطانه، ما لا يدخل تحت حصر البيان، وحَدِّه. وكلما طرأت لى مشكلة، عرضتها على شيخى وهو يزيح إشكالها.

ثم دار حديثنا حول نفث الروح، وقد أشار الشيخُ إلى أن الروح يشتق من روح القدس. وعندما سُئل عن نسبة ما بينهما، أجاب قائلاً: إن كل ما يتحرك فى أربعة أرباع العالم السفلى، يشتق من أجنحة جبرائيل.

ولما باحثت الشيخ فى كيفية هذا النظام، قال: اعلمْ أن للحق سبحانه وتعالى، عدة كلمات كبرى، تنبعث من كلماته النورانية، أى من شعاع سيماء وجهه الكريم. وبعضها فوق بعض.. وآخر تلك الكلمات: جبرائيل عليه السلام. وأرواح الآدميين تنبعث من تلك الكلمة الأخيرة.. الآدميون نوعٌ واحد، ومن له روحٌ فله كلمةٌ. ومن آخر الكلمات الكبرى، تظهر كلماتٌ صغرى من غير حَدٍّ، على ما أشير إليه فى الكتاب الربانى بقوله ما نفدت كلمات الله وقال لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربى .

أما الكلمات الكبرى، فهى التى قيل عنها فى الكتاب الإلهى فالسابقات سبقا وأما قوله فالمدبرات أمرا فهم الملائكة، محركو الأفلاك، وهى الكلمات الوسطى. وكذلك، فإن قوله تعالى وإنا لنحنُ الصَّافون إشارة إلى الكلمات الكبرى، وقوله إنا لنحن المسَبِّحون إشارة إلى الكلمات الوسطى. ولأجل هذا تقدَّمت عبارة الصافون فى كل مكان من القرآن المجيد، إذ قال: والصَّافَّاتِ صَفَّا، فالزاجرات زجراً وفى هذا غورٌ بعيد، لا يليق استيعابه بهذا المحل! وقد تُستعمل "الكلمة" فى القرآن أيضاً، بمعنى السر.

قلت للحكيم : أخبرنى الآن عن جناح جبرائيل. قال: اعلمْ أن لجبرائيل جناحين، أحدهما عن يمينٍ وهو نورٌ محض، وهذا الجناح ينضاف مجرد وجوده إلى الحق. وأما الجناح الأيسر، فتمتد عليه بقعةٌ سوداء، كأنها الكَلَفُ الذى يظهر فى وجه القمر، أو كأنها تذكرنا بالألوان التى على قدم الطاووس. وفى هذا إمكان وجوده، الذى ينصرف جانبٌ منه إلى العدم. فإذا نظرت ما لجبرائيل من الوجود بجود الحق، فإنه يوصف بوجوب الوجود. وإذا نظرت إليه بقدر استحقاق ذاته، فإنه يوصف بالعدم.. فهذان المعنيان، ممثلان فى جناحى جبرائل: الأيمن إضافته إلى الحلق، والأيسر استحقاقه فى ذات نفسه. كما قال الحق سبحانه وتعالى وجاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع .. وإذا وقع من أوج القدس شعاع، ينشأ منه نَفْسٌ يسمونها كلمةٌ صغرى. ألا ترى أن هذا، ما قاله الحق تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا فللكافرين أيضا كلمة . غير أن تلك الكلمة ، صدىً ممزوجٌ بحسب ما عليه أنفسهم.

ومن الجناح الأيسر، الذى يمتد عليه قَدْرٌ من الظلمة، يهبط ظِلٌّ هو عالم الزور والغرور. ويشير إلى شعاع الجناح الأيسر، ما ورد فى القرآن الكريم وجعل الظلمات والنور فإن تلك الظلمة، التى نُسبت إلى فعل جعل أصبحت عالم الغرور . وأما ذلك النور الذى ورد ذكره بعد الظلمة، فهو شعاع الجناح الأيمن .. وبهذا المعنى قال تعالى إليه يصعد الكلم الطيب إذ أن الكلمة أيضاً من شعاعه. وكذلك قوله مَثَلاً، كلِمَةً طَيِّبَةً فهى كلمة شريفة نورانية، من بين الكلمات الصغرى.

وإن لم تكن تلك الكلمة الصغرى فى غاية الشرف، فكيف استطاعت أن تصعد إلى حضرة الحق تعالى. وأما أن الكلمة، والروح، تدلان على معنى واحد؛ فإن علامة ذلك إليه يصعد الكلم الطيب وكذلك تعرج الملائكة والروح إليه فإن عبارة إليه ترجع فى الحالتين إلى الحق جلَّتْ قدرته. وعلى هذا المعنى، تدل أيضا النفس المطمئنة إذ قال ارجعى إلى ربك وعالم الغرور، ليس إلا صدىً وظلاً لجناح جبرائيل، أعنى لجناحه الأيسر. بينما تصدر الأنفس المضيئة، من الجناح الأيمن .

قلت للشيخ: فما هى، فى آخر أمرها، صورة جناح جبرائيل؟ فأجاب: يا عاقل، كل هذه الأشياء ليست إلا رموزا، إن عَلِمْتَها على ظاهر معناها، كانت تخيلات لا حاصل لها.

قلت: وأين القرية التى قال الحق تعالى عنها: أخرجنا من هذه القرية الظالِمِ أهلُها قال: ذلك عالم الغرور، الذى هو أليق محلٍّ للكلمة الصغرى. ثم إن الكلمة الصغرى أيضا قرية، لأن الله تعالى قال تلك القرى نقصُّ عليك من أنبائها وفيها قائم وحصيد فهى كلمات الحق تعالى، كبيرة كانت أو صغيرة .

.. وعندما ارتفع على قصر أبى، فجر النهار. أُغلق الباب الخارجى وفُتح باب المدينة، وذهب التجار إلى أشغالهم، وتغيَّبتْ عنى جماعةُ هؤلاء الشيوخ، وبقيتُ فى حسرةٍ متشوقاً إلى صحبتهم، عاضا أناملى، وصارخا: ياويلى، إظهاراً لعظمة حيرتى.. ولكن لا فائدة بعد.

* * *
قال الناسخ: هنا تنتهى قصة حفيف جناح جبرائيل عليه السلام .. ومن أفشى لطائف أسرار ذلك الشيخ العظيم الشأن، إلى العوام وإلى غير أهلها، ستنفصل نفسه عن بدنه، وسيصبح فضيحة الرجال. وربنا مشكور ومحمود، والصلاة على محمد، وآله، وسلم تسليماً.

* * *
قبل تقديم الإشارة الشارحة لهذا النص العجيب، لابد من لفت الأنظار إلى أن لهذه القصة ديباجة (مقدمة) احتوت على قصة أخرى، ملخصها أن أحد المنكرين على الصوفية، اعترض على أقوالهم واعتبرها هذياناً.. يقول السهروردى فى ديباجة القصة: حدث فى يوم من الأيام، فى محفل ناس قد أصاب بصرهم الرمدُ، أن رجلا سخر بمناصب سادات الطريقة وأئمتها. ولقصر نظره، تكلَّم من غير روية فى مشايخ السلف. ولأجل تقوية رأيه المنكر، استهزأ بمصطلحات المتأخرين، حتى بلغت جسارته أن أورد حكاية عن الأستاذ أبى علىّ الفارمذى، رحمه الله، قائلاً: إنه سُئِلَ لِمَ سَمَّى ذوو الخرقة الزرقاء بعض الأصوات أصوات أجنحة جبرائيل؟ فأجاب: اعلم أن أكثر الأشياء التى تشاهدها حواسك، تنبعث من أجنحة جبرائيل! وقال للسائل: إنك أنت أحد أصوات أجنحة جبرائيل.. وقد أبى ذلك الخصم المتعسف، أن يعترف بمثل هذا الكلام قائلاً: ماذا يمكن أن يكون معنى هذه الكلمة إلا هذيانا مزخرفاً؟ ولما بلغ تجاسره إلى هذا الحد، شمرتُ عن ساعد الجد، لأزجره ..

وهكذا كان ذلك، هو السبب فى تأليف السهروردى لهذه القصة الرمزية التى ابتدأها بانطلاق الروح من أسر الطبيعة (حجرة النساء) وارتقائها عن أحكام المحسوس (قيود ولفائف الأطفال) بملازمة الرياضات الصوفية والمجاهدات (الشموع) التى تكشف ظلام الوجود الحسى.

والجسم الإنسانى هو المقصود بقوله "قصر أمى" لأنه صنعة الطبيعة، أما العالم العلوى (الروحانى) فهو مقصوده بقوله "قصر أبى" .. والشيوخ المتجرِّدون، هم العقول السماوية التى لا اتصال بينها وبين العقل الإنسانى، إلا من خلال حلقة واحدة، هى (العقل الفعَّال) الذى يمثل سقف العقل الإنسانى، وقاعدة العقول السماوية العلوية. وجبريل فى النص، هو المعادل الموضوعى لروح القدس! ونتاج حفيف جناحيه، هى الموجودات الكلية والأنواع، والموجودات الجزئية والشخوص.. ولن أزيد هنا فى بيان (دلالات) هذا النص الرمزى، لأن المراد من إيراد ما قدَّمناه، ليس التعرُّف إلى (أفكار) السهروردى الإشراقية، وإنما الاقتراب من نصٍّ تراثىٍّ فريدٍ، مهجورٍ، والتعرف إليه أسلوبياً.. وفنياً.. وأدبياً.

فصوص النصوص الصوفية (٤-٧) براكين الرفاعى.. ووصاياه

لم تكن (الطرق الصوفية) بالمعنى الذى نعرفه اليوم، معروفةً فى مصر حتى القرن السابع الهجرى.. ومع ذلك، فما كادت شرارة هذه «الجماعات الروحية» تنقدح فى وادى النيل ودلتاه، حتى انتشرت تقاليد (الطرق) فى ديارنا، وتعمَّقتْ فى الوجدان المصرى العام.

ومن العجيب، والمدهش، أن معظم الطرق الصوفية التى استقرت بمصر طيلة القرون الثمانية الماضية، ترجع أصولها إلى المغرب والأندلس! سواءٌ كانت قد وفدت من هناك مباشرةً، أو على نحوٍ غير مباشر. فمن الطريق المباشر (المغاربى- المصرى) جاءت الطريقة الشاذلية، مع شيخها أبى الحسن الشاذلى، الذى استكمل مساره الروحىّ زوجُ ابنته: أبوالعباس المرسى «شيخ الإسكندرية» ثم توالت أجيالُ الشاذلية حتى يومنا هذا.

ومن الطريق غير المباشر (المغرب، العراق، مصر) وفدت الرفاعية والدسوقية والأحمدية.. فمن المغرب إلى العراق هاجر والد الشيخ أحمد الرفاعى، فنشأ ابنه هناك بمنطقة تسمى «البطائح» ونبغ فى مساره الروحىّ حتى صار عَلَماً من أعلام التصوف.

ومن العراق إلى مصر، أوفد الرفاعى تلميذه الشهير (الواسطىّ) الذى سكن الإسكندرية، ونشر بها طريقة الرفاعية. وبعد وفاته، أرسل مشايخ الرفاعية من العراق، صوفياً نابهاً منهم، هو (السيد البدوى) ليخلف الواسطى. وكانت ابنة الواسطىّ قد تزوجت بمصر، وأنجبت طفلاً سوف يصير بعد حينٍ شيخاً مشهوراً بمصر، هو: إبراهيم الدسوقى.

ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن الواسطىّ (نزيل الإسكندرية) كان هو الذى نصح (الشاذلى) بلقاء الشيخ عبد السلام بن مشيش المغربى، الذى تتلمذ له أبوالحسن الشاذلى، وأخذ عنه الطريق الصوفى. وابن مشيش هو تلميذ (أبى مدين التلمسانى) الذى كان له تلميذٌ آخر مشهور هو: محيى الدين ابن عربى، الشيخ الأكبر!

إذن، باستثناء الطريقة القادرية (أتباع سيدى عبدالقادر الجيلانى) والطريقة المولوية (أتباع مولانا جلال الدين الرومى) فإن أصول الطرق الصوفية المصرية، جميعها، مغاربية! أى أندلسية ومغربية.. وهو ما يفسِّر لنا اعتقاد أهل القرى المصرية، خاصةً فى الصعيد، بأن (الولىّ) لابد أن يكون مغربياً، ليكون باهر الكرامات.

■ ■ ■

ومع أن أهل بلادنا يربطون، من الوهلة الأولى، بين الرفاعية وصيادى الثعابين! فإن طريقة (الرفاعى) لم تكن تعرف هذا الأمر، إلا من حيث سُكناها بمنطقة البطائح الواقعة بجنوب العراق، بين واسط والبصرة.

وهى منطقة تكثر فيها الثعابين، فكان الناس هناك من قبل «الرفاعى» ومن بعده، يعرفون كيف يتعاملون معها. فلما جاء أتباع الطريقة الرفاعية، توارثوا ما كان متوارَثاً فى النواحى التى جاءوا منها. فظنَّ المصريون من يومها، أن هناك ارتباطاً بين الرفاعية وصيد الثعابين.. لكننا هنا، على كل حال، لسنا بصدد التأريخ للطرق الصوفية، أو بيان أصولها التاريخية، أو رَدّ الاعتقادات الشعبية المتعلقة بها.

وإنما مرادنا، لفتُ الأنظار إلى فصوص النصوص التى كتبها الصوفية، أو تحدثوا بها، ومن هذه النصوص (الفصوص) مجالس الشيخ أحمد الرفاعى، المتوفى سنة ٥٧٨ هجرية، عن ست وستين سنة، إذ كان مولده سنة ٥١٢ هجرية، بقرية (أم عبيدة) بجنوب العراق. وهى القرية التى عاش فيها، ومات، ودُفن فى قبة مشهورة صارت من بعده مركزاً للطريقة الرفاعية.

وقد جُمعت مجالس الرفاعى ووصاياه فى عدة مجاميع مخطوطة، ونُشر بعضها من دون تحقيق. وفى مكتبة الإسكندرية اليوم، مخطوطة أصلية شهيرة تضم مجالس الرفاعى (كانت أصلاً ضمن مجموعة بلدية الإسكندرية) عنوانها: كتاب البراكين! وهو عنوان لافت للنظر، وينطبق معناه على محتواه. لأن معظم كلام الإمام الرفاعى، فى مجالسه وفى وصاياه: متدفقٌ، حارٌّ، حارقٌّ. كأنه الحمم الملتهبة، التى تقذفها البراكين.

ومع ذلك، فإن معظم المخطوطات الأخرى التى ضمَّت مجالس الرفاعى ووصاياه، تحمل عنوان (كتاب البراهين) لا البراكين. وهو ما يتوافق من ناحية أخرى، مع عنوان كتابه الوحيد المحقَّق، المتداوَل: البرهان المؤيد.

وكان الرفاعى يبدأ عباراته دوماً، بقوله (أَيْ) التى تعنى (أيها) فى حالة المنادى القريب. فيقول: أَيْ سادة، أيْ أحبَّة، أيْ غلام، أَيْ أخى.. إلخ. وهو فى كلامه بليغٌ، صادقٌ، يصدق عليه ما قاله الصوفية من أن: كل كلام يخرج، وعليه رائحة القلب الذى منه خرج.

فلنقترب فيما يلى، من بعض كلام الرفاعى:

■ ■ ■

أَيْ سادة، الزهدُ أول قدم القاصدين إلى الله عزَّ وجلَّ. وأساسه التقوى، وهى خوفُ الله ورأسُ الحكمة. وجماعُ كل ذلك، حُسن متابعة إمام الأرواح والأشباح، السيد المكرَّم رسول الله. وأولُ طريق المتابعة، حُسنُ القدوة، عملا بحديث «إنما الأعمال بالنيَّات» ألا ترون أن رسول الله، قال لرجلٍ يريد الجهاد فى سبيل الله، وهو يبتغى عرض الدنيا؛ إنه: لا أجرَ له!

أَيْ أخى، أنت أحسن منى. رحمتك ذِلَّةُ التلقِّى، وأنا أخذتنى سكرةُ التعليم.. أى أخى، إن أنا غلبتُ نفسيَ المسكينة، وقلتُ لها: علَّمكِ الله وأوجب عليكِ تعليم الإخوان، لأن كاتم العلم يُلجم بلجام من نار.. قِفى عند حدِّكِ، فربما كان فيهم من هو عند الله أجلُّ منك، ولكن أخفاه عنك (الله) ليختبرك! وبعد ذلك، سكنتْ ثائرتها الكاذبة، وعرفتْ قدرها، فلها الحظ الأوفر. وكذلك أنتَ.. أى أخى إن غلبتَ نفسك وألزمتها التعلُّم، وذبحت الهوى بسكين الاقتداء، وأخذتَ الحكمة غاضَّاً طرفك عن شرفك وعلمك وحسبك وأبيك ومالك وحالك، فقد فزتَ فوزا عظيما.

أى سادة، أنا لستُ بشيخ. لستُ بمقدَّمٍ على هذا الجمع. لست بواعظٍ. لست بمعلِّم. حُشِرْتُ مع فرعون وهامان، إن خَطَرَ لى، أنى شيخٌ على أحدٍ من خلق الله. إلا أن يتغمدنى الله برحمته، فأكون كآحاد المسلمين.. كل الفقراء (الصوفية) ورجال هذه الطائفة، خيرٌ منى. أنا أحيمد (تصغير اسمه: أحمد) اللا شىء. أنا لا شىء اللا شىء.. الحقُّ يُقال، الصوفى مَنْ صفَّى سِرَّه من كدورات الأكوان، وما رأى لنفسه على غيره مزية. هكذا كَتَبَ الله وحَكَمَ، وهذا واللهِ خُلُق عبيده، الذين طهَّرهم من رؤية غيره.

أى أخى، أنت غيرٌ، ونفسك غيرٌ، وغيرك غيرٌ. كُلُّ ما أدركه بصرك، واختلج بشكله وكيفيته سرُّك، فهو غيرٌ. ربُّنا لا تكيِّفه الأفكار، ولا تدركه الأبصار.. إيش تريد يا صوفى، يا فقيه، يا من جمع بين الشأنين؟ تريد أن تَسُبَّ العباد وتبغى عليهم، وأن تعلو وتغلو! ما هذه واللهِ طريقة نبيِّك، ولا سُنة وليِّك.

كان (النبى) إذا نهى عن خُلُق لم يُسَمِّ فاعلَه، ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو: ما بال الرجل يقول كذا.. وما أغلظ رسول الله فى مواعظه بشتمٍ وَسبٍّ، ولا صرَّح باسم أحد، ولا طار، ولا تسلَّط بقوة المعجزة على الطباع (ولو كنت فظاً غليظ القلب، لانفضُّوا من حولك).. فإذا وعظتم الناس، إياكم والتصريح. وخذوا بالتلويح. فإن هناك رائحةَ السُّنة، وشَمَّة النفحة النبوية، وبها واللهِ يُصلح الله القلوب. أفلا نقول للذى يعجبه علوُّه على الناس، ويحبُّ انقياد الرقاب إليه: خَلِّ عنك يا مسكين! انقادتْ لك الرقاب وما انقادتْ لك القلوب، متى سقطتَ من حالك تقلبتْ عنك القلوبُ، وداستْك الأقدام، وبَقِيْتَ أَسْوَدَ الوجه.

أى سادة، تفرَّقتْ الطوائف شيعاً، وأحيمد (أحمد الرفاعى) بقى مع أهل الذُّلِّ والانكسار والمسكنة والاضطرار.. ينقلون عن الحلاج أنه قال «أنا الحق».. أخطأ بوهمه! لو كان على الحق، ما قال «أنا الحق». يذكرون له شعراً يوهم الوحدة (أى: الله والعالم شىء واحدٌ) كُلُّ ذلك ومثله، باطلٌ. ما أراه رجلاً واصلاً أبداً. ما أراه شَرِبَ. ما أراه حَضَر. ما أراه سمع إلا رنةً أو طنيناً، فأخذه الوهمُ من حالٍ إلى حال. من ازداد قرباً ولم يزدد خوفاً، فهو ممكورٌ به. إياكم والقول بهذه الأقاويل، إن هى إلا أباطيل. درج السلفُ على الحدود، بلا تجاوز. بالله عليكم، هل يتجاوز الحدَّ إلا الجاهل؟ هل يدوس عنوةً فى الجبِّ، إلا الأعمى؟ ما هذا التطاول. وذلك المتطاول، ساقطٌ (متأثِّرٌ) بالجوع، ساقط بالعطش، ساقطٌ بالنوم، ساقطٌ (متأثِّرٌ) بالوجع، ساقطٌ بالفاقة، ساقط بالهِرم، ساقطٌ بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت (لمن الملك اليوم)؟ العبد متى تجاوز حدَّه مع إخوانه، يُعَدُّ فى الحضرة ناقصاً.

التجاوزُ عَلَمُ نقصٍ، ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالدعوى، يشهد عليه بالغفلة، يشهد عليه بالزهو، يشهد عليه بالحجاب.. الولايةُ ليست بفرعونيةٍ ولا بنمرودية! قال فرعون (أنا ربكم الأعلى) وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء: «لست بملك ولا جبار، أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد».

أى سادة، ما قلتُ لكم إلا ما فعلتُه وتخلَّقتُ به. فلا حجةً لكم علىَّ. إذا رأيتم واعظاً أو قاصَّاً أو مدرِّساً، فخذوا منه كلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام أئمة الدين الذين يحكمون عدلا ويقولون حقاً، واطَّرحوا ما زاد. وإن أتى (الواعظ) بما لم يأتِ به رسول الله، فاضربوا به وجهه. الحذرَ، الحذرَ، من مخالفة أمر النبى العظيم. قال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره، أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليم). كان العراق أخَّاذةَ المشايخ، وغيبةَ العارفين. مات القوم. (فخلف من بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات).

أى إخوانى، لا تخجلونى غداً بين يدى العزيز سبحانه، وقد سبقكم أصحابُ الأعمال المرضيات.. عليكم بالأدب، فإن الأدب باب الأَرَب. اللهم اجعلنا ممن ركَّبْتَ على جوارحهم من المراقبة، غلاظَ القيود. وأقمتَ على سرائرهم من المشاهدة، دقائقَ الشهود. فهجم عليهم أنسُ الرقيب، مع القيام والقعود (الصلاة) فنكَّسوا رؤوسَهم وجباهَهم للسجود، وفرشوا لفرط ذلهِّم على بابك، نواعمَ الخدود. فأعطيتهم برحمتك، غايةَ المقصود.

صحِّح اللهم فيك مرامنا، ولا تجعل فى غيرك اهتمامنا، وأَذْهِبْ من الشر ما خلفنا وأمامنا.. اللهم إنى أسألك، بالألف المعطوف، وبالنقطة التى هى مبتدأ الحروف. بباء البهاء. بتاء التأليف. بثاء الثناء. بجيم الجلالة. بحاء الحياة. بخاء الخوف. بدال الدلالة. بذال الذكر. براء الربوبية. بزاى الزلفى. بسين السناء. بشين الشكر. بصاد الصفاء. بضاد الضمير. بطاء الطاعة. بظاء الظُّلمة. بعين العناية. بغين الغناء. بفاء الوفاء. بقاف القدرة. بكاف الكفاية. بلام اللطف. بميم الأمر. بنون النهى. بهاء الألوهية. بواو الولاء. بياء اليقين. بألف لام «لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك».

■ ■ ■

وقال رضى الله عنه سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، قبل وفاته بأيام قلائل، ويقال إنه آخر مجالسه المباركة:

الحمد لله حَمْدَ المعتصمين بحبله.. أَىْ رجال الحضرة، طالما خفقتْ فى مجالسنا أعلامُ الإرشاد، تحت ظلال قوله تعالى (الذين إن مكنَّاهم فى الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).. وإنى لأقول كما قال خليل الله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام (إنى ذاهب إلى ربى سيهدين، رَبِّ هَبْ لى من الصالحين) أستودعكم الله، وأسأل الله أن يفتق رتق قلوبكم، بمفتاح الفضل والحكمة.

فتظهر بكم صولةُ النيابة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الأمة، ويجدِّد الله بكم أمر دين أمته. فتحسن بكم سياسةُ القلوب، وتضىء بالاقتباس من أنوار فتوحاتكم الصدورُ والأفئدة، ويُصلح الله بكم الشؤون (إنا لله وإنا إليه راجعون) خذوا، أَيْ خاصة، أسرارَ الحكم الخاصة. هذا إنسان الحال: بسم الله. بسم الله معراج القلوب ينصب، فتصعد عليه أجسامُ الهمم، فتنحدر صاعدة إلى بحبوحة التعيين الأول، فترقى إلى مقام الصديقية، وتتسلق ذروة (مقعد صدق عند مليك مقتدر) فتحدق بصر البصيرة، فتفكُّ مغالق النشأة الأولى..

فيندلع لسانُ صبح النشر من كَفِّ طىِّ الأمر، فتتكلم ذراتُ أحكام أنواع الحقائق بما فيها، فيُرسم فى ألواح الهمم. فإذا شَبَّتْ نارُ موسى الحيرة، ناداه البارى المقيم (اخلع نعليك إنك بالوادى المقدس) فتنطمسُ الحيرةُ وتنجلى الحريةُ، وتسقط القيود، وتبدو المكنونات. ويقول رهطُ سحرةِ الأهواء (آمنَّا برب العالمين) ويقول داعى الكرم المرسل من حضرة الأمن (لا تخفْ إنى لا يخاف لدىَّ المرسلون) ويبتهج وُرَّاثُ أولئك الأملاك، فيترنَّم قائلهم، منصرفاً عن الأكوان، تالياً فى حضرة السؤدد الأبدى (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملا).

وعلى نمط سرير الإضافة من معنى الأسرار، فى راقية نغمة (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) تظهرُ المظاهرُ، كُلٌّ بنسبة ما استجمعه من نقود الوراثة (ثوابُ الله خير لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يُلقَّاها إلا الصابرون) أصحاب القلوب الطائرة بأجنحة الصفا، إلى حضرة المراقبة، المؤمنون بآياته سبحانه (الذين إذا ذُكِّروا بها خَرُّوا سُجَّداً وسبَّحوا بحمد ربهم) (وأولئك هم المفلحون) رضى عنهم ورضوا عنه.

مهلا، أَيْ سارح بفيفاء الاستبشار. لو كنتَ من أهل مرتبة الكمال الذين وصفناهم، لكان لقلبك معراجٌ يوصلك إلى الاطلاع على الحقائق المغيبة عن غيرك، فتشهد أساليب مضامين ماخُطَّ فى صحف الأزل، فتمتلئ عينك، وترجع القهقرى منـزوياً عن صفوف الحادثات، اكتفاءً بما فَاضَ إليك فى كشفك الأول، فتنقطع عن ملاصقات كونيتك، وكونيات الذرات، تحت لواء (واعبدْ ربك حتى يأتيك اليقين).

قام من أصحاب نيابة الجامعة (يقصد وارثى النبوة، بحكم الحديث الشريف: العلماء ورثةُ الأنبياء) رجالٌ صدقوا. منهم أناسٌ من الفاطميين (آل البيت) ومنهم أناسٌ من غير الفواطم. وذلك فَضْلُ (يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).. فمن أقطابِ الخلعة، من غير الفاطميين، سيدى شيخ الخرقة «معروف الكرخى» كان نائب النظر. ومنهم سيدى «السَّرِىُّ السَّقَطىُّ» كان نائب العزم. ومنهم سيدى «الجنيد البغدادى» كان نائب اللسان القائم. ومنهم «سيدى الشبلى» كان نائب الهمة. ومنهم سيدى «سهل التُّسْترى» كان نائب القلب.

ومن أقطاب الخلعة الكاملة، من الذين لهم النسبة الفاطمية من الأمهات: سيدى «طلحة السنبكى» كان نائب القدرة. ومنهم سيدى وتاجى «منصور البطائحى» كان نائب البرهان وهامة التوبة الجامعة.

هذه زلازلُ الجلال، تفعل فى أرض المحجوبين فوق ما يفعله اضطرابُ العروق الأرضية، يوم يسوقها بمصادمة طبائعها سائقُ القدر، ليخيف أقواماً، ويعتبر بقدرته تعالى آخرون.. رجال النوبة الجامعة على وتيرة السكون يهتزون، فترى قلوب أهل الحجاب راجفة، لما يدخلها من صدمة جلالهم (فاعتبروا يا أولى الأبصار).

ويسكب الله فى بعض الأزمنة، قدرة المناسبات البشرية، من هيكل الحسن المعنوى فى الخَلْق، فيشكو المظلومُ ظالمه.. وفى بعض الأزمنة، يهب الله قدرة المناسبات البشرية، فتنعطف قلوب النوع للنوع، بالرأفة والتناصر والتوادّ. ونتيجةُ هذا الوهب، صلاحُ حال الزمان وأهله (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهَبْ لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب).

أَىْ خاصَّة، أَىْ عامَّة. فاض بحر الكرم.. (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد).. أنا مأوى المنقطعين. أنا مأوى كل شاة عرجاء، انقطعت فى الطريق. أنا شيخُ العواجز. أنا شيخُ مَنْ لا شيخ له، فلا يتشيَّخ الشيطانُ على رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. عَهْداً منى بالنيابة عن النبى.. عهداً عاماً إلى يوم القيامة.. هاتِ يا منشد الفتح. وقُل كيف شئت. مجلس مأتم، ومجلس فرح (يولج الليل فى النهار) (ألا إلى الله تصير الأمور) (وكفى بالله ولياً)فعليكم بتقوى الله. ولا تخرجوا من ساحة التوحيد. ربنا الله لا شريك له، نعم الولى، 

فصوص النصوص الصوفية (٥-٧) لمعاتُ العشقِ عند روزبهان ونجم الدين كُبرى

لم يمرّ أمامى اسم الصوفى البديع، العارم (روزبهان) خلال السنوات الطوال، التى عكفتُ فيها على دراسة تاريخ التصوف، وتحقيق نصوصه المخطوطة.. حتى أخذتنى خُطاى نحو تلميذه (نجم الدين كُبرى) شيخ الطريقة الكبروية، الذى نال الشهادة سنة ٦١٨ هجرية، يوم خرج إلى صحراء خوارزم، ليحارب «وحدَه» جيشَ التتار المرعب! لكى يعلِّمنا كيف نموت ميتةً مجيدة، مادمنا ميتين على كل حال .

وكان لاشتغالى وانشغالى بالشيخ نجم الدين، ومن ثَمَّ بشيخه (روزبهان المصرى) قصةٌ قديمة مشوقةٌ، رويتها فى مقدمة كتاب «فوائح الجمال وفواتح الجلال» الصادرة طبعته الأولى بمطلع التسعينيات، وطبعته الأخيرة بمطلع العام الماضى.. والقصة ملخصها ما يلى:

بدأتْ معرفتى بنجم الدين كُبْرى على مقاعد الدرس، ففى السنة الثانية من دراستى الفلسفة بآداب الإسكندرية، كنا ندرس فخر الدين الرازى (الفقيه المتكلم المفسِّر، المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية) وبينما نحن فى خضم المباحث الكلامية والفقهية العويصة، التى يثيرها الفخر الرازى بطريقته الجافة المعقدة.

أطَلَّتْ علينا فى الكتاب المقرَّر، قصةُ لقائه بالشيخ نجم الدين، والحوار الذى دار بينهما فكان كأنه النسمة الباردة فى صحراء درس الرازى.. ثم انطوت صفحاتُ الأيام، ولم أستزد من معرفتى بهذا الشيخ الذى فاض حواره مع الرازى دفئاً وصِدْقاً.

ومرت السنون، حتى جلستُ يوماً مع الصديق الروائى (جمال الغيطانى) وسألنى عن نجم الدين الكُبْرى، فأجبته بأنه واحدٌ من كبار صوفية الفرس! ولم أزد على ذلك.. قال لى إنه يودُّ معرفة المزيد عنه. ولما سألته عن الباعث، أخبرنى بأنه كان يزور الاتحاد السوفيتى (الذى كان وقتها قائماً) فنظَّموا له رحلةً جنوبية فى تلك «الجمهوريات» التى صارت تُعرف اليوم بالإسلامية، وسلكوا به فى صحراء مترامية، حتى مضت الساعات على الطريق الذى يشقُّ الرمال، وعلى مرمى البصر، رأى مسجداً.. نزل عنده، فوجده وحيداً متفرداً، ولما اقترب ، قرأ بالعربية على بابه: «هذا مقام الشيخ نجم الدين الكُبْرى، قدَّس الله روحه» وعلى جدار المقام، مكتوبٌ:

كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلىَ الصَّفَا أَنِيسٌ، وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ

■ ■ ■

وحين حكى لى جمال الغيطانى ما رآه، شعرتُ بالشخص الذى كتب هذا البيت الشعرى فوق مرقد الشيخ، وكأنه قد أراد أن يقول متحسِّراً، ما معناه أن ما جرى سابقاً قد انطمس، فلم يعد أحدٌ يذكره!.. ولما ذاكرتُ، أردتُ أن أتذكر الشيخ نجم الدين، وشيوخه، وأذكِّر الناس بآثاره المطوية ونصوصه المخطوطة.. خاصةً، أننا لا نعرف الكثير عن معظم الشعراء والصوفية (الفُرس) ولا يوجد فى المكتبة العربية كتابٌ واحد عن نجم الدين كبرى.. ففتشتُ عن كتابه (فوائح الجمال) وأصدرته محقَّقاً، وصدَّرتُه بعبارة الشيخ نجم الدين «الطرق إلى الله، على عدد أنفاس البشر».. وبدأتُ دراستى عنه، بقولى:

للصوفية الفرس مكانتهم المتميزة فى تاريخ التصوف عند المسلمين، فقد شاركوا الصوفية العرب فى كتابة التاريخ الصوفى، بحيث يستحيل الفصل بين الفريقين. خاصةً أن كليْهما شرب من نبعٍ واحدٍ، هو الوحى المحمدى، وانتسب لثقافة بعينها هى الثقافة العربية الإسلامية. إلا أن الصوفية من ذوى الأصول الفارسية، لهم ذوقٌ روحىٌّ خاص! وقد اختصوا دوماً، بروحٍ مميَّزة عن روح الصوفية العرب. ففى شعر الصوفية الفرس، نرى تلك الروح المتأجِّجة، فى مقابل الروح الرصينة لدى شعراء الصوفية العرب.

وحين نقارن بين شعر جلال الدين الرومى «أعظم شعراء الصوفية الفرس» وشعر عمر بن الفارض، أشهر شعراء الصوفية العرب. نرى أشعار ابن الفارض الموشاة بفنون البلاغة، المزينة بجرس الجناس التام والناقص، الرافلة فى ألوان التشبيه والاستعارة. بينما يتدفَّق شعر الرومى عارماً، دافئاً، متألماً، ناحتاً لفظه وجماليات تعبيره، من حرارة القلب والتهاب الروح.. وحين ننظر فى شعر فريد الدين العطَّار، مقارَناً بأشعار ابن عربى (الشيخ الأكبر) نرى خيال العطَّار المحلِّق، فى مقابل رسوخ ابن عربى وصرامة منطقه.

وفى النثر الصوفى، حين نقارن بين كتابات شهاب الدين السهروردى، وهو فارسى الأصل، وكتابات الصوفى العربى، أندلسى الأصل: محمد عبد الحق بن سبعين. نرى السهروردى يكتب بيدٍ ساحرة، فيأتى فى قَصَصِه الصوفى بصور خيالية هائلة، ويرمز للمعنى البعيد باللفظ العجيب. بينما يوجز ابن سبعين ويحدُّ العبارة، ويقدُّ كلامه من الصخر المتين.

وفى طبيعة الحياة الروحية، كان الصوفية الفُرس أكثر اشتعالاً من نظرائهم العرب، وأشد احتراقاً. حتى إننى فكَّرت فى عمل كتاب عن قَتْلَى الصوفية وشهدائهم، أعنى أولئك الذين تدفَّقت رحلتهم الروحية، حتى انتهت بواقعة موتٍ عارم، أخَّاذ. فوجدتهم كلهم، من ذوى الأصول الفارسية: الحسين بن منصور الحلاج، أبو الحسين النورى، عماد الدين النسيمى، عين القضاة الهمذانى، شهاب الدين السهروردى، مجد الدين البغدادى الخوارزمى، نجم الدين كُبْرى.

■ ■ ■

كان مولد الشيخ نجم الدين كبرى، سنة ٥٤٠ هجرية ببلدة خيوق (خيوة) الواقعة فى منطقة خوارزم، الواقعة اليوم بدولة أوزبكستان (أرض الأوزبك) بوسط آسيا. ونشأ الشيخ بخوارزم وحصَّل العلوم الأولى هناك. وكان فى صغره شديداً على الخصوم فى الجدل والمناظرات، حتى لقَّبوه (الطامة الكبرى) ثم حُذفت الكلمة الأولى تأدُّباً معه، بعدما أصبح شيخاً صوفياً، وبقيت الثانية. فصار اسمه المشهور به، هو : نجم الدين كُبرى.

وجاء نجم الدين من خوارزم إلى مصر، ليلتقى بشيخه الذى تعلَّم منه التصوف والعشق، وهو الشيخ روزبهان (أبو محمد روزبهان بن أبى نصر الشيرازى، المصرى، المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية) الذى كان بدوره قد جاء من شيراز إلى مصر، وظلَّ بها زمناً حتى عُرف بين معاصريه بالمصرى. ثم عاد إلى بلاده، وبقى هناك يعظ الناس خمسين سنة. حتى اعتُبر، واعتُبر قبره بعد وفاته، من مقدَّسات شيراز.. ولذلك يقول سعدى الشيرازى، فى ديوانه الشهير (بالفارسية) ما ترجمته: أستحلفك اللهم بسيرة الشيخ الأكبر وفكره/ وبحق روزبهان وبحق الصلوات الخمس/ أن تحفظ هذه المدينة العامرة بالرجال الصالحين/ من أيدى الكافرين والظالمين والغمَّازين.

■ ■ ■

وللصوفية عموماً، مسلكٌ فى (العشق) عجيب.. والعشق عندهم يعلو المحبة، ويأتى بعدها فى سُلَّم المقامات العارجة إلى الحضرة الإلهية. ومع أننا فى هذه السباعية، نُعنى أساساً باللغة الصوفية وبأساليب التعبير الصوفى، العربى، إلا أن الأحوال والحقائق (المعبَّر عنها) تظل واحدة عند الصوفية ، سواء كانوا عرباً أو أتراكاً أو فُرساً.

ومن هذا الباب، ندخل أولاً إلى الصورة الصوفية للعشق، وملامحها ولمعاتها، حسبما صوَّرها باللغة العربية، نجم الدين كُبرى فى كتابه (فوائح الجمال) ثم نقدِّم بعدها، بعضاً من عبارات روزبهان، أو بالأحرى إلماحاته وإشاراته العشقية الواردة فى كتابه (عبهر العاشقين) الذى كتبه أصلاً بالفارسية، وترجمه لنا د.قاسم غنى فى كتابه: تاريخ التصوف عند الفرس.. قال الشيخان:

■ ■ ■

وظهور الآيات فى عالم الشهادة والغيب، يُورث الإيمان والإيقان والعِرْفان. وبالعرفان تظهر الآلاءُ والنِّعم. وذلك يُورث المحبة. والمحبة تُورث الفناء، بل هو حقيقة المحبة وحاصلها. والفناءُ فناءان. فناءٌ عن الصفات فى صفات الحقَّ، وذلك هو الفناء فى «الفردانية»؛ وفناءٌ عن صفاته فى ذاته، وذلك هو الفناء فى «الوحدانية».. وإذا تجلَّت الذات (الإلهية) تجلَّت الهيبة، فيندك السَّيَّار (الصوفى) ويندق، ويكاد يقرب من الموت. ويسمع حينئذٍ :أحَدٌ، أحَد! وإذا فنى فى ذاته، بقى به (بالله) ويحيا به.

وقد يغيب السَّيَّار، فيرفعه الحقُّ إليه. فيجد ذَوْقَ الربوبية فى نفسه، وهذا الذوق يكون كطرفة العين. وهذا أسنى المقامات والكرامات، أن يذيقه الله عَزّ اسمه، ذلك الذوق. فإن السَّيَّار لايزال مع الحق سبحانه، فى عتابٍ وجدالٍ، يقول: ما الذى أوجب أن تكون رَبَّا وأكون مربوبًا؟ وتكون خالقاً وأكون مخلوقاً؟ وتكون قديمًا وأكون محدثاً؟! فيذيقه الله هذا المذاق، فيستريح من ذلك التحيُّر والعتاب.

والعارفُ واقفٌ، والمتحيِّرُ يسير.. بل العارف المطلق هو الله، وغيره مُتَعارِفٌ. ولا مقام يُنال، إلا وبعده أسنى منه. وهذا ميدانٌ فسيحٌ، لا يُدرك حَدُّه إلا بعد الهلاك، والرجوع إليه. ولا يُدرك الهلاك إلا بعد ركوب هولٍ عظيم، هو بذل الروح. كما فعل الحسين (الحلاج) فى قوله: أنا الحق! والهلاك والفناء واحدٌ، يقول (الحلاج) فى مناجاته: نَاسُوتِيَّتى اسْتُهْلِكَتْ فِى لاَهُوتِيَّتك، فَبِحَقِّ نَاسُوتِيَّتى عَلَى لاَهُوتيَّتكَ، أَنْ تَغْفِرَ لِمَنْ ابْتَغَى قَتْلِى ! والاستهلاكُ أثرُ المحبة. فأولُ المحبة طلبُ المحبوب للنفس، ثُمَّ بذلُ النفس له، ثُمَّ نسيانُ الإثنينية، ثُمَّ الفناءُ فى الوحدانية.

والعشقُ نارٌ تحرق الحشا والكبد، وتطيشُ العقل، وتُعمى البصر، وتُذهب السمع، وتُهوِّن ركوب الأهوال، وتُضيِّق الحَلْق حتى لا يعبر إلاَّ النَّفَس، وتُجمِّع الهِمَّة على المعشوق، وتُسىء الظن بالمحبوب من الغَيرة.. وتزيد، فيذهبُ النظامُ، ويدومُ الهيامُ، ويطيبُ الموتُ، ويُورَّثُ النسيانُ. ويطفئها الوصلُ، ويقلِّلها العتابُ.. ونهاياتُ المحبة بداياتُ العشق. المحبةُ للقلب، والعشقُ للروح. والسِّرُّ يجمع الأحباب، والهمةُ أثرُ الجمع.. قيل: ما نهايةُ هذا الأمر؟ قال: الرجوع إلى البداية !

وبدايةُ هذا الأمر، طلبُ الجنس للجنس، وهو نورٌ ولُطْفٌ منه. وذلك يُورث التمنِّىَ بالشهوة، والإرادةَ بالفؤاد، والمحبةَ بالقلب، والعشقَ بالروح، والوصلَ بالسِّرِّ، والتصرُّف بالهمة، والصفاءَ فى الصُّفَّة، والفناءَ فى الذات..

هكذا تحدَّث الشيخ نجم الدين كبرى.

■ ■ ■

وتحدَّث الشيخ روزبهان المصرى، فى العشق.. فقال:

العشقُ محمودٌ على أية حالٍ، سواء كان فى مقام العشق للطبيعيات، أو للروحانيات. لأن العشق الطبيعى، هو منهاج العشق الربانى. ولا يُستطاع حَمْلُ أثقال العشق الإلهى، إلا على مثل هذا المركب. كما لا يُستطاع احتساء روائق صفاء الجمال الإلهى، إلا فى أقداح أفراح الصور الحسية فالعشقُ الطبيعىُّ والعشقُ الروحانى والعشق الإلهى، جواهرُ ثلاثٌ، مستمرةٌ دوماً فى الحركة.

ولما أراد تعالى، أن يفتح كنـز الذات بمفتاح الصفات، تجلَّى على أرواح العارفين بجمال العشق، وظهر بصفاتٍ خاصة. وأثَّرت الصفاتُ فيهم، والصفةُ قائمة بالذات، فأصبحت صفتهم قائمة من أثر ذلك. (ولكن) لا يوجد من «الحلول» شىءٌ فى هذا العالم، (لأن) العبدَ عبدٌ، والرَّبَّ ربٌّ.

وأصلُ العشق قديمٌ، وعُشَّاقُ الحق قدماءُ. العشقُ لبلابُ الأرض القديمة، الذى التفَّ حول روح العاشق.. العشقُ سيفٌ يقطع رأس الحدوث (المحدودية الإنسانية) من العاشق، وهو ذروةُ قاعدة الصفات (الإلهية) فما وصلتها روحُ العاشق إلا واستسلمت للعشق. وكل من صار معشوقاً للحق، وعاشقاً للحق، لا يستطيع النـزول من تلك الذروة، ويصير فى العشق متَّحِداً بالعشق. وإذا اتَّحد العاشقُ والمعشوقُ، صارا بلونٍ واحد. وعندئذٍ يصبح العاشقُ، حاكماً فى إقليم الحق.

العشقُ كمالٌ من كمال الحق. فإذا اتصل العاشق، تحوَّل من الحدوث المحض. يصبح باطنه ربانيَّا، ولا يتغير من حوادث الدهور، وصروف الزمان، وتأثير المكان. فإذا بلغ عين الكمال، تزول ستائر الربوبية.. وليس فى العشق مقصودٌ (مطلب) فالعشق مع المقصود، ليس بموجود. العشقُ والمقصود، كُفْرٌ.

وليس للصورة مكانٌ فى العشق، لأن العقل والنفس ليسا معاً فى طريق العشق. فالعشق، هو الطائرُ الصاهرُ للروح.. الأمرُ والنهى، منسوخان فى طريق العشق.. والكُفر والدين حُجبا عن سراى العشق.. والآفاقُ محترقةٌ بإشراق العشق.. والكونُ مضمحلٌّ تحت حافر فرس العشق.

وجوهرةُ العشق عُجنت من الأزل.. وكُلُّ مَنْ ظهر له طريقُ العشق، يخطف جوهر أوصافه من هذه التربة.. وليس فى العشق مجوسيةٌ ولا كُفر، ولا شراسةٌ ولا بلاهة. وصِفَةُ العُشَّاق كمالُ الحيرة، والخضوعُ صِفَةُ المتيَّمين.. الجنة مأوى الزاهدين، والحضرة مَثْوى العاشقين! ليس فى العشق فجاجة، وليس فى طريقه عجزٌ ولا ضعف.

وكلُّ ما قلناه، ليس من صفة العشق والعاشق (لأن اللغة لا تقدر على بيانه) ونهايةُ العشق، بدايةُ المعرفة. والعشق فى المعرفة، مبنىٌّ على الكمال. وإذا اتحد العاشقُ بالمعشوق، بلغ مقام التوحيد. وإذا تحيَّر فى المعرفة، فقد أحرز مقام المعرفة.. وحيث إنهم (العشاق) بلغوا ذلك الحدَّ، فقد صار قلبهم ربانيًّا، وقولهم أزليًّا.. كما قال أبو سعيد الخرَّاز، رحمة الله عليه: للعارفين خزائن أودعوها علومًا غريبة، وأنباءً عجيبة، يتكلمون فيها بلسان الأبدية، ويخبرون عنها بعبارات الأزلية.

فصوص النصوص الصوفية (٦-٧) .. بابُ الأسرار.. وما لا يُعَوَّلُ عليه

لا يمكن الكلام عن بدائع الأدب الصوفى، كما لا يجوز استعراض النصوص «الفصوص» التى تلألأتْ فى كتابات الأولياء، من دون التوقُّف طويلاً عند أعمال شيخ الصوفية الأكبر (ابن عربى) الذى بلغت مؤلفاته المئات، من الكتب الطوال، والرسائل القصار، والأشعار. ولذلك، فسوف نُلقى فى هذه المقالة بعض الضوء، على اثنين من مؤلفاته البراقة بفصوص النصوص.. لكن دعونا أولاً نتعرف إلى ابن عربى.

يعدُّ الشيخ الأكبر، محيى الدين محمد بن على الطائى الحاتمى المرسى (المتوفى ٦٣٨ هجرية) هو أشهر صوفية الإسلام على الإطلاق. وقد عُرف بـ«ابن عربى» فى حياته وبعد مماته، واشتهر فى تاريخ التصوف بلقب «الشيخ الأكبر» تقديراً لمكانته الروحية المتميزة.. كان مولده سنة ٥٦٠ هجرية فى بلدة (مُرْسية) بالأندلس، وهى البلدة التى يُنسب إليها، فيقال له (المرسى) مثلما ينسب شيخ الإسكندرية الشهير: أبوالعباس.

وكانت نشأةُ ابن عربى، وسنواتُ شبابه المبكر، فى المدن الأندلسية (الإسبانية/ البرتغالية) الشهيرة، التى لا تزال إلى اليوم تعبق بالرحيق العربى الإسلامى: مرسية، إشبيلية، لشبونة، قرطبة.. وقد ارتحل عن الأفق الأندلسى فى وقتٍ مبكر من حياته، فنـزل المغرب والتقى هناك بشيخه «أبى مدين الغوث» الذى كان يقيم فى بلدة (بجاية) المغربية، ثم قدم إلى مصر وأقام بها حيناً، إلى أن رحل عنها إلى الحجاز للحج، واستقر حيناً بمكة..

وفى مكة وقع له أمران مهمان، الأول أنه هام بحبِّ فتاةٍ اسمها (النظام) هى ابنة شيخه، شيخ الحرم فى وقته: زاهر بن رستم الكيلانى. وقد وصف ابن عربى محبوبته بعباراتٍ بليغةٍ، سوف نوردها بعد الإشارة إلى أنه كان قد قال شعراً فى حبيبته هذه، فانتقده بعض معاصريه، وأنكروا عليه أن يكون صوفياً وعاشقاً فى الآن ذاته.

وقد جمع ابن عربى أشعاره (الغزلية) التى استوحاها من النظام بنت رستم فى ديوان بعنوان: تُرجمان الأشواق. فلما انتقده معاصروه وضع شرحاً للديوان، أبان فيه عن المقاصد الروحية لأبياته الغزلية، مؤكِّداً أن حُسْن (النظام) كان نافذةً، أطلَّ منها العاشق (ابن عربى) على الجمال الإلهى المتجلِّى فى الكون.. وجعل الشيخ الأكبر شرحه لأشعاره، بعنوان: ذخائر الأعلاق فى شرح ترجمان الأشواق.

وفى مقدمة (ذخائر الأعلاق) يصف لنا ابن عربى محبوبته، فيقول إنها: «بنتٌ عذراء، طفيلةٌ هيفاء. تقيِّدُ النظر وتزيِّن المحاضِرَ والمُحاضِر، وتحيِّر المناظر. تُسَمَّى بالنظام، وتُلَقَّب بعين الشمس.. ساحرةُ الطَّرْف، عراقية الظُّرْف.. إنْ أسهبت أثعبتْ، وإن أوجزت أعجزتْ، وإن أفصحت أوضحتْ. إنْ نطقتْ خَرِسَ قسُّ بن ساعدة، وإن كرمتْ خَنَس معنُ بن زائدة، وإن وفَّتْ قصَّر السموألُ خُطاه..

ولولا النفوس الضعيفة، السريعة الأمراض، السيئة الأغراض، لأخذتُ فى شرح ما أودع الله تعالى خَلْقَها من الحسن، وفى خُلُقِها الذى هو روضة المزن. شمسٌ بين العلماء، بستانٌ بين الأدباء. حقةٌ مختومة، واسطةُ عقد منظومة. يتيمةُ دهرها، كريمةُ عصرها. سابغةُ الكرم، عاليةُ الهمم. سيدةُ والديها، شريفةُ نادييها. مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد. أشرقت بها تِهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه.. إلخ».

والأمر الآخر المهم الذى وقع لابن عربى فى مكة، بل لعله الأهم، هو ابتداؤه هناك فى تأليف (الفتوحات المكية) التى سوف تعدُّ بعد اكتمالها، أشهر كتاب فى تاريخ التصوف الإسلامى. وقد أشار ابن عربى فى مقدمة هذا الكتاب إلى سبب تأليفه، وأبان عن طريقته فى كتابته، بقوله: «كنت نويتُ الحج والعمرة، فلما وصلتُ إلى أمِّ القُرى، مكة، أقام الله سبحانه وتعالى فى خاطرى، أن أعرِّف الولىَّ بفنونٍ من المعارف، عند تطوافى فى بيته المكرَّم..».

وفى الباب الثامن والأربعين من الفتوحات، التى تقع كاملة فى خمسمائة وستين باباً، يقول ابن عربى: اِعلمْ أن ترتيب أبواب الفتوحات، لم يكن من اختيارٍ، ولا عن نظرٍ فكرىٍّ، وإنما الحقُّ تعالى يُملى لنا على لسان ملك الإلهام، جميع ما نَسْطُره.

وفى الباب الخامس والستين والثلاثمائة، يقول: «واعلمْ أن جميع ما أتكلَّمُ به فى مجالسى وتصنيفى، إنما هو من حَضْرة القرآن ومن خزائنه، فإننى أُعطيت مفاتيح الفهم والإمداد منه..» ويقول فى الباب الثالث والسبعين والثلاثمائة: جميع ما كتبته وأكتبه فى هذا الكتاب، إنما هو من إملاءٍ إلهىٍّ أو إلقاءٍ ربانىٍّ أو نفث روحانى فى كيانى، بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال.

والفتوحات المكية تتألف من سبعة وثلاثين سِفْراً، نُشرت قديماً فى أربعة مجلدات كبار، وقد حاول (د. عثمان يحيى) نشرها محققةً فى طبعةٍ جديدةٍ تصدرها هيئة الكتاب بالقاهرة. لكنها طبعةٌ لم تكتمل، ولن تكتمل، فقد تُوفِّى المحقِّق وتوقَّف نشر (الفتوحات) بعدما صدر منها خمسة عشر مجلداً (سِفْراً) من جملة المجلدات أو الأسفار السبعة والثلاثين، التى كان من المفترض أن تكتمل بها هذه النشرة المحقَّقة.

ولكن حالَ دون اكتمالها عوائقُ كثيرةٌ، منها الصخبُ المفتعل الذى ثار، والضجةُ التى هاجت بوسائل الإعلام فى السبعينيات، ضد نشر الفتوحات. فقد ثارت نفوسُ وأقلامُ بعض الفقهاء ورجال الدين والسياسيين! وردَّ عليهم بعض المشايخ والمثقفين الذين كانت على رأسهم الدكتورة بنت الشاطئ.. وتصاعد الأمر، حتى نوقش منع إصدار الكتاب فى «مجلس الشعب» ثم انحسم هذا الخلاف لصالح نشر الكتاب محقَّقاً، رغم أنف المعترضين الذين كان أغلبهم من الأزهريين. والعجيبُ أنه بعد سنوات من الضجَّة والصخب ضد ابن عربى وفتوحاته، صار رئيسُ جامعة الأزهر الحالى، وهـو أيضاً مفتى الديار المصرية السابق (د. أحمد الطيب) أحد أهم الدارسين المتخصصين فى تراث الشيخ الأكبر، وقد حصل على رسالته للدكتوراه من جامعة السربون، فى مؤلفات ابن عربى.

ومؤلفات شيخ الصوفية الأكبر، بحسب «الإجازة» التى كتبها بنفسه قبل وفاته بستة أعوام (سنة ٦٣٢ هجرية) تبلغ واحداً وخمسين ومائتين.. وهى تبلغ خمسمائة مؤلَّف، حسبما ذكر عبدالرحمن جامى فى كتابه الشهير: نفحات الأُنس.. أو تبلغ أربعمائة، حسبما أحصاها الإمام الشعرانى فى: اليواقيت والجواهر.

ونحن نعرف منها اليوم ستين مؤلَّفاً منشوراً، (ما بين كتاب ورسالة) ومائة مؤلَّف لم تزل بعدُ مخطوطة، ولم تأخذ طريقها إلى النشر.. ومن بين هذه المؤلفات جميعها، تبقى (الفتوحات المكية) بالإجماع، هى أهمَّ وأشهرَ مؤلفات ابن عربى.

تقع الفتوحات فى خمسمائة وستين باباً، تضمها الأسفارُ السبعة والثلاثون التى تتألف منها الفتوحات. والباب الأخير، هو (باب الوصايا) الذى يبدو كملحق للفتوحات، ولذلك فقد نُشر فى بعض الطبعات منفرداً. أما الباب التاسع والخمسون والخمسمائة، فهو خلاصة (الفتوحات) كلها، وهو المعروف عند الصوفية باسم (باب الأسرار) نظراً لأن كل فقرة منه تُفصح عن (سر) كل باب من أبواب الفتوحات، وتقدِّم خلاصته.. ومن هذا الباب المفعم بالأسرار، نقتطف ما يأتى من فقراتٍ بديعة وفصوصِ نصوصٍ، ثم نتلوها بمقتطفاتٍ من رسالة ابن عربى، فى: ما لا يُعَوَّلُ عليه.

ونظراً لأن عبارات ابن عربى التالية، مفعمةٌ بالرموز والإشارات؛ فسوف نلحق بها كلمات شارحة، نضعها بين القوسين (للتوضيح).

■ ■ ■

سِرُّ الافتتاح بالنكاح:

القولُ من القائل فى السامع، نكاحٌ.. ينـزلُ الأمرُ النكاحىُّ، من مقام الافتتاح إلى مقام الأرواح. ومن المنازل الرفيعة، إلى ما يظهر من نكاح الطبيعة. ومن بيوت الأملاك، إلى نكاح الأفلاك. ومن حركات الأركان، إلى ظهور المولَّدات التى آخرها جسم الإنسان.. (للتوضيح: المرادُ بكلمة النكاح عند ابن عربى، الخلْقُ والإيجاد بالأمر الإلهى).

سِرُّ إطفاء النبراس بالأنفاس:

لما كان القائلُ له مِزَاجُ الانفعال، كان للنَّفَسِ الإطفاء والإشعال. فإن أطفأ أمات، وإن أشعل أحيا، فهو الذى «أضحك وأبكى» فيُنسب الفعل إليه، والقابل لا يُعَوَّلُ عليه.. لولا نَفَسُ الرحمن، ما ظهرت الأعيان. ولولا قبولُ الأعيان، ما اتَّصفَتْ بالكيان، ولا كان ما كان. الصبحُ إذا تنفَّس، أذهب الليلَ الذى كان قد عَسْعَس.. (للتوضيح: المرادُ هنا، بيانُ أن الله وحده هو شرطُ الإيجاد وإفناء العدم).

سِرُّ الجرس واتخاذ الحرس:

الجرسُ كلامٌ مجملٌ، والحرس بابٌ مقفلٌ. فمن فصَّل مجمله وفتح مقفله، اطَّلع على الأمر العُجاب والتحق بذوى الألباب. وعرف ما صانه القشرُ من اللباب، فعظَّم الحِجاب والحجَّاب. الإجمالُ حكمةٌ، وفصلُ الخطاب قسمةٌ. والحرسُ عصمةٌ، فهم أعظم نعمة لإزالة نقمة. صلصلة الجرس، عينُ حمحمة الَفَرس.. (للتوضيح: الحرسُ هنا يعنى الشريعة، وصلصلةُ الجرس حالةٌ تسبق هبوط الوحى والتجليات).

سِرُّ وجود النَّفَس فى العَسَس:

بالعسس يطيبُ المنام، وبالنَّفَس تزولُ الآلام. ما أضيف إلى غير الرحمن، فهو بهتان. ظهر حُكْمُهُ، فزال عن المكروب غَمُّهُ. من قِبَلِ اليمن جاء، وبعد تنفيذ حُكمه فاء. وإليه يرجع الأمر كلّه، لأنه ظلّه. لا ينقبضُ الظلُّ إلا إلى مَنْ صَدَرَ عنه، فإنه ما ظَهَرَ عينه إلا منه. فالفرعُ لا يستبد، فإنه إلى أصله يستند. (للتوضيح: فى الحديث الشريف «إنى أجد نَفَس الرحمن يأتينى من قِبَلِ اليمن».. وفى آى القرآن: ألم تَرَ إلى ربك كيف مَدَّ الظل).

سِرُّ الهرب من الحرب:

مَنْ مال، متحيِّزاً إلى فئة أو متحرِّفاً لقتال، فما مال. كُنْ قارّاً، ولا تتبع فارّاً. لا تضطره إلى ضَيْق، فيأتيك ما تكرهه من فَوْق. إذا نزل القدرُ، عمى البصرُ. نزول الحمام، يقيِّد الأقدام. لا جناح، لمن غلبه الأمرُ المتاح. من راح، استراح، إلى مقرِّ الأرواح.. (للتوضيح: معانى هذه الفقرة يضيق المقام هنا عن عرضها، لرمزيتها الشديدة، ولقبولها أكثر من تأويلٍ ممكنٍ).

سِرُّ تعشُّق القوم بالنوم:

الخيالُ عينُ الكمال، ولولاه ما فُضِّل الإنسان على سائر الحيوان. به جال وصال مَنْ افتخر وطال، وبه قال من قال: سبحانى! وإنى أنا الله، وبه كان الحليم الأوَّاه.. (للتوضيح: الذى قال «سبحانى» هو أبويزيد البسطامى، وقال الحلاج: أنا الله! والقومُ هم الصوفية، وأقوالهم المشار إليها هى الشطحات).

سِرُّ الشَّطْح من الفَتْح:

مَنْ شَطَحَ عن فناءٍ شطح، وهذا من أعظم المنح. إلا أنه يُلتبسُ على السامع، فلا يعرف الجامع من غير الجامع.. ولا يظهر الشطحُ من صاحب هذا الصَّف، إلا إذا كان فى حاله ضعف.. «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» انظرْ إلى أدبه فى تحلِّيه، كيف تأدَّب مع أبيه. وما ذكر غير إخوته، فالأديبُ مَنْ أخذ بأسوته. فإن ربه أدَّبه. ومَنْ أدَّبه الحق، أنزل الناس منازلهم لـمَّا تحقَّق.

سِرُّ الشوق والاشتياق:

الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاء، والاشتِيَاقُ يهَيِجُ بالالْتقَاء

لا يَعْرفُ الاشْتيَاقَ إلاَّ العُشَّاق.

مَنْ سَكَنَ باللِّقَاءِ، فَمَا هُوَ عَاشق عِنْدَ أَرْبَابِ الحقَائِق.

مَنْ قَامَ بثِيَابه الحريقُ؛ كَيْفَ يَسْكُن؟

وهَلْ مثْلُ هَذَا يَتَمَكَّن!

للْنَار التْهَابٌ ومَلْكَة.. فَلاَ بُدَّ مِنَ الحرَكَة.

والحرَكَةُ قَلَق، فَمَنْ سَكَنَ مَا عَشِق.

كَيْفَ يَصِحُّ السُّكُونْ؟ وهَلْ فى العِشْقِ كُمُونْ! هُوَ كُلُّهُ ظُهُور، وَمَقامُهُ نُشُور.

والعَاشِقُ مَا هُوَ بحُكْمِه، وإنَّمَا هُوَ تَحْتَ حُكْمِ سُلْطَانِ عِشْقِه.

وَلاَ بحُكْمِ مَنْ أَحَبَّهْ.

فَمَا حَبَّ محُبٌّ إلاَّ نَفْسَهُ. أوْ، ما عَشِقَ عاشِقٌ، إِلاَّ مَعْنَاهُ وَحِسَّهُ. لِذَلِك،

العُشَّاقُ يَتأَلمونَ بِالْفِراق، وَيَطْلُبُونَ لَذَّةَ التَّلاَق.

فَهُمْ فى حُظُوظ نُفُوسِهمْ يَسْعَوْن.

وَهُمْ فى العُشَّاقِ الأَعْلَوْن.

فَإنهَّمْ العُلَماءُ بالأُمُور، وبالَّذى خَبَّاهُ الحقُّ خَلْف السُّتُور.

فَلاَ مِنَّةً لُمحبٍّ عَلَى محْبُوبِهِ، فَإنَّهُ مَعَ مَطْلُوبهِ.

وَلاَ عنْدَهُ محْبُوبٌ ومَرْغُوب سِوَى مَا تَقِرُّ بِهِ عَيْنُه، وَيَبْتَهجُ بِهِ كَوْنُه.

وَلَوْ أرَادَ المحِبُّ ما يُريدُهُ المحْبُوبُ مِنَ الهَجْرِ، هَلَكَ.. بَينْ الإرَادَة، وَالأَمْرِ ! وَمَا صَحَّ دَعْوَاهُ فىِ المحَبَّةِ، وَلاَ كَانَ مِنَ الأَحِبَّةِ..

■ ■ ■

الوجدُ الحاصلُ عن التواجد، لا يُعَوَّلُ عليه.. الخاطرُ الثانى، فما زاد، لا يُعَوَّلُ عليه.. الواردُ المنتظر، لا يُعَوَّلُ عليه. الاطلاعُ على مساوئ العالم، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ علمٍ من طريق الكشف والإلقاء أو اللقاء والكناية، بحقيقةٍ تخالف شريعة متواترة، لا يُعَوَّلُ عليه.. خرقُ العوائد والمزيدُ من الفوائد، مع استصحاب المخالفات، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ فنٍّ لا يفيد علماً، لا يُعَوَّلُ عليه.

الأنسُ بالله فى الخلوة، والاستيحاشُ فى الجلوة، لا يُعَوَّلُ عليه.. الحالُ، عند الأكابر، لا يُعَوَّلُ عليه.. وجودُ الحق عند الاضطرار لا يُعَوَّلُ عليه، لأنه حال، والحال لا يُعَوَّلُ عليه.. الجوع، لا يُعَوَّلُ عليه.. صحبةُ أهل الله، مع عدم احترامهم، لا يُعَوَّلُ عليها..

الصبرُ الثانى لا يُعَوَّلُ عليه، فإن الصبر الذى يُعَوَّلُ عليه، هو الذى يكون عند الصدمة الأولى، لأنه دليل الحضور مع الله تعالى. القناعةُ فى العلم، لا يُعَوَّلُ عليها.. الظنُّ لا يُعَوَّلُ عليه.. التوبةُ من بعض الذنوب، لا يُعَوَّلُ عليها.. كُلُّ محبةٍ، لا يُؤثر صاحبها إرادة محبوبه على إرادته، فلا يُعَوَّلُ عليها.. كُلُّ حُبٍّ يكون معه طلب، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ حُبٍّ لا يفنيك عنك، ولا يتغير بتغيُّر التجلِّى، لا يُعَوَّلُ عليه.. كلُّ حال يدوم زمانين، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ ورعٍ مقصورٍ على أمر دون أمر، لا يُعَوَّلُ عليه..

كُلُّ سُكْرٍ لا يكون عن شُرب، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ صحو يكون بعد سكرٍ، لا يُعَوَّلُ عليه، لأن سكران الحق لا يصحو. كُلُّ إسلام لا يصحبه الإيمان، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ شوقٍ يسكن باللقاء، لا يُعَوَّلُ عليه.. كُلُّ فِراسة لا تكون عن نور الإيمان، لا يُعَوَّلُ عليها.. السَّفَرُ إذا لم يكن معه ظفر، لا يُعَوَّلُ عليه.. التصوفُ بغير خُلُق، لا يُعَوَّلُ عليه.. المحبةُ إذا لم تكن جامعة، لا يُعَوَّلُ عليها. الاحترامُ بغير خدمة لا يُعَوَّلُ عليه، والخدمة بغير الاحترام لا يُعَوَّلُ عليها.. المكانُ إذا لم يؤنَّث، لا يُعَوَّلُ عليه.

■ ■ ■

وهناك إشارةٌ أخيرة، لابد منها هنا، مفادها أن هذه (النصوص الفصوص) السابقة، يمكن قراءتها على عدة أوجه، بحسب تَعدُّد وجوه 

فصوص النصوص الصوفية (٧/٧).. الرمزية الصوفية عند الجيلى

«كلماتُ الحكماء، حسبما كان سوريانوس يقول، مرموزةٌ! ولا رَدَّ على الرمز».. تلك هى العبارة الشهيرة لشهاب الدين السهروردى (الإشراقى) التى تلخِّص مذهبه الأسلوبى، بل المذهب الأسلوبى للصوفية عموماً، منذ أواخر القرن السادس الهجرى.. تُرى، ما الذى دعا رجال التصوف إلى الالتجاء للرمزية، والاستعصام بها كأسلوب تعبيرى عن رؤاهم الثرية؟

قد رأينا فى المقالات الستِّ السابقة، أن الأزمة المبكرة الناشئة عن اصطدام الرؤية الصوفية (اللامحدودة) بمفردات اللغة (المحدودة) أدَّت إلى ويلات أوْدَتْ بحياة صوفيةٍ كبارٍ كالحلاج وعين القضاة الهمذانى والسهروردى، ثم قادت إلى حالة من الصمت الصوفى عقب مصرع الحلاج المروِّع (مصلوباً) فى بغداد، سنة ٣٠٩ هجرية.

وعلى صعيدٍ آخر، غيرِ صوفىٍّ، كانت هناك اتجاهاتٌ معرفيةٌ وجماعات عديدة ظلت تعانى من مشكلة اللغة، وتهددها مخاطر التعبير بالمفردات المعتادة عن أفكار ورؤى غير اعتيادية. منهم، مثلاً، جماعةُ المشتغلين بالكيمياء السحرية (السيمياء) الطامحين إلى تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة!

أى تحويل الحديد إلى فضة، والنحاس إلى ذهب.. وقد بذل هؤلاء جهوداً مضنية منذ عصر (خالد بن يزيد) الذى حرمه من كرسى الخلافة الأموية، زوجُ أمه «عبد الملك بن مروان» فانهمك (خالد) فى المحاولات الكيميائية، واهتم بترجمة الكتب العلمية القديمة، من اليونانية إلى العربية، أملاً فى الوصول إلى مبتغاه المستحيل، بعدما استحالت عليه الرياسةُ السياسية.

وقد سار من بعده، فى الطريق ذاته، كثيرون من أمثال الطغرائى (صاحب القصيدة الشهيرة: لامية العجم) وغيره.

وكان هؤلاء الكيميائيون، السيميائيون، يعرفون أن طريقهم شديد الخصوصية والتفرد. ولا ينبغى لهم أن يتناقلوا معارفهم الخطيرة هذه، بالألفاظ المعتادة المشاع بين الناس! فلجأوا إلى الرموز المبهمات التى تمتلئ بها كتبهم وقصائدهم التعليمية.

وفريقٌ آخر من أجدادنا، اشتغلوا بالفلسفة وعلوم (الحكمة القديمة) التى لم يكن أهل زمانهم يرحبون بها. فلما أراد هؤلاء الأجداد تدوين معارفهم، لجأوا إلى الرمز والتعمية، حتى فيما يتعلق بأسمائهم! ولذلك، فنحن لا نعرف إلى اليوم أسماء أصحاب الموسوعة الفلسفية الخطيرة التى ظهرت فى القرن الرابع الهجرى، وهى المسماة (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا) وقد ظلت دوماً، على أهمية محتواها، مجهولة المؤلف.. رمزية الإشارات.

وكان اضطرابُ الأحوال السياسية، وخطورةُ الاقتراب من الحكام وكراسيهم، سبباً فى التجاء بعض المفكرين السياسيين للرمز.. ولذلك حظى تراثنا بكتاب (كليلة ودمنة) الذى قام ابن المقفع بنقله إلى اللغة العربية، متوسِّلاً بحكايات عن الحيوانات، إلى ترشيد الحكم السياسى وإرسائه على قواعد العدل والحكمة.. وإن كانت تلك الرمزية لم تمنع أصحاب السلطان عن البطش بابن المقفع.

■ ■ ■

إذن لم يكن اللجوء للرمز مختصاً بالصوفية، وإنما شاركهم فى ذلك آخرون، اتقاءً لشيوع الأفكار والمعارف الخاصة لدى العامة من الناس، أو تفادياً للبطش بهم. وهو ما كان حتى وقت قريب، يحدو بالأدباء إلى اصطناع الرمز اتقاءً وتفادياً للويلات التى قد يتعرض لها الأديبُ إذا ما أراد أن يقول، مثلاً، إن حُكم الضباط الأحرار لمصر غير مشروع! فإذا به يرمز للأمر، بقوله: جواز عتريس من فؤادة باطل.. باطل.. باطل!
ومنذ ألف سنة، تقريباً، أبان الصوفيةُ المسلمون عن مسلكهم الأسلوبى (الرمزى) وعلَّلوه، بما أورده المؤرِّخ الصوفى الشهير، القشيرى، فى كتابه المعروف بعنوان (الرسالة القشيرية) حيث قال فيه إن الصوفية قصدوا إلى استعمال الألفاظ التى يكشفون بها عن معانيهم لأنفسهم، غيرةً منهم على أسرارهم أن تشيع فى غير أهلها.

وقد عنى مؤرِّخو التصوف بتبيان بعض دلالات الرموز الصوفية فى كتبهم، وهو ما فعله القشيرى فى (الرسالة) والكلاباذى فى (التعرف لمذهب أهل التصوف) والهجويرى فى (كشف المحجوب).. كما عنى بعض كبار الصوفية بإفراد كُتبٍ ورسائل فى كشف دلالات الاصطلاحات الصوفية، وهو ما فعله ابن عربى فى رسالة (اصطلاح الصوفية) والقاشانى فى كتاب (اصطلاحات الصوفية).
Photo
■ ■ ■

ويعدُّ عبد الكريم الجيلى، المتوفَّى على أرجح الأقوال سنة ٨٢٦ هجرية، هو أكثر الصوفية المسلمين رمزيةً فى التعبير، واستغلاقاً فى البيان.. ولا يعنى ذلك أنه كان أقل بلاغةً من الصوفية الآخرين، بل هو بالعكس، واحدٌ من أكثر رجال التصوف تأنُّقاً فى لغته ومعانيه، ويكفيه أنه عبَّر عن علة لجوئه إلى الرمز، بقوله البليغ الآسر فى كتابه (الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل): مَنْ كان يعقوبىَّ الحزنِ، جَلَى عن بصره العمى، بطرحِ البشيرِ إليه قميصَ يوسف!
Photo
وفى هذه العبارة البليغة، رهيفة المعنى، نرى أن الرمزية الصوفية ليست حائلاً بين النص والقارئ، وإنما هى صلةٌ بينهما. بشرط أن يكون القارئ أصلاً، مستعداً لاستقبال هذه المعانى الدقيقة (يعقوبىّ الحزن) وقادراً على التقاط الإشارات البعيدة (قميص يوسف) حتى يفهم المراد، فيجلو عن بصره العمى.. وظاهرٌ هنا أن الجيلى، أعاد بناء مفردات القصة القرآنية البديعة، الخاصة بالنبى يوسف وأبيه يعقوب وإخوته الذين ظلموا.. بعدما أفرغ هذه المفردات من محتواها الأصلى، ونظمها فى سياق جديد بليغ، تكتسى فيه مفردات (يعقوب، الحزن، العمى البشير، القميص، يوسف) بمعانٍ ودلالاتٍ جديدة. لم تكن متعلِّقة أصلاً بالسياق القصصى القرآنى، وهو فى ذلك، يتجاوز من الناحية البلاغية ما كان قدماؤنا يسمونه (التضمين) وما صار معاصرونا يسمونه: التناصّ.
Photo: ‎المولوية	

المولوية هي إحدى الطرق الصوفية وتنسب إلى جلال الدين الرومي، المعروف عند أصحابه باسم "مولانا" أو "مولوي"، وتشتهر هذه الطريقة بالرقص الدائري والغناء واستعمال الناي.
النشأة 
ولد مؤسس هذه الطريقة جلال الدين محمد بن محمد الحسين البلخي سنة 604هـ (1207م)، في مدينة بلخ (من أعمال خراسان)، فهو إذاً فارسي الأصل، لكنه هاجر وهو صغير مع والده حتى استقر في قونية (عاصمة الدولة السلجوقية) والواقعة في جنوب تركيا، وبها أقام وتوفي سنة 672هـ (1273م).
وبعد أن كان مدّرساً للفقه، تحول المولوي إلى التصوف على يد شمس الدين التبريزي، الذي سأله: لماذا تأخذ نفسك بدراسة الفقه؟ فأجاب المولوي: لأعرف الشرع، فقال التبريزي: أليس الأجدى أن تعرف صاحب الشرع!
وبهذا المنطق الغريب صرف التبريزي المولوي عن دراسة وتدريس العلوم الشرعية، إلى براثن التصوف بحجة أن الأجدى هو معرفة الله سبحانه وتعالى لا معرفة الشريعة، ويعلق الدكتور عبد المنعم الحفني على هذا الفهم فيقول: "وهذه مغالطة، إذ كيف أعرف صاحب الشرع إن لم أعرف لأي شيء يشرّع، ولماذا يشرع، وما الذي يشرّع له"؟
وقد تعلق المولوي بأستاذه التبريزي تعلقاً كبيراً إلى الدرجة التي جعلته يحبس نفسه معه في حجرة واحدة أربعين يوماً
وإضافة إلى تتلمذه على يد التبريزي، فقد زار جلال الدين المولوي دمشق، واتصل بشيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي (560ـ 638هـ) وتلاميذه، ومنهم سعد الدين الحمومي، وصدر الدين القونوي. وقد عاصر المولوي عدداً من شيوخ الصوفية أبرزهم أبو الحسن الشاذلي، مؤسس الطريقة الشاذلية.‎
■ ■ ■

ولعبد الكريم الجيلى مؤلفاتٌ كثيرة، شعرية ونثرية. فمن بديع أشعاره قصيدته (النادرات العينية فى البادرات الغيبية) وهى ثانى القصائد الصوفية طولاً بعد تائية ابن الفارض الكبرى. وتقع النادرات فى ٥٤٠ بيتاً من روائع الأبيات، وقد نشرتُها قبل قرابة ربع قرن، مع مختاراتٍ من شرح النابلسى.
Photo: ‎ولما كان العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي  فإنه يقرع أبواب الجميع بمن فيهم من يتحاشون الحب.‎
وللجيلى قصائد كثيرة، متفرِّقة، كنت قد جمعتها معاً تمهيداً لنشرها، ولكن شغلتنى عن ذلك الشواغلُ، ودهمتنى الدواهى المشتِّتات.. أما الكتب التى تركها عبدالكريم الجيلى، فهى تزيد على الثلاثين، ومنها كتاب كبير يقع فى أربعة وأربعين جزءاً، عنوانه (القاموس الأعظم والناموس الأقدم فى معرفة قَدْر النبى صلى الله عليه وسلم) ولكل جزء عنوان مستقل، بل هو فى الواقع بمنـزلة كتاب مستقل! فمن تلك الكتب الأجزاء: قاب قوسين وملتقى الناموسين- لسان القَدَر بنسيم السَّحَر- سر النور المتمكن- لوامع البرق الموهن.. وغير ذلك.
Photo: ‎يا أيها المسافر لا تعلق القلب بمنزل ما بحيث تحزن عندما تغادره


شمس التبريزي‎
وأشهر مؤلفات عبد الكريم الجيلى، كتابه (الإنسان الكامل) وهو مطبوع طبعة مريعة، من دون تحقيق أو ضبط، مع أنه واحد من أهم المتون الصوفية فى تراثنا العربى. وقد تعرض الجيلى فى مقدمته، لمسألة الرمزية الصوفية مؤكداً أهمية التلميح، لا التصريح، عند التعبير عن الحقائق الروحية التى بحسب ما يقول: «لا تُفهم إلا لغزاً أو إشارةً، ولو ذُكرت مصرَّحةً، لحال الفهمُ بها عن محلِّها إلى خلافه». ولكن الجيلى يصل بالرمزية أحياناً إلى نواحٍ قاصية، قاسية، مثلما فعل فى قوله بأول الجزء الأول من كتابه: «الشىءُ يقتضى الجمع، والأنموذجُ يقتضى العزة، والرقيمُ يقتضى الذِّلة، وكل واحدٍ من هؤلاء، مستقلٌ فى عالمهن سابحٌ فى فلكه. فمتى خلقتَ على الأنموذج شيئاً من صفات الرقيم، انخرم قانونُ الأنموذج، ومتى كسوتَ الرقيم شيئاً من حُلل الأنموذج، لم تره! لظهوره بما ليس له..»
Photo: ‎«لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء».

شمس التبربزي‎
وقد ذكر الجيلى بعد قوله السابق، الملغز أن مراده بالرقيم العبد (الإنسان) والمراد بالأنموذج القطب (الإنسان الكامل).. فأبان بذلك عن الصلة القائمة بين عموم البشر وعوام الناس من جهة، ومن الجهة الأخرى قطب الأقطاب الذى هو قمة هرم الولاية الروحية وأعلى الأولياء مرتبة.. فأشار فى عبارته الرمزية الملغزة، إلى أن القطب يظل مع قطبيته بشراً، عندما تنخلع عليه مقتضيات المحدودية الإنسانية من طلب المأكل والملبس وما إلى ذلك من ضرورات البقاء الإنسانى.
Photo: ‎الحب وحده هو الذي يطهرقلوبنا

شمس التبريزي‎
وحين يرتقى الإنسان إلى هذه المرتبة، فيكسو (الرقيم) لباسَ (الأنموذج) ليظهر الإنسان آنذاك فى ثوبٍ ربانى، أى يصير: عبداً ربانياً يقول للشىء كن فيكون! بحسب نص الحديث النبوى المشهور.. وهنا تجب إشارتان، الأولى أن مصطلح (الرقيم) هو فى أساسه لفظة قرآنية وردت فى معرض الحكاية عن قصة أهل الكهف فى القرآن، الذين هم وفقاً للآيات الكريمات (أصحاب الكهف والرقيم) وهو عند عبد الكريم الجيلى رمزٌ مبكرٌ، استعمله فى عنوان أول الكتب التى ألفها فى شبابه الباكر وجعله بعنوان: الكهف والرقيم فى شرح بسم الله الرحمن الرحيم.
Photo: ‎ألست فاتن قلبي، ان كان قد بقى لي قلب، وألست حجر كهرمان جاذب وأنا مجرد قشة


شمس التبريزي‎
ثم ألف بعده، بقية كتبه التى لم تزل فى معظمها مخطوطة لم تنشر، ومنها هذه المؤلفات التى يجدر بنا أن نتأمل عناوينها، ليس فقط لروعة سجعها، وإنما أيضاً لسعيها للإبانة برائق اللفظ عن فائق المعنى: غُنية أرباب السماع وكشف القناع عن وجوه الاستماع- إنسانُ عين الوجود ووجودُ عين الإنسان الموجود- السِّفْرُ القريب نتيجة السَّفر الغريب- شرحُ مشكلات الفتوحات المكية وفتحُ الأبواب المغلقات من العلوم اللدنية- كشفُ الغايات فى شرح كتاب التجليات- المملكةُ الربانيةُ المودعةُ فى النشأة الإنسانية- بحرُ الحدوث والقدم ومُوجدُ الوجود والعدم- عيونُ الحقائق فى كل ما يُحمل من علم الطرائق- حقيقةُ الحقائق التى هى للحق من وجه ومن وجه للخلائق.. وغير ذلك!
Photo: ‎فنحن كالروح في الدنيا وان كنا غير ظاهرين، ونحن كعشق العاشقين، وان لم تكن لنا أمارات

شمس التبريزي‎
والإشارةُ الأخرى، الواجبة هنا، هى أن الجيلى وصل بالرمزية الصوفية فى بعض المواضع من كتبه، إلى مرحلة تامة الاستغلاق، مستحيلة الفهم، حتى على المتخصِّص فى اللغة الصوفية.. إن صحَّ أن هناك متخصِّصين فى هذه اللغة! فمن ذلك ما نراه من قوله فى كتابه (الإنسان الكامل):
Photo: ‎من هو شمس التبربزي 

هو شمس الدين ، وقيل شمس الحق والدين محمد بن ملك داد التبريزي ، المشهور بالشمس التبريزي ، وقيل في اسمه: محمد بن علي بن ملك داد. ولد سنة 582 هـ و تتلمذ عليه الملا الرومي البلخي  قيال عنه أنه كان شاعرا و حكيما فارسيا إلى كونه درويشا هائما وقام برحلات إلى مدن منها حلب وبغداد و دمشق  وقونية والتي التقي فيها بمولانا جلال الدين الرومي الذي كان آنذاك، يبحث عن تلميذ بعينه ينقل إليه أسرار الطريقة و الحكمة، و أنه وجد فيه مولانا جلال الدّين ضالته، فكانت الصلة بين الرجلين أقوى من صلة "المتحابّين في الله" المبشّرين بالجنّة وفقا لحديث النّبي (ص)، إلى صلة الشيخ بمريده و الإمام بتابعه 
تلا اللقاء الأول خلوة دامت بينهما أربعين يوما، لم يكن يدخل عليهما ، خرج جلال الدين من الخلوة وقد زلزلت روحه زلزالا عميقا، وراح ينشد أشعاره المتدفقة، الحية، والتي تجسدت في تلك المقطوعات الرائعة التي ضمها ديوانا يحمل اسم شيخه الحبيب، شمس الدين التبريزي، القصائد موجهة في الظاهر إليه، وتعلن عنه وتكني أيضا، لكنها في الجوهر تعبر عن المغامرة الروحية التي عرفها مولانا جلال الدين من خلال تجربته الصوفية العميقة  مع رفيقه شمس الدين التبربزي والتي تبلورت فيها رؤاه حول فكرة أو اكتشاف توحد الإنسان بالكون، بالخالق،  وقتل على يد جماعة من المناوئين له  من مريدي جلال الدين الرومي 644 هـ.‎
جمعنا الوقتُ، عند الحقِّ، بغريبٍ من غرباء الشرق، ملثَّماً بلثام الصمدية، متَّزراً بإزار الأحدية، مترديّاً برداء الجلال.. مسلِّماً بلسان الكمال، فلما أجبتُ تحية سلامه، أسفر بدره عن لثامه، فشاهدته أنموذجاً فهوانياً، حكيماً، حكمياً، برنامجاً مقدَّراً على سبيل الفرض، وبه لا بغيره، تبرأ الذمة من رقِّ القرض، فاعتبرته فى معيارى ونظمت به عقود الدَّرارى، فانقطعتْ من أول وهلةٍ منى، علاقةُ الفقار، فأصلحت بانكسار عمود الأين.. إلخّ !

■ ■ ■
Photo: ‎ان كنت لاتريدني فأنا أريدك بالروح، وان لم تفتح لي الباب، فأنا مقيم على عتبته.‎
ومن مستغلق قول الجيلى، فى كتابه (الإنسان الكامل) ما يلى:

إن المعجب الحقيق، والطائر الحمليق، الذى له ستمائة جناح، وألف شوالة صحاح؛ الحرامُ لديه مباح، واسمه السفَّاح بن السِّفاح! مكتوبٌ على أجنحته أسماءٌ مستحسنة، صورةُ الباء فى رأسه، والألف فى صدره، والجيم فى جبينه، والحاء فى نحره، وباقى الحروف بين عينيه صفوف.. 

ما الذى يقصده الجيلى هنا؟ لقد كتبتُ قبل عشرين عاماً، أننى لا أعرف مراده.. وهو عين ما سأكتبه اليوم! ولكن تظل فى الفقرة السابقة صورة خيالية آسرة، غريبة، قد تكون لرمز (العنقاء) التى طالما أشار بها الصوفية لغرابة المعنى. وقد تكون رمزاً للنوع الإنسانى الأصلى الذى انطوى فيه العالم، بحسب المفهوم الصوفى. وقد تكون لمعنى آخر أراده الجيلى، ولم يفصح عنه.

وعلى الرغم من إيغال الجيلى، وعديدٍ من الصوفية المتأخرين، فى مفاوز الرمزية الصوفية. فإن ذلك، كان يرد فى مواضع معينة من نصوصهم الشعرية والنثرية، ولم يمنع عن بقية المواضع، بدائع التعبيرات البليغة، وطرائف الصيغ الأسلوبية التى يضيق المقام هنا عن استعراض المزيد من نماذجها النثرية والشعرية.

■ ■ ■
Photo: ‎إن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس فأجعل قلبك لا عقلك
دليلك الرئيسي



شمس التربيزي‎
محي الدين بن عربي

وألطف ما في الحب ما وجدته وهو أن تجد عشقـاً مفرطاً وهوىً وشوقـاً مقلقـاً وغراماً ونحولاً وإمتناع نوم ولذة بطعام، ولا يدري فيمَنْ، ولا بمنْ، ولا يتعين لك محبوبك، وهذا ألطف ما وجدته ذوقـاً. ثم بعد ذلك بالإتفاق، إما يبدو لك تجلّ ٍ في كشف فيتعلق ذلك الحب به، أو ترى شخصاً فيتعلق ذلك الوجد الذي تجده به عند رؤيته فتعلم أن ذلك كان محبوبك وأنت لا تشعر، أو يُذكر شخص فتجد الميل إليه بذلك الهوى الذي عندك فتعلم أنه صاحبك، وهذا من أخفى دقائق استشراف النفوس على الأشياء من خلف حجاب الغيب، فتجهل حالها ولا تدري بمن هامت ولا فيمن هامت ولا ما هَيّمَها.

وهذا ألطف ما يكون من المحبة، ودونه حب الحب، وهو الشُغلُ بالحب عن متعلقه. جاءت ليلى إلى قيس وهو يصيح: “ليلى، ليلى”. ويأخذ الجليد ويلقيه على فؤاده فتذيبه حرارة الفؤاد.
فسَلّمتْ عليه وهو في تلك الحالة وقالت له: “أنا مطلوبك، أنا بغيتك، أنا محبوبك، أنا قرّة عينك، أنا ليلى”.
فالتفت إليها وقال: “إليكِ عني، فإنّ حُبكِ شغلني عنكِ”.
هذا ألطف ما يكون، وأرقّ في المحبة، ولكن هو دون ما ذكرناه في اللطف.
واعلم أن الأمور المعلومات على قسمين: منها ما يُحَدْ ومنها ما لا يُحد. والمحبة، عند العلماء بها والمتكلمين فيها، من الأمور التي لا تُحد. واعلم أن كل حب لا يَحُكمُ على صاحبه بحيث أن يَصُمّهُ عن كل مسموع سوى ما يسمع من كلام محبوبه، ويُعميه عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويُخرسه عن كل كلام إلا ذِكر محبوبه وذِكر من يُحب محبوبه، ويختم على قلبه فلا يدخل فيه سوى حب محبوبه، ويرمي قفله على خزانة خياله فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فيكون كما قيل:
خيالك في عيني وذِكْرُكَ في فمي        ومثواكَ في قلبي فأينَ تغيبُ

فبه يسمع، وله يسمع، وبه يُبصر، وله يُبصر، وبه يتكلم، وله يتكلم.
وكل حب يُبقي في المُحب عقلاً يَعقل به عن غير محبوبه فليس بحب خالص، وإنما هو حديث نفس. وقال بعضهم: “لا خير في حب يُدَبر بالعقل”.

■ ■ ■
مولانا جلال الدّين و شمس التبريزي

يعتبر ديوان شمس التبريزي، أو كما يسمّيه البعض "الديوان الكبير"، أهم أعمال مولانا جلال الدّين الرومي شاعر القرن الثالث عشر (1207 – 1273)، أو صاحب الطريقة المولوية، طريقة الدراويش الصوفية الإسلامية ذات السمعة العالمية الطّيبة، التي تجاوز أتباعها الملايين، و اجتذبت مريدين من المسلمين و غير المسلمين.  و ما تزال شخصية شمس التبريزي، أو شمس الدّين التبريزي، التي خلّدتها أعمال مولانا جلال الدّين، مثيرة لجدل كبير في أوساط الباحثين و الأكاديميين و المؤمنين، جرّاء الغموض الذي صاحب ظهورها و مسيرتها و موتها، إلى حدّ جعلها العقدة الأساسية في سيرة مولانا نفسها، التي تميّزت بعقد كثيرة منها ما هو عائد إلى هذا العظيم في شخصه، و منها ما يعود إلى تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها، بما انطوت عليه من تقلّبات و أحداث و أسرار محيّرة.  لقد قالت معظم السير أن شمس الدّين التبريزي كان درويشا هائما على وجهه في بلاد المسلمين، من تلك الفئة من المتصوّفة التي اختارت نبذ الدنيا وراء ظهورها و ترك المال و العيال و التنقّل في ملكوت الله الواسع و التأمّل في آياته في خلقه من بشر و شجر و حجر، و هي فئة وجدت لها نظائر في الأديان الإبراهيمية و في غيرها، خصوصا الهندية منها كـ"الجانتية" مثلا.  و قالت سير أخرى أن شمس كان شاعرا و حكيما فارسيا إلى كونه درويشا هائما، و أنه جاء إلى قونية السلجوقية التركية آنذاك، يبحث عن تلميذ بعينه ينقل إليه أسرار الطريقة و الحكمة، و أنه وجد في مولانا جلال الدّين ضالته، فكانت الصلة بين الرجلين أقوى من صلة "المتحابّين في الله" المبشّرين بالجنّة وفقا لحديث النّبي (ص)، إلى صلة الشيخ بمريده و الإمام بتابعه.  
Photo: ‎قواعد العشق الأربعون‎
و بحسب القصّة المشهورة، فإن صلة المحبّة هذه أثارت غيرة أتباع مولانا جلال الدّين و أوغرت صدورهم على الدرويش الغامض، فقاموا باغتياله في حادث طرق مثير على الباب ذات مساء، لم يظهر بعدها شمس، تاركا في قلب الصاحب لوعة أفاضت شعرا و فنّا و حنينا و حبّا ما يزال ملهما للسالكين إلى ساعة الخلق هذه.  لكنّ اختبار هذه القصّة في مختبر ذلك الزمان المليء بالغموض أصلا، يجعلها عاجزة عن الصمود في وجه أسئلة ليس بالمقدور لجمها، و التوائم مع معطيات تظهر بين الفينة و الأخرى لا يمكن تجاهلها، فأسرار ذلك الزمان ما تزال تجود بكنهها، إذ تحرّكت فيه الحدود الدولية في دورة تاريخية حاسمة، و التقى فيه أقصى الشرق (المغول) مع أقصى الغرب (الصليبيّون)، و انهارت فيه الخلافتان الإسلاميّتان العبّاسية و الفاطمية، و تلاشت فيه دول و دويلات و تجارب سياسية و دينية و روحيّة، و عصفت فيه بالمسلمين أزمة ثقة حضارية في النفس غير مسبوقة.  و في تقديري فإن أهمّ المعطيات التي لم تمنح ما تستحقّ من العناية في جلّ محاولات تفكيك العقدة المولوية، ربّما استجابة لرغبة مولانا نفسه، الذي تجاوزت كلمته حواجز الأديان و الطوائف و العقائد و الشعائر و الطرق و الشرائع، إلى كلمة التوحيد و العشق و الفناء في الذات الإلهية الجامعة للبشر جميعا بصرف النظر عن خلفياتهم و انقساماتهم و أجناسهم و أديانهم و طوائفهم، أليس هو القائل "تعال، كيفما كنت تعال..".  إن معطى الأصل الطائفي لمولانا جلال الدّين الرومي، ربّما شكّل في رأيي أحد أهم قطع الصورة الضائعة، و هو معطى يحتاج كثيرا من التحقيق و البحث و التدقيق، فالحديث فيه ناهيك عن كونه يزعج مولانا في مرقده، ما دام هو قد تجاوز قولا و فعلا هذا المعطى، فإنه سينطوي في كل الأحوال على قدر كبير من المجازفة، و لن يسلم من اختراق أكيد لثغرات ستظهر في جداره لا يمكن سدّها لعوامل موضوعية لا قدرة للباحث على تجاوزها.  
Photo
لا شكّ أن إقامة مولانا جلال الدّين في قونية خلال الجزء الأخير الغالب في حياته، جعله في نظر غالبية المسلمين السنّة علما من أعلامهم و جزءا من تراثهم الديني و الروحي، خصوصا و أن الطريقة المولوية، التي نشأت بعد وفاة مولانا كمؤسسة للحفاظ على خطّه و تياره و كلماته، لكن الرأي الأرجح في أصله أنه ولد و ترعرع و تربّى "مسلما شيعيّا" من أبناء الطائفة "الإسماعيلية النزارية"، الممتدّ خط أئمتها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى وقتنا الحاضر ممثّلا في الإمام التاسع و الأربعين كريم شاه علي المعروف بلقبه "الأغا خان الرابع".  و قد بدأت رحلة هجرة مولانا من أرض مولده قريبا من خرسان حيث كانت للاسماعيليين مناطق نفوذ شبه مستقلّة عن دولة خوارزم السنيّة، بعد بدء المغول زحفهم غربا، حيث جاء بصحبة والده و عائلته إلى بغداد عاصمة الخلافة العبّاسية، قبل أن يرتحل إلى مكّة و دمشق و كرمان، ليستقرّ به الحال في قونية التي كانت عاصمة الإمارة السلجوقية التركية، و واكب في حياته تدمير جيوش هولاكو للدولة الإسماعيلية النزارية في آلموت شمال فارس سنة 1256، و لبغداد عاصمة الخلافة العبّاسية سنة 1258. و مما أورده الإخباريون أن أوّل من أثر روحيا و أدبيا في مولانا جلال الدين الرّومي هو الشاعر و عالم الدّين الاسماعيلي الكبير فريد الدّين العطّار، الذي قيل أنه انتبه إلى نباهة مولانا العرفانية و أهداه نسخة من ديوانه الشهير "أسرار نامه"، و هو الكتاب الشعري الذي يشترك مع أعمال الرومي في روحانيته العالية و خوضه في بحور العشق الإلهي و الذوق الربّاني.  و يقود هذا الخط البحثي صاحبه إلى الاقتراب من إحدى الروايات المهمّشة في فك لغز العلاقة بين مولانا و شمس التبريزي، فأهل هذه الرواية يتبنّون بكل وثوق النظرية التي لا ترى في الدرويش شمس الدّين التبريزي سوى الإمام الثامن و العشرين في سلسلة الأئمة الإسماعيليين النزاريين "شمس الدّين محمد بن ركن الدين شاه"، الذي مثّل والده الإمام ركن الدّين خيروشاه بن علاء الدّين محمد آخر قادة الدولة الاسماعيلية في آلموت (التي أسسها الداعية الإسماعيلي الفاطمي الشهير حسن الصبّاح) المنتهية على يد المغول سنة 1256 كما أشير.  و قد اضطرّ قادة الاسماعيلية بعد انهيار دولتهم في آلموت، إلى العودة إلى طور الستر و التخفّي، و اضطروا بعد ذلك و لقرون طويلة إلى ممارسة التقيّة و الاندماج في طوائف و طرق اعتقدوا أنها تشترك معهم في أسس كثيرة، مثل الشيعة الاثني عشرية و السنيّة الصوفية، التي بلغت ذروة تجسيدها السياسي لاحقا بإقامة الشيخ الشاه إسماعيل الأكبر سنة 1501 الدولة الصفوية، التي قامت في الأصل على حركة صوفية سرعان ما تبنّت العقيدة الإمامية الاثنى عشرية عقيدة رسمية للدولة الجديدة.  و سيفضى كل تمحيص للفكر الاسماعيلي و الفكر المولوي إلى الوقوف على مشتركات مذهلة، لعل من أبرزها إيمان كليهما بالتوحيد المتجاوز لانقسامات الأديان، و بالحبّ أصلا في تحقيق وحدة البشر، و بالإمام أو الشيخ مصدرا لكشف أسرار النصّ المقدّس الباطنية، كما سيساعد اقتران الدرويش شمس بالإمام شمس الدّين بن ركن الدّين المتخفي في هيئة درويش من بطش المغول، في فهم سر تعلّق مولانا بإمامه المستور.

حكاية جلال الدين الرومي و شمس التبريزي ورحلة روحانية في بحــــر الصـــوفيـــة العميق
أربعـــون فـگرة للعشـــق الحــــــلال

Photo: ‎حكاية جلال الدين الرومي و شمس التبريزي ورحلة روحانية في بحــــر الصـــوفيـــة العميق
أربعـــون فـگرة للعشـــق الحــــــلال

اخبار اليوم 19/7/2013 

تقدمها :: زينب عفيفي


هناك كتابات تري فيها صورة لذاتك، وكتابات تعكس وجهة نظرك تجاه قضايا تهمك وتثير شهيتك للتفكير، وأخري تضيف الي رصيدك الروحي جانبا كان غافلا في حياتك فتبعث فيك شيئا يجعل لحياتك مغزي، من بين هذه الكتابات وقعت بين يدي رواية جذبني عنوانها قبل مضمونها، فوجدت نفسي غارقة في تفاصيلها، وكأنني أقرأ جزءا من ذاتي فيها، الرواية عنوانها " قواعد العشق الاربعون " للكاتبة التركية " اليف شفق " صدرت باللغة الانجليزية في العام الماضي وقام بترجمتها للعربية في هذه الأيام خالد الجبيلي.
الرواية تحكي العلاقة بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي من خلال امرأة تعمل ناقدة في وكالة ادبية تقرأ الاعمال الادبية وتكون رأيا حول هذه الأعمال لتكون  مساعدا لصاحب الوكالة في نشر العمل او عدم نشره ، هذه المرأة لها قصة في نسيج العمل الروائي ذاته " قواعد العشق الأربعون " لتصل الرواية بنا في النهاية الي مستويين من السرد القصصي قصة هذه المرأة بحياتها الرتيبة العادية وقصة العمل نفسه الذي تقوم بقراءته فيصبح لدينا عملان في عمل واحد..  تكشف الرواية كوامن النفس البشرية الكامنة بداخل كل منا وتؤكد علي ان الانسان يظل تائها في صحراء نفسه يتخبط بين ادراجه الي أن يصل الي وجود الله بداخله عندما يصل الي السلام الداخلي و يستريح البال.
السرد الاول في الرواية يدور حول امرأة في الاربعين من عمرها اسمها " ايلا " متزوجة من "ديفيد " الرجل المزواج الذي يخونها كل يوم مع امرأة مختلفة ولا تملك دليلا ماديا واحدا علي خيانته ولكنها هي حاسة المرأة، لها ثلاثة اولاد ابنة في العشرين من عمرها تدرس في الجامعة وتريد ان تستقل بحياتها وتتزوج بمن تحبه ، وطفلان توأمان ولد وبنت مازالا في مرحلة التعليم ، تعمل قارئة في وكالة ادبية.. وقد ارسل صاحب الوكالة لها رواية بعنوان " الكفر الحلو " لتقيمها وتقول رأيها.
تبدأ الرواية الأصلية بنوع من التمازج بين "ايلا"  وانعكاسات العمل الذي يأخذها فيه "قواعد العشق الأربعون" للتبريزي والبحث عن صاحب العمل الذي يتضح من احداث الرواية ان هذا العمل هو الأول له.. وكما جاء في متن الرواية أنه يعمل مصورا محترفا يجول في انحاء الكرة الارضية ويجد في الذهاب الي اقصي اقاصي المعمورة امرا طبيعيا وسهلا كأنه يتنزه في حديقة الحي ، بدوي عنيد في الصميم جاب ارجاء الدنيا يرتاح في كل مكان يحل فيه سواء في سيبريا ام في شنغهاي ام في كلكتا ام في الدار البيضاء ، يسافر حاملا معه حقيبة ظهر ونايا مصنوعا من القصيب ويتخذ لنفسه اصدقاء في اماكن لا تستطيع ايلا ان تحدد موقعها علي الخريطة.. تقول عنه ايلا ان عزيز شلال هادر فقد كان ينطلق بكل طاقته وقوته الي اماكن تخاف ان تطأها الاقدام.. في حين كانت ايلا تتردد وتقلق قبل الاقدام علي أي عمل اذ تكون متحمسة جدا في البداية ثم يعتريها التردد والقلق. 
وعلي صعيد رواية "الكفر الحلو " وهي رواية داخل رواية قواعد العشق الاربعون نجد شخصية شمس الدين التبريزي وهو احد الباحثين الصوفيين في القرن الثالث عشر الميلادي، لعب دورا كبيرا في خلق مسار انقلابي كبير في حياة جلال الدين الرومي. (قواعد العشق الأربعون) تتعمق في مواجهته مع جلال الدين الرومي في المدينة الاناضولية (قونيا) عام 124 والصداقة العميقة السامية التي كان لها تأثيرها الدائم علي جلال الدين الرومي، الذي استلهم الحكمة من شمس، لينفصل عنه في نهاية المطاف ليتفرغ لكتابة رائعته (المثنوي). كل ذلك جاء من خلال السرد الذي كانت تقوم به (إيلا) وهي ربة بيت معاصرة من نيوانجلاند استطاعت الحصول علي وظيفة بدوام جزئي كقارئة لإحدي دور النشر الصغيرة. المسودة الأولي التي أعطيت لـ (إيلا) تخبرنا عن قصة نقرؤها معها عن شمس وجلال الدين الرومي، وسرعان ما تجد نفسها تقوم بمراسلات عاطفية مع المؤلف عن طريق البريد الالكتروني. وتتطور الرواية عبر فصول قصيرة من خلال قفزات متتالية في الفترة الممتدة بين القرنين الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين.
وتؤكد فكرة الرواية علي حقيقة تاريخية بين زمانين زمن احداث الرواية بين ايلا وعزيز مؤلف رواية " الكفر الحلو "  وزمن سرد الرواية بين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي " قواعد العشق الاربعون " في القرن الثالث عشر لتصل الي حقيقة ان هذين التاريخين هما اكثر الازمنة التي شهدت صراعات سياسية دينية وتصادما فكريا في العقيدة بين المسلمين والمسلمين وبين المسيحيين والمسيحيين وتأتي سطور الرواية مؤكده علي هذه الفكرة : " لا يختلف القرن الحادي والعشرون كثيرا عن القرن الثالث عشر وسيدون في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية الي حد لم يسبق له مثيل وعصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي والشعور العام بعدم الامان والخوف من الآخر وفي أوقات كهذه تكون الحاجة الي الحب أشد من أي وقت مضي " ولما كان العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي كما يذكرنا جلال الدين الرومي فإنه يقرع أبواب الجميع بمن فيهم من يتحاشون الحب.
 وقد اعتمدت الكاتبة علي تاريخ العلاقة الحاصلة بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي اللذين تركا اثراً كبيراً علي حركة التصوف في الشرق ، وما تركه ذلك من ثراء شعري لدي جلال الدين الرومي في ديوانه المتكون من أربعة اجزاء (شمس التبريزي)، وهو معنون بذات الاسم للمعلم الغريب الذي جاءه من أماكن نائية واجتمع به لمدة اربعين يوماً خرج بعدها الرومي وهو في صورة وحال جديدين واختفي  شمس التبريزي، لتقول الروائية انه قتل ، ثم تبدأ مراسلات ومكالمات البطلة الأمريكية مع مؤلف رواية (الكفر الحلو) عزيز، وهاهو يفلسف رقم الاربعين عندما اخبرته ايلا في احداث الرواية انها بلغت من العمر اربعين عاما ولا تجد في حياتها شيئا مميزا  معتمداً علي الفكر والميثيولوجيا والأسطورة قائلا : أن الاربعين في الفكر الصوفي يرمز الي الصعود الي مستوي اعلي وإلي يقظة روحية فعندما نحزن يكون الحزن لمدة اربعين يوماً وعندما يولد الطفل فهو يستغرق اربعين يوماً حتي يتهيأ لبدء حياته علي الارض وقد استمر طوفان نوح اربعين يوماً وقد خرج المسيح الي  القفر اربعين يوماً وليلة وكان النبي محمد (ص) في الاربعين عندما نزل عليه الوحي وتأمل بوذا شجرة الزيزفون اربعين يوماً.
ان الرواية تمثل دورانا وسياحة روحية بين بغداد وقونية وبعض البلدان التي مر بها شمس التبريزي باحثاً عن ذاته في الاخر وباحثاً عن الله في قلبه، ان قواعد التبريزي الاربعين تستمر في الامتثال مع السرد الثري للكاتبة التي استطاعت بقدرة فائقة ان تصل الي قلب حقيقة العشق لدي التبريزي وان تتلبس فيه‎

هناك كتابات تري فيها صورة لذاتك، وكتابات تعكس وجهة نظرك تجاه قضايا تهمك وتثير شهيتك للتفكير، وأخري تضيف الي رصيدك الروحي جانبا كان غافلا في حياتك فتبعث فيك شيئا يجعل لحياتك مغزي، من بين هذه الكتابات وقعت بين يدي رواية جذبني عنوانها قبل مضمونها، فوجدت نفسي غارقة في تفاصيلها، وكأنني أقرأ جزءا من ذاتي فيها، الرواية عنوانها " قواعد العشق الاربعون " للكاتبة التركية " اليف شفق " صدرت باللغة الانجليزية في العام الماضي وقام بترجمتها للعربية في هذه الأيام خالد الجبيلي.

الرواية تحكي العلاقة بين شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي من خلال امرأة تعمل ناقدة في وكالة ادبية تقرأ الاعمال الادبية وتكون رأيا حول هذه الأعمال لتكون مساعدا لصاحب الوكالة في نشر العمل او عدم نشره ، هذه المرأة لها قصة في نسيج العمل الروائي ذاته " قواعد العشق الأربعون " لتصل الرواية بنا في النهاية الي مستويين من السرد القصصي قصة هذه المرأة بحياتها الرتيبة العادية وقصة العمل نفسه الذي تقوم بقراءته فيصبح لدينا عملان في عمل واحد.. تكشف الرواية كوامن النفس البشرية الكامنة بداخل كل منا وتؤكد علي ان الانسان يظل تائها في صحراء نفسه يتخبط بين ادراجه الي أن يصل الي وجود الله بداخله عندما يصل الي السلام الداخلي و يستريح البال.

السرد الاول في الرواية يدور حول امرأة في الاربعين من عمرها اسمها " ايلا " متزوجة من "ديفيد " الرجل المزواج الذي يخونها كل يوم مع امرأة مختلفة ولا تملك دليلا ماديا واحدا علي خيانته ولكنها هي حاسة المرأة، لها ثلاثة اولاد ابنة في العشرين من عمرها تدرس في الجامعة وتريد ان تستقل بحياتها وتتزوج بمن تحبه ، وطفلان توأمان ولد وبنت مازالا في مرحلة التعليم ، تعمل قارئة في وكالة ادبية.. وقد ارسل صاحب الوكالة لها رواية بعنوان " الكفر الحلو " لتقيمها وتقول رأيها.

تبدأ الرواية الأصلية بنوع من التمازج بين "ايلا" وانعكاسات العمل الذي يأخذها فيه "قواعد العشق الأربعون" للتبريزي والبحث عن صاحب العمل الذي يتضح من احداث الرواية ان هذا العمل هو الأول له.. وكما جاء في متن الرواية أنه يعمل مصورا محترفا يجول في انحاء الكرة الارضية ويجد في الذهاب الي اقصي اقاصي المعمورة امرا طبيعيا وسهلا كأنه يتنزه في حديقة الحي ، بدوي عنيد في الصميم جاب ارجاء الدنيا يرتاح في كل مكان يحل فيه سواء في سيبريا ام في شنغهاي ام في كلكتا ام في الدار البيضاء ، يسافر حاملا معه حقيبة ظهر ونايا مصنوعا من القصيب ويتخذ لنفسه اصدقاء في اماكن لا تستطيع ايلا ان تحدد موقعها علي الخريطة.. تقول عنه ايلا ان عزيز شلال هادر فقد كان ينطلق بكل طاقته وقوته الي اماكن تخاف ان تطأها الاقدام.. في حين كانت ايلا تتردد وتقلق قبل الاقدام علي أي عمل اذ تكون متحمسة جدا في البداية ثم يعتريها التردد والقلق. 
Photo
وعلي صعيد رواية "الكفر الحلو " وهي رواية داخل رواية قواعد العشق الاربعون نجد شخصية شمس الدين التبريزي وهو احد الباحثين الصوفيين في القرن الثالث عشر الميلادي، لعب دورا كبيرا في خلق مسار انقلابي كبير في حياة جلال الدين الرومي. (قواعد العشق الأربعون) تتعمق في مواجهته مع جلال الدين الرومي في المدينة الاناضولية (قونيا) عام 124 والصداقة العميقة السامية التي كان لها تأثيرها الدائم علي جلال الدين الرومي، الذي استلهم الحكمة من شمس، لينفصل عنه في نهاية المطاف ليتفرغ لكتابة رائعته (المثنوي). كل ذلك جاء من خلال السرد الذي كانت تقوم به (إيلا) وهي ربة بيت معاصرة من نيوانجلاند استطاعت الحصول علي وظيفة بدوام جزئي كقارئة لإحدي دور النشر الصغيرة. المسودة الأولي التي أعطيت لـ (إيلا) تخبرنا عن قصة نقرؤها معها عن شمس وجلال الدين الرومي، وسرعان ما تجد نفسها تقوم بمراسلات عاطفية مع المؤلف عن طريق البريد الالكتروني. وتتطور الرواية عبر فصول قصيرة من خلال قفزات متتالية في الفترة الممتدة بين القرنين الثالث عشر والقرن الحادي والعشرين.

وتؤكد فكرة الرواية علي حقيقة تاريخية بين زمانين زمن احداث الرواية بين ايلا وعزيز مؤلف رواية " الكفر الحلو " وزمن سرد الرواية بين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي " قواعد العشق الاربعون " في القرن الثالث عشر لتصل الي حقيقة ان هذين التاريخين هما اكثر الازمنة التي شهدت صراعات سياسية دينية وتصادما فكريا في العقيدة بين المسلمين والمسلمين وبين المسيحيين والمسيحيين وتأتي سطور الرواية مؤكده علي هذه الفكرة : " لا يختلف القرن الحادي والعشرون كثيرا عن القرن الثالث عشر وسيدون في التاريخ أن هذين القرنين كانا عصر صراعات دينية الي حد لم يسبق له مثيل وعصر ساد فيه سوء التفاهم الثقافي والشعور العام بعدم الامان والخوف من الآخر وفي أوقات كهذه تكون الحاجة الي الحب أشد من أي وقت مضي " ولما كان العشق هو جوهر الحياة وهدفها السامي كما يذكرنا جلال الدين الرومي فإنه يقرع أبواب الجميع بمن فيهم من يتحاشون الحب.

وقد اعتمدت الكاتبة علي تاريخ العلاقة الحاصلة بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي اللذين تركا اثراً كبيراً علي حركة التصوف في الشرق ، وما تركه ذلك من ثراء شعري لدي جلال الدين الرومي في ديوانه المتكون من أربعة اجزاء (شمس التبريزي)، وهو معنون بذات الاسم للمعلم الغريب الذي جاءه من أماكن نائية واجتمع به لمدة اربعين يوماً خرج بعدها الرومي وهو في صورة وحال جديدين واختفي شمس التبريزي، لتقول الروائية انه قتل ، ثم تبدأ مراسلات ومكالمات البطلة الأمريكية مع مؤلف رواية (الكفر الحلو) عزيز، وهاهو يفلسف رقم الاربعين عندما اخبرته ايلا في احداث الرواية انها بلغت من العمر اربعين عاما ولا تجد في حياتها شيئا مميزا معتمداً علي الفكر والميثيولوجيا والأسطورة قائلا : أن الاربعين في الفكر الصوفي يرمز الي الصعود الي مستوي اعلي وإلي يقظة روحية فعندما نحزن يكون الحزن لمدة اربعين يوماً وعندما يولد الطفل فهو يستغرق اربعين يوماً حتي يتهيأ لبدء حياته علي الارض وقد استمر طوفان نوح اربعين يوماً وقد خرج المسيح الي القفر اربعين يوماً وليلة وكان النبي محمد (ص) في الاربعين عندما نزل عليه الوحي وتأمل بوذا شجرة الزيزفون اربعين يوماً.

ان الرواية تمثل دورانا وسياحة روحية بين بغداد وقونية وبعض البلدان التي مر بها شمس التبريزي باحثاً عن ذاته في الاخر وباحثاً عن الله في قلبه، ان قواعد التبريزي الاربعين تستمر في الامتثال مع السرد الثري للكاتبة التي استطاعت بقدرة فائقة ان تصل الي قلب حقيقة العشق لدي التبريزي وان تتلبس فيه


Photo: ‎من رواية قواعد العشق الأربعون‎

Photo: ‎من قواعد العشق الأربعون‎

Photo: ‎من رواية قواعد العشق الاربعون - لمولانا جلال الدين الرومي‎

Photo: ‎من رواية #قواعد_العشق_الأربعون‎

Photo: ‎من قواعد العشق الأربعون‎

Photo: ‎من قواعد العشق الاربعين‎

Photo: ‎من قواعد العشق الأربعون .. شمس التبريزي‎

يتكون الفكر و الحب من مواد مختلفة 
فالفكر يربط البشر ف عقد 
لكن الحب يذيب جميع العقد 
إن الفكر حذر علي الدوام وهو يقول ناصحا "احذر الكثير من النشوة" بينما الحب يقول "لا تكترث أقدم علي هذه المجازفة" وفي حين أن الفكر لا يمكن ان يتلاشي بسهولة
فان الحب يتهدم بسهولة ويصبح ركاما من تلقاء نفسه لكن الكنوز تتواري بين الانقاض 
والقلب الكسير يخبئ كنوزا” 
■ ■ ■
“و لو أراد الله أن نكون متشابهين ،لخلقنا متشابهين ، لذلك فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارك علي الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله” 
Photo: ‎من كتاب قواعد العشق الأربعين‎


“يجب ألا يحول شيء بين نفسك وبين الله , لا أئمة , ولا قساوسة ولا أحبار ولا أي وصي آخر على الزعامة الأخلاقية أو الدينية , ولا السادة الروحيون , ولا حتى ايمانك. آمن بقيمك ومبادئك , لكن لا تفرضها على الآخرين , وإذا كنت تحطم قلوب الآخرين فمهما كانت العقيدة الدينية التي تعتنقها , فهي ليست جيّدة ابتعد عن عبادة الأصنام بجميع أنواعها , لأنها تشوه رؤيتك . ليكن الله , والله وحده دليلك.
Photo
“من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحب إخوانك البشر بكل نقائصهم وعيوبهم. تذكّر، أن المرء لا يعرف إلا ما هو قادر على أن يحب. فلا حكمة من دون حب. وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً.” 


من قواعد العشق الأربعون

Photo: ‎«لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء».

شمس التبربزي‎
«لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء».
Photo: ‎من كتاب قواعد العشق الاربعون - إليف شافاق‎
“إن الماضي تفسير, والمستقبل وهم. إن العالم لا يتحرك عبر الزمن وكأنه خط مستقيم, يمضي من الماضي إلى المستقبل. بل إن الزمن يتحرك من خلالنا وفي داخلنا” 

شمس التبربزي

موت المتأله
في هكذا تكلم الحلاّج
(الفراش يطير حول المصباح إلى الصباح، ويعود إلى الأشكال، فيخبرهم عن الحال، بألطف المقال، ثم يمرح بالدلال، طمعا في الوصول إلى الكمال).

الحلّاج

شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل. 

يقدّم كتاب(هكذا تكلم الحلّاج – النصوص الصوفية الكاملة) دراسة وتحقيق قاسم محمد عباس الذي صدر مؤخرا عن دار المدى للثقافة والنشر، تثقيفا لبعض المفاهيم الدقيقة التي تعتمد تجربة وفكر الحلّاج وأبعاد عقيدته وعرض فكر الحلّاج كما هو باعتباره حلقة لا تنفصل بأي حال عن حلقات الروحانية الإسلامية لغرض إلحاقها بروحانيات سابقة عليها، فمنطلق الكتاب مرتبط بنقد جهود الاستشراق الذي توجّه مباشرة إلى النص الصوفي، وتحديدا جهود لويس ماسنيون ومن دار في فلك أطروحته، حيث إنّها أثّرت إلى حدّ بعيد في تفاصيل تلقّي الإسلام وروحانيته لدى الفكر الغربي، كما إنه استثنى جهود الباحثين العرب بسبب أنها استجابت للموقف الاستشراقي وتأثرت به، وتوزعت طبقا لمواقف الاستشراق ذاته.

كما ألقى الضوء على آراء رينولد نيكلسون وتعليقاته على وجهة نظر فون كريمر وبيّن اللُبس الذي وقع فيه وخلطه بين نظرية فلسفية مثل وحدة الوجود التي نسبها للحلاج والتي ظهرت بعده بوقت طويل وتصور صوفي مثل وحدة الشهود لنتبيّن أنّ كريمر لم يتوفر على رؤية صوفية تميّز المسافة الدقيقة التي تفصل بين المذهبين. وهناك أيضا من نظر إلى الحلّاج باعتباره نصرانيا من الداخل، وهذا جزء من رؤية ماسنيون المرتبطة إلى حدّ ما بموقف ماكس هرتون، الذي قدّم اعتراضات منطقية على محاولة ماسينون. وقد كتب ماكس هرتون مقالتين مهمتين في عامي 1927 و1928 واندفع في إحداها إلى إثبات الأصل الهندي لتصوف الحلّاج، وحاول في المقالة الثانية أن يؤكد أطروحته الأولى عبر بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا لينتهي إلى أنّ التصوف الإسلامي هو مذهب الفيدانتا، وحسّم مرجعيته البرهمانية، وتعامل مع الحلّاج كمفكر برهماني، ليتوسع في ما بعد في مفهوم نفي العالم، ونظرية المايا كونهما ركنين أساسيين يقوم عليهما تصوف الحلّاج، إذ يؤكد هرتون أن الأمر: (لا يتعلق بإثبات تلاقٍ أو توازٍ بين ثقافتين، آو باستيعاب خارجي مادي، بل إن الأمر هو فعليا وبمعنى دقيق تطابق فكري من الأصل إلى الفرع، فتجربة الحلّاج هي تجربة ممثلة لتجربة الكل الآسيوية). مبررا تصوره عبر محاور تشكل في نتائجها أدلة تعلل منطلقه، فمفهوم طبقات الوجود يعد الحجة الأساسية لإسناده تصوره، بفهم أنه إذا كانت الطبقة الأولى من الوجود والطبقة الثانية موجودتين، فإن الشخصية الإنسانية ذاتها يتوجب أن تكون دالّة عليهما. ويراد بالطبقتين: الطبقة الطبيعية والطبقة ما بعد الطبيعية، حيث ينبغي أن تكون الطبقة الأخيرة في حالة تطابق مع الذات الأصلية بتصور أنه لا شيء يشاركها الوجود الحقيقي. يشير الكاتب إلى أنه في الفترة التي عاشها الحلّاج كانت عقيدة التوحيد تناقش من قبل الجماعات الدينية جميعها، ولاسيّما المعتزلة الذين كانت طروحاتهم حول التوحيد تهيمن على كل المدارس، حتى سُمّوا بأهل التوحيد، فقد تناولوا هذا الموضوع عبر منهجهم العقلي الذي أدى إلى استنتاجات معقدة اعترض عليها المتصوفة، بسبب أنّهم يعتقدون من غير الممكن تعريف توحيد الله، فلهذا تناول الحلّاج التوحيد الذي يلغي كلّ موجود آخر، التوحيد الذي يتصور العالم كله وجودا واحدا، وهذا الموقف كما يتضح يعارض التأويل المسيحي، وهذا ما أشّره هرتون على ماسنيون في ما بعد وهو اعتراض مضموني واضح الأبعاد أعاق محاولة ماسنيون. يقول الكاتب في قراءته التأملية لموت المتأله: إن أي محاولة لتوثيق حياة الحلّاج تعني القيام بتوثيق فكري لتاريخ الولاية الصوفية وتلمّس الجذر الأول للفكر الصوفي الإسلامي بسبب أنّ المراجعة التاريخية لحياة الحلّاج إنما تعني استحضار ما هو عقائدي وتاريخي وسياسي متعلق بمحاكمة الولاية الصوفية، أو مقاضاة الشخصية المتألهة في الإسلام بفهم أنها تدل على الشاهد الفاعل على الحقيقة في الإلهيات الإسلامية التي ظهرت في شخصية صوفية توفر لها أن تزجّ الفكر الإسلامي في معركة فكرية/ روحية أدت نتائجها إلى زعزعة العالم الإسلامي والأهم من ذلك هو أن منعطفات هذه الحياة ما زالت مطروحة بحدة إلى الآن أمام ما يمكن أن نسميه بـ(موقع التناقض) في الفكر الإسلامي. فعلى سبيل المثال كان الحلّاج يرى الحجّ في حدّ ذاته رمز اتّحاد البشرية مع الله، رغم عدم انفصال البشرية عنه، وعدم اتصالها به لكن بمجرد تحول هذا الرمز إلى حقيقة في التصور الحلّاجي لم يعد هناك أي معنى لشد الرحال إلى الكعبة، قائلا :

للناس حجّ ولي حجٌّ إلى سكني 
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
تطوف بالبيت قوم لا بجارحة
بالله طافوا فأغناهم عن الحــــرم

كما اعتقد الحلّاج أن الصيغة الجامدة للشريعة هي مكر إلهي يستدعي فهم أن جوهر الدين شيء يمكن امتلاكه من خلال هذه النصوص، وهي فكرة كان البسطامي لامس أقصى نتائجها كما يقول لويس كارديه، ويُلخص هذا الموقف بتحطيم الشريعة عن طريق الإيمان، لأنه بتجاوز الشريعة إلى نقيضها سيؤكد دور الشريعة الحقيقي بفهم الوصول إلى حقيقة الشريعة وليس تحطيمها:

لست بالتوحيد ألــــهو
غير أني عنه أســـهو
كيف أسهو كيف ألـــهو
وصحيح أنني هــــو

وفي نطاق مادة الكتاب يؤكد الكاتب إن فكرة جمع كل ما تركه الحلّاج من نتاج في كتاب واحد كانت بالنسبة له أشبه بالحلم الذي يصعب تحقيقه. فقد ترك الحلّاج تفسيرا نادرا للقرآن ومجموعة كبيرة من الأقوال والمرويات، قد تفوق في أهميتها ما نشر من نتاجه. فالتفسير الذي تركه الحلّاج يتضمن مواقفه المتناثرة في الطواسين ويشكل هذا التفسير حلقة مهمة ومؤثرة في تاريخ التفسير الباطني، بسبب إنه سابق على تفسير القشيري ومن تبعه في هذا الاتجاه من التفسير. وهو من جهة أخرى يسلط الضوء على جانب مهم من فكر الحلّاج وعقيدته الصوفية، ومن هنا تأثر فهم تصوف الحلّاج كثيرا بغياب هذا النص الأساسي الذي قد يستكمل لنا ما نقص من مشروعه الصوفي، ثم أضاف الكاتب (المرويات) التي تعد من النصوص النادرة في التصوف الإسلامي قاطبة، بسبب أنه لم يسبق لصوفي آخر أن كتب مثل هذه المرويات، التي هي عبارة عن مجموعة من الأحاديث القدسية كتبها الحلّاج لتلاميذه وهو في السجن، وهي أحاديث تقترب في بنيتها وأسلوبها من الأحاديث القدسية إلا أن الإسناد فيها مجموعة من الظواهر الطبيعية والأماكن المقدسة والأزمنة والمفاهيم وأسماء الملائكة وحتى الظواهر الجغرافية والطيور والحواس والأهلة وأسماء الشهر وغيرها. وهذه المرويات تجربة صوفية غريبة عبّر عنها الحلّاج بمجموعة من الأحاديث القدسية تفارق الحديث النبوي على مستوى الإسناد، وتختلف في بنيتها وأسلوبها تفكيرها عن الحديث الشائع في متنه وسنده، لذا سماها الكاتب بالمرويات مفارقة لمصطلح الحديث الذي تشترك معه على مستوى وجود متن وسند. ثُم نصل إلى الجزء الأكبر والأوسع وهو الشذرات التي وصل عددها إلى 241 شذرة تعد من أجمل الكتابات الصوفية وأكثرها التماعا في تاريخ الأدبيات الصوفية، وهذه الشذرات تستكمل لنا الصورة النهائية لتصوف الحلّاج وتجربته وشخصيته، بسبب أنها تتضمن مراسلات الحلّاج الشخصية، ومواقفه من التوحيد والشريعة والتصوف ومعظم مراحل الطريق الصوفي من أحوال ومقامات، فضلا عن الكثير من الآراء حول إشكاليات أساسية في الفكر الإسلامي في مجال الكلام والفلسفة والعقائد. ويأتي ترتيب كتاب (هكذا تكلم الحلّاج –النصوص الصوفية الكاملة) بالشكل التالي:

1- التفسير.
2- الطواسين.
3- بستان المعرفة.
4- الأقوال:نصوص الولاية.
5- المرويات.
6- الديوان.

ولا بدّ في الختام الإشارة إلى أنّ الهوامش التحقيقية عن الأقوال والديوان والتفسير تمّ إبعادها - كما ذكر الكاتب - بسبب حجمها الذي سيضاعف حجم الكتاب من جهة ويتعب القارئ ويشغله عن الاهتمام بالنص من جهة أخرى خاصة أن الديوان قد أُشبع تحقيقا.
■ ■ ■
طَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

ْمُنْيَتِى اَقْصَى مَرَامِىْ اَحْظَى بِالشُّهُود 
ْوَأَرَى بَابَ السَّلَامِ يَا زَاكِى الْجُدُود

ْطَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

يَا طِرَا ذَا لْكَوْنِ إِنِّيْ عَاشِقْ مُسْتَهَام
ْمُغْرَمٌ وَ الْـمَدْحُ فَنِّيْ يَا بَدْرَ التَّمَام

ْطَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

ْاِصْرِفِ الْأَعْرَاضَ عَنِّي أَضْنَانِى الْغَرَام
ْفِيْكَ قَدْ أَحْسَنْتُ ظَنِّي يَا سَامِى الْعُهُود

ْطَالَـمَا اَشْكُوْ غَرَامِى يَا نُوْرَ الْوُجُود
ْوَأُنَادِى يَا تِهَامِى يَا مَعْدِنَ الْجُود

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.