Free Web Submission http://addurl.nu FreeWebSubmission.com Software Directory www britain directory com education Visit Timeshares Earn free bitcoin http://www.visitorsdetails.com CAPTAIN TAREK DREAM: تقرير حصرى: "التجليات الروحية في الإسلام - نصوص صوفية عبر التاريخ " الجزء الأول

Monday, February 3, 2014

تقرير حصرى: "التجليات الروحية في الإسلام - نصوص صوفية عبر التاريخ " الجزء الأول

Photo: ‎“و لو أراد الله أن نكون متشابهين ،لخلقنا متشابهين ، لذلك فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارك علي الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله” 
#قواعد_العشق_الاربعون‎

شعر الحب الصوفي

الشعر لغة : الوجدان الإنساني ولؤلؤة الفكر الساطع ومنبع القلب المنير .

والشعر الصوفي فيض من رب الأرض والسماء على أوليائه بمعارف القرب والإيحاء ، إذ تجلى على قلوبهم بصفاته وأسمائه فأسفر لهم الحقائق بجميل آلائه ومخبآت نعمائه .. وفيوض أنواره وأسراره ..
والشعر الروحي .. درٌّ نضير ، يستاف الورد والعبير ، فيعطي للحياة رمزاً ، ومن الرقائق كنزاً ، ومن المواجيد رياضاً وحدائق غنّاء ، ومن العبارات غدراناً متدفّقة ، ومن الإشارات أساليب مشرقة ومن الحِكَم ثماراً وأزهاراً .. كروعة الكَلِم البديع في فصل الربيع ، فينسجُ من الأفكار ما يجري من تحتها الأنهار يرتشفها مُداماً ومنهَلاً عذباً للواردين ، مثلَ نسَمات الأسحار ، فتأتي اللطائف والأشواق بمذاقات قدسية عُليا تجول بطيب الأنفاس وروعة الأحوال في جنبات هذا الكون العظيم ...
ولا يوجد شيء ، من جوهر ولا عرض ، ولا صفة في هذا الوجود الحادث إلا وهو مستند إلى حقيقة إلهية من حيث نسبتُها إلى موجد الوجود القديم سبحانه وتعالى ، ولولا ذلك لما صحّ لها أن تظهر ؛ ومن ذلك ظاهرة الحب في هذه الدنيا .. فإنه على اختلاف مراتبه وتجلياته يستند إلى حقيقة الحب الإلهي ، الذي هو أصل وجود الحب في العالم .
ولكن لما طال الأمد ، وتغيرت النفوس ، مع الزمن ، وقست القلوب ثم اختلطت المفاهيم ، وتعقدت الأمور ، وتسطحت الأشياء ، وأضحى الفكر بلا جدوى ، وأصبحت القيم لا معنى لها ، وتهمّشت المثاليات ، وتهشم المعنى الحقيقي للحب ، واضطربت مفاهيمه فضاعت الموازين فلم نعد ندرك ما هو الحب الحقيقي ، وما هو الحب الوهمي وحب المصلحة والمنافع الآنية ، فغابت الحقائق في زحمة الحياة.

... هلا سمعنا التنزيل الحكيم ، " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبّونه " وقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث القدسي : " لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَه " ورحم الله الإمام أبا حامد الغزالي الذي نقلتُ عنه هذه العبارة الرائعة : " إذا قيل لك أتحب اللهَ ورسولَه .. فاسكتْ ، فإنك إن قلت لا أخطأت خِطْئاً كبيراً ، وإن قلتَ نعم ، فيسألك الأولياء عن الدليل .. " .
وقد رأيت محي الدين ابن عربي من أفضل من تطرّق لهذا المضمار : الحب عموماً ، والمحبةُ الإلهية خصوصاً ، فأحسستُ أنه كلام محب صادق فتحَ الله عليه بالعبارة ، وجعل البيانَ طوعَ بنانه إذ يقول فيما يقول : " حمداً لرب العزّة وقد جعل الهوى حرَماً تحجّ إليه قلوبُ الأدباء ، وكعبةً تطوف بها أسرار ألباب الظرفاء ، فجعل الفراق أمرَّ كأس تذاق وجعل التلاقي عذبَ الجَنى ، والوصالَ طيّب المذاق .. تجلى اسمه الجميل سبحانه فاندهشت الألباب ، فغرقت في بحر حبّه وفتحَ من دونها الباب فدعاها الاشتياق بمنازح الأشواق ، لتتوجه إليه عشقاً، وتذوبَ فيه شوقاً ، فيشتدُّ أنينُها ، ويطولُ حنينها ، لتجرعَ كأسَ المدُام ولم تخشَ الفناء ومصارعَ الهلاك والفناء بل نادت يا جميل يا مِحسان .. يا من قال : " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان .. " يا من تيّمني بحبه ، وهيّمني بين بعده وقربه فليتني أتحقق .. أرنو لمشارف الحقيقة لتنعم العين والفؤاد ..."
رحم الله الشيخ الأكبر ، فما أروع هذه العبارات وهو يرشح لنا الحب الروحي والغزل الصوفي ، فرحم الله امرءاً علّمنا هذا الكون من الحب المثالي ، ودلّنا على من يعلمُنا الحب الحب في كل كتاباته لنَغدَّ السيرَ نحو دروب الحب الإلهي العظيم من فيض المواهب ، وأروع المكاسب من فيوضات العناية الربانية ، ومذاقاتِ البوح والتجليات مع ما فيها من إشراقات وأسرار وأنوار ، وجمالٍ وإحسان .

وقد ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "  إن الله جميل يحب الجمال " فمرحى للمحبين بهذه البشرى ، إذ ما أجملنا ونحن نحبه ، لأن المحب لا يرى محبوبه إلا أجمل العالم في عينيه ، فما أحبّ إلا ما هو عنده قمة الجمال ، ولا شك أن الجمال محبوب لذاته ، وهو تعالى صانعُ هذا الكون الذي نحياه ، أوجده على صورته ، وهو جل شأنه " الجميل " ولِمَ لا .. فالدنيا كلها في غاية الحسن والإبداع والجمال ، فليس في الإمكان أجمل من هذا العالم ولا أكمل ، ولا أحكم .. فلو نقص منه شيء لنزل عن درجة كمال خلْقِه .. فكان قبيحاً ..
ولذلك انعكس الجمال في الصور فوقع الهيام والعشق عند العارفين فأوْرَتْ عندهم الفناء عند المشاهدة لهذا العالم لأنه يعكس لهم مرآةَ الحقيقة ..

ولذا انطلق ابن عربي ليُطلقَ عنان الخيال لمشاهداته الغزلية اللطيفة :

ما لمجنون عامر فـي هـواه          غيـر شكوى البعاد والاغتراب ِ

وأنا ضـدّه .. فإن حبـيبـي         في خيالي .. فلم أزلْ في اقترابِ

فحبيبي مني ، وفيّ ،  وعندي           فلمـاذا أقـول مـا بي وما بي

فالله تعالى هو المحبوب في تجلّي سُبُحاتِه ، فهو لا تدركه الأبصار .. هنا لكن هناك : "  وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة .. " فالحب الإلهي كما عرّفه شيخ حلب السيد محمد النبهان طيب الله ثراه : " هو حب الله للعبد ، وحب هذا العبد لربه جل شأنه لقوله : " يحبهم ويحبونه " ".
وحبه لنا قد منحنا ما يؤدي إلى إسعادنا وما يوافق أغراضنا ويلائم طباعنا البشرية

يرى ابن الخطيب أن منازع الحب الإلهي بسبحاته العُلْوية ، يجعل منه داعيَ حكمةٍ وهداية وحميميةٍ وغفرانٍ وسعادة الداريْن ..

.. وهذا ما نعني به بالحب الصوفي الذي يثير في النفس الخواطر والمشاعر ويوحي بأفياءَ وظلالَ نورانية ، يسكُبها في الوجدان ، وهذا ما عهدناه في (إحياء) الغزالي ومدارج السالكين لابن القيّم .. رضي الله عنهما .
ففيها نصوصٌ تحتاج إلى التأمل لما تعكسه من التسامي والعروج نحو العلاء ، وبما تخلّفه في زوايا النفس من سكينة وصفاء وآفاق ، وتألق الروح ، وهذا ما دفع شعراء التصوف إلى النظم بلغة شفافة تجذب صاحبها من دنيا الناس على عوالم ساحرة بالحكمة والطرب والهناء ، وسلامة القلب ونقاء الباطن ، وجلاء السريرة واغاريب الحب مما يتمم مكارم الأخلاق ويوجه الإنسان إلى المقام الأسمى نحو الشفافية والاستقامة والسلوك الرفيع ، والرشاد والفلاح ، والسمو نحو مدارج الإنسانية الراقية ، لتحقيق أفضل القربات وأنبل الغايات ، كل ذلك بفطرة الحب التي فطر الناس عليها . فتتألق الأفئدة والأبدان والأذهان بعشق الرحمن .
وإذا حلّقنا في أجواء الشعر الصوفي ، على نذرته ، لوجدناه يقترب من تلك العوالم الشيقة الفيّاضة ، إذ أن إلهاماتها ليست وليدة عاطفةٍ غيبية فحسب ، بل إن معالم هذا الشعر الروحي الرمزي الرقيق هي وليدة معرفة ذوقية أيضاً ..

حيث تألق هذا اللون من الشعر في العصرين الأموي والعباسي بعد تطور الحياة الروحية في الإسلام .

إذن فالشعر الصوفي ليس وليد عاطفة دينية مجردة ، بل هو نتاج مراحل معرفية، وتجليات ذوقية بحتة ، مرّ بها الشاعر عبر تطورات معينة ، يلتقطها بقلمه الساحر العفوي التلقائي ، بَيْد أنه لا يصورها كما يحدث في المسائل الفكرية والنظريات الفلسفية ، والقواعد المنطقية وإنما يعبّر عما يختلج في نفسه ، ويضطرب في قلبه، وجوانحه من خلجاتٍ ومشاعر غير مألوفة ، إذ يصوغها بقالب فني مبهر نعم .. لمست فيه غلياناً يفور في أعماق ذاته ، حيث يرى في داخله ما لا يُرى .. بهدوء ونقاء رتيب عجيب ، ولسان حاله يموج ويهدر
.. " موسيقا الصمت ، وقد أغمضت ، وعقلي في قلبي انصهرا ..

.. وخيالٌ .. جاوز طاقته .. وامتدّ فأبصر ما استترا ..

.. وسرحتُ .. مع الأفلاك .. مع الأملاك .. أرى ما ليس يُرى .. سبحاتٌ .. فاقت شاعرها .. لم تُقصد .. بل كانت قدراً .. غيبوبة عشق في ملكوت جمال الله .. وما فطرا .. "

كيف نترجم هذه الحالة الشعرية .. لا أدري ..! لكنني أقول إنه فنان رقيق يفنى في الحب ، يحسّه في جُوّانيته فيجعل من الشعر أداة للتعبير عن أحواله ومواجيده..
ويبتكر كلمات موحية حداثية ، يصبّها في معانٍ ذات بُعدٍ جمالي فنجد ـ فعلاً ـ أنه شاعر وجداني ورمزي في آن واحد لأنه يستمد عناصر فنه من القلب وما يوحي به من رؤى ومثاليات سداها ولحمتها الحب ، الحب الذي ينشد الجمال المطلق ، الجمال المتجسّد وبل والقائم ضمن طيات الفلسفة العليا وضروبها وآفاقها اللامتناهية كما جاءت في الأفلاطونية الجديدة ، وهذا النوع من الحب المثالي تحد عنه ابن سينا في الرسالة التي أسماها " العشق " وكذلك السراج الطوسي .
وقد تطرّق هؤلاء الفلاسفة إلى الحب ، فجعلوا منه النور الذي يُستضاء به ، والسر الذي نتكئ عليه ، والمشعل الذي يسير الصوفي على هداه ليؤكدوا " أن الحب هو طريق الوصول إلى الله " وكما ذهب الحلاج بأن " ذات الله العليا تتمثل  في الحب " وهذا يعني أن غاية الحب القصوى هي الاتصال بالله ، مما يمهد الطريق للمعارف والإشراقات والفتوحات ، وتلازم الأقوال مع الأفعال لنشدان الحب الإلهي وذلك بوساطة أشياء هي قمة السلوك البشري الرفيع ، كالتوبة والإنابة والورع والزهد ، والتوكل والرضى .. وما إلى ذلك ، مما يدعو إلى التحرر من صرخة الجسد وطغيان الرغبات الحسية ، بالترفع إلى المعاني الراقية والمراتب الذوقية التي تنأى في كل الأحوال عن شؤون المعرفة العقلية ، حيث الذوقُ والكشفُ وميلُ القلب إلى الله وليس لسواه ، فيطيب عيشه ، لأنه في حضور مع المحبوب الذي لا يشهد سواه من مطلوب ومبتغى وهدف ؛ كما يقول أبو عبد الله القرشي :" حقيقة المحبة أن تهب كلَّك لمن أحببت فلا يبقى منك شيء ، وتزداد حباً وتيتّماً وولها " ..
الحب الصوفي فناء مطلق ، يجعل من الحب والمحبوب كُلاً موحِّداً .. حيث لا وَجْدَ يبعث الألم في نفس الصوفي ، لأن الوجد في عُرف القوم المتصوّفة هو " بشارات الحق بالترقي إلى مقامات الشهود والمشاهدة ، وهو المنشود ، كما يعبّر أحدهم :

الوجد يطرب في الوجدان راحته   والوجد عند حضــور الحق منشود

قد كان يطربني وجدي فأشغلني      عن رؤية الوجد في الموجود موجود

.. إن هذا الحب الروحي ، المثالي ، المجرد عن رغبة الجسد ، ونزوة الغريزة ، يجعل من صاحبه في حالة اندغام تام ( أي اندماج ) وهنا تتألق النزعة الوجدانية الصافية في شعر الحب الصوفي .

هذه الحالة الشعورية ، تجعل من أنا ، أنت .. وينتهي بها المطاف إلى مرتبة الفناء، وهذا ما تستدعيه الحركة الشعرية الصوفية بكل رموزها وظلالها وألوانها وإيحاءاتها ، وتعبيراتها الغيبية عن الوجود الذاتي في علم الباطن لا الظاهر ، وهذا ما لا نستطيع إدراكه لأنه محصور ضمن فلك الأسرار الإلهية العليا ، وموحياتها العظمى ، فقد سئل النبي صلوات الله وسلامه عليه عن علم الباطن هذا فقال : " هو سرٌّ من أسراري ، أجعله في قلب عبدي ، لا يقف عليه أحدٌ من خلقي"
وهذا ما يتوقف عند محطة من اختصّهم الله برحمته من العارفين والمقرّبين والأولياء ، الذين أشار إليهم هذا الحديث النبوي ، حيث روي عن سيدنا سعيد بن المسيَّب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله "
ومثل هذا الأمر يستدعي إحاطة المعرفة بالأسرار حتى تظل محتفظة بصفة القداسة من ناحية ، وحتى تكون محاطة بخصوصيتها وقداستها من جهة أخرى ، ولكي تصبح فوق متناول الذين لا يفقهون فكرتها ولا يدركون غايتها أيضاً ..

ونحن نرى أن هذا الحرص على طبيعة المعرفة الصوفية ، ودقائق مفهوماتها ، ورقائق تصوّراتها هو الذي أبدع الرمز في التصوف الإسلامي .
وأعلام التصوف يسمّيهم " الشعراني " بالعلماء الأكابر ، إذ ليس لغيرهم من فن التصوف إلا المعنى الظاهر . فالصوفيون أدخلوا ألفاظاً ومصطلحات لم يعرفها سواهم إلا ما ندر من أهل زمانهم على مرّ العصور ، إذ ليس في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم ومذاقاتهم إلى غيرهم ، وهذه المصطلحات الخاصة بالتصوف أو ذات الخصوصية بالقوم هؤلاء ، إنما قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم .. وعلى طريقتهم لتكون مستغلقه عمّن سواهم غيرة منهم لأسرارهم أن تشيع في غير أهلها وما غاب عن شعراء التصوف أن يشيروا إلى أهمية الرمز في أشعارهم ، حيث قال الـشبلي :

علم التصوف علم لا  نفاد لـه        علـم سنـي سماوي ربـوبي

فيه الفوائد للأرباب يـعرفـها      أهل الجزالة والعلم الخصوصي

وقال آخر موحياً للرمز والإشارة في النهج الصوفي :

إذا أهل العبـارة  ساءلـونا           أجبـناهم بإعـلام الإشـاره

نشير بها فنجعلـها غموضاً            تقصـر عنه ترجمة العباره
ولا يغرب عن البال أن ننوه عن الرمز الصوفي والحالة هذه ليس غاية فنية ، وإنما هو وسيلة تعبيرية إذ يختلف عن الطريقة الرمزية الشعرية التي تنشد المسويقية ولا تحفل بالفكرة والمظهر فضلاً عن اعتبارات أخرى نجمت عن تقلبات الأحوال النفسية وما يرافقها من مواجيد ومذاقات صفائية خاصة تقصر المادة اللفظية عن تصويرها بشكل دقيق وواضح ، فيعمد الصوفي إلى الرمز والإشارة التي أتينا على ذكرها كيما يعبر عن فيضه الباطني أو ما يعتور داخله من تقلبات وأحوال لذا نجده يبدع لنفسه مصطلحات خاصة وأبجديات لا يدركها إلا من عاش تلك الحالات الصوفةي التي يعتبرها بعضهم بأنها نوع من الشطحات ؛ يقول أحدهم :

ذكرنا وما كنا لـننسى فـنذكر  ولكـن نسيـم القرب يبدو فيبهر

فأفنى بـه عني وأبـقى به له      إذ الحـق عنـه مخـبر ومعبر
.. هذه المقطوعة المكثفة من بيتين اثنين ، تعطينا صورة عن الطريقة التي اتبعها شعراء التصوف في إبداعهم الشعري ، ... فهي من الناحية الفنية مجردة من الجمال الذي ينشده الفنان من قرضه للشعر ، وهي أقرب إلى الوزن النظري المقروء والمنظوم منها إلى المبدعات الفنية ذات الجمالية التصويرية والتعبيرية ، ذلك أن الشاعر الصوفي لا يعنى بالشكل بل بالصفة ولا يتقيد بالمظهر بل بالمعنى المراد ، المهم أن يكتب أبياتاً مشحونة بصلة القربى بينه وبين المتلقي ، لينقل ما يعتوره من أفكار داخل الوجدان كما فعل السهروردي :

لمعت نارهم وقد عسـعس        الليل وملّ الحادي وحار الدليل

فتأملتها وفكري من البيـن       علـيل ، ولحظ الغرام الدخيلُ

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى         وغـرامي ذاك الغرام الدخيلُ

ثم مالوا إلى الملام فقالوا :        خُلَّبٌ مـا رأيـت أم تـخييلُ
إن الشاعر الصوفي حسب معرفتي به هو إنسان مرهف جداً ، يستمد عناصر وحيه وإلهامه من عالمه الذاتي ، عالم المثاليات اللامتناهية والإحساس العميق بالجمال في أسمى معانيه وما هذهه الآثار الفنية ـ على ضآلتها ـ غير تعبير عن الجمال الذي يتأثر به الإنسان .. والجمال عند الصوفي هو جمال معنوي ، وذلك لأن الصوفي ينشد الجمال في المثل الأعلى أما  الواقع فلا قيمة له في نظره ، لا بل إن هذا الواقع المرير هو الذي حدا به إلى تصور حياة غير التي يعايشها ..

وقاده إلى تصور حياة أوفر نعمة وأكثر سعادة من حياة الآخرين فوق هذه الأرض، فعمد إلى تحقيق التطور اللانهائي للوجود .
ونحن نعيش الحب الصوفي بتصوره أكثر من واقعه ، لأن الحب في الحقيقة هو وليد التصورات المجنحة ، وهو بفضل هذه الأحلام يستمر ويحيا ، ولكل قلب أسراره .. كما يقولون ، ولذا لا ينضب معينه ، فالحب الصوفي دائم الينبوع ، ننهل منه باستمرار ليل نهار إحتفاءً بموكب الحياة الزاخر المتدفق بالعطاء ، الفياض بالألوان ، الحافل بشتى الأحاسيس الإيجابية والنجاوى الهامسة ، والحوافز الخفية نحو ثالوث الحق والخير والجمال ينهل من الوجدان لذلك أبدع الغزل الصوفي فأمتع فأضغى على الأيام روحانية السماء ، كما فعلت رابعة إذ جعلت من الحب غاية مثالية لا ينشد لرغبة أو لرهبة بل للحب ذاته بما فيه من نقاء وصفاء .. وإدراك للحقيقة التي تفضي إلى الفناء والمطلق في الذات الإلهية والوحدة المطلقة التي ذهب إليها الحلاج :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا        نـحن روحان حللنا بـدنا

فإذا أبـصرتـني أبصـرته       وإذا أبـصـرته أبصـرتنا
هكذا الشعر الروحي يحلّق في أعلى مراتب الكمال ، يقرب من ذي الجلال ويباعد عن الضلال ، ويؤنس الوحيد ، ويسامر العاشق ويحيوا المحب بالعطف والتأييد من الإله الواحد المجيد .

الحب الصوفي وحي يوحيه المولى سبحانه لعباده الذين أراد إسعادهم وقضى في الأزل إكرامهم لأنه موهبة توهب ، فتأتي السعادة وتحظى بالحسنى وزيادة .. فيتراءى للمتصوفين رؤى خاصة بهم .. يرونها رأي العين ، وقد يمسك بعضهم عن الإفصاح بها لأسباب عديدة كما يقول ابن الفارض في بوحه هذا البيت المفرد:

يا رُبّ جوهر علم لو أبوح به           لقـيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ومن مرائيه الخاصة مث لقوله :

آنست في الحي نارا       ليلاً فبشرت أهلي

قلت امكثوا فلعلي           أجد هواي لعلي

نوديت منها كفاحاً         ردوا ليالي وصلي

صارت جبالي دكاً          من هيبة المتجلي

وصرت موسى زماني      مذ صار بعضي كلي

فهو قد رأى نارً مقدسة .. وتوقع أن يجد عليها هدى ورمزاً للضياء .. فسمع من خلالها نداء الحق تعالى ، واعتراه ما اعتراه من هيبته وجلاله ..
.. فهو لا ريب كشف له الحجاب فظهر ما غاب وانكشف له كون جديد لا سبيل أن يخطر إلى وعينا شيء منه ، أو من بعض ظلاله فمهما قلنا عن انفعاله أو تفاعله بما وراء ما نحياه .. فهو صادق ما دام عرف عنه كذلك ، لأنه لم يبتدع موضوع كشف الغطاء وإدراك ما لم يكن مدرك .. فهو ونظراؤه يقطعون سبيل الجدل لأنهم يعبرون ـ كما أشرت غير مرة ـ عن حالة ذوقية وجدانية عايشوها بحبات قلوبهم وإشاراقاتهم وترنيماتهم ومرائيهم فانعكست أنواراً ، وانبجست أسراراً .

ويبقى ـ في نظري ـ ابن الفارض أمير الشعر الصوفي ، ولم لا وهو يهدر دائماً

وما زلت مذ نيطت علي تمائمي        أبـايع سلـطان الهوى وأبايع

وإني مذ شاهدت فيّ جمــاله      بلـوعة أشـواق المحبة والع

أُراني بوادي الحب أرعى جماله       ألا في سبيل الحب ما أنا صانع

صبرت على أهواله صبر شاكر      وما أنا في شيء سوى البعد جازع

كل أشعاره هكذا مرشحة بمفردات الحب والجمال والغزل والهيمان .

على أيديه اشتهر شعر التصوف وقد كون تياراً فريداً في الشعر الإلهي ..

وكما أسس مدرسة من مريديه عملت تحولاً في دنيا الأدب الصوفي حيث تأسست هذه المدرسة وتكونت باجتماعها ثلاثة عناصر متآلفة متعاونة وهي :

.. الأول : عاطفي ؛ والذي تحوّل معه الحب العذري النزيه إلى قيمة وإلى مثل أعلى  .

.. الثاني : فكري : وكأنه مستقى من حكماء اليونان وفلاسفة الرومان .

.. الثالث : أخلاقي : وهو الذروة عندهم فبلغ الثراء بالوصايا والحكم والمعاني العالية بحيث أضحى أغنى تراث أخلاقي وتربوي في حضارتنا حتى الغزالي المفكر والعالم والحجة تدفقت قريحته بالشعر الصوفي كقوله :

ما بال نفسي تطيل شكواها     إلى الورى ، وهي ترتجي الله

لو أنها من مليكها اقتربت     وأخلصت ودّها لأدناها

أفقرها للورى ولو لجأ        إليه من دونهم لأغناها

ومن السودان يطل علينا عبد المحمود نور الدايم بديوان رائع أسماه شراب الكاس يقول في مطلعه هائيته العملاقة نقتطف من جرعاتها :

افتح لباب كريم أنت راجيه          بماله وهو يرضى من مراضيه

واستغفر الله من أحوال نفسك مع      دمع على الخد بالأحزان تجريه

وناجه في ظلام الليل منكــسراً     ذليل نفــس خشوعاً إذ تناجيه

والله حاكم والغـفران شــاهده    ما يريده تعــالى فيك يمضيه

والستر مكشوف والأهوال ظاهرة     والذنب يغفره بالحــب يبديه

إن رمت وصـلاً في الحيـاة به     تفنى عن الكون قاصيه ودانيه

فقيّد النفس عن إطلاقــها أدبـاً     وارمق بعينك حسناً فهو حاويه

لا تشغل القلب إلا بالـجمال ولا     تهوى سـواه بحـال أو بتنويه

ما لذّلي غيره حتى أمـــيل له      إذ حبه في الحشا شوقاً لأطويه

ما لذّلي غيره حتى أمـيل لـه     إذ حبه في الحشا شوقاً لأطويه
إن للخطاب الصوفي في طروحاته الشعرية تفاصيله الممتنعة عن الاستقصاء ، مما يقتضي بعد التأمل مع رصيد الصفاء لتلقي موجّهاته ، والجلوس في مواقعه وحتى نتجنب التورّط في قضاياه ونظرياته العليا ومساربه الروحية وما فيه من أهوال ونحن نستطلعها ؛ علينا بالمواجهة والملامسة المبتهجة كي نحصل على الانتساب المعرفي ، والاندماج الذوقي والتربّص في المسالك التي يحفرها في القلب انتشاء ، حينها ننسجم بل ونتنبه لعمق المعطى الصوفي لا سيما في شعرهم الفلسفي وكشوفاتهم الرقيقة والعميقة معاً ناهيك على مقدرة اللفظ على استيعاب المعنى وتوجهاته وتقاطعاته بما فيها من مفاهيم وتطلعات نحو ما هو أرفع وأسمى ما في هذه الحياة لنكوّن فكرة وإلمامة في المشهد الثقافي المعاصر ..
وهنا لا بد لنا من وقفة في المغرب العربي ، لأن الحرف واحد ، والموقف واحد والشعر واحد وكذلك التصوف .. لا سيما أن العلاقة وطيدة بين الشعر والتصوف والتجربة بينهما متشابهة إن لم تكن متماثلة خصوصاًَ رمزية اللغة وإشارة الدلالة ، وتجربة السفر الروحي من الكائن إلى المكوّن عبر هذا الكون الواسع من خلال عملية الكشف عن معنى الروح الواحدة بين كينونة الإنسان ومحيطها الكوني ، فضلاً عن استدعاء الشخصيات الصوفية من كبار الأولياء وأهل العرفان في القصيدة التي دبّجها الشاعر لتجربته الشعورية ، وحاورها ، وتحدث معها ، وعنها، واتخذ منها قناعاً ونسج من وحي حضورها مساقاً لمجاهداته وفيوضاته التي تتجلى عبر المعاني الرقيقة للحكمة الصوفية واشتياقها للملأ الأعلى ، متجاوزاً الظاهر الكوني ، محلّقاً في الغيب ، ومنصتاً إلى كل إيقاع خفي متستّر بين حنايا الطبيعة التي تخجب حكاياها في ثنايا الأسرار البعيدة .
إنها مسألة الهروب إلى الذات ، والوقوع في هواجسها من خلال اكتشاف إبداعي لدورة شعرية جديدة ، لها منطلقها المتمثل في امتزاج تجربة الشعر الخلاقة في الحالة الصوفية ، لتصاغ بقالب تعبير فني متميّ. حيث تتوطد العلاقة العضوية بين النص الشعري والذات الشاعرة الناطقة في ذلك الإنجاز بلغتها الخاصة بل الفريدة، وبدرجات توتّرها الشعوري والوجداني والورحي ، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة التواصل والتعاضد بين الكلمة الخضراء الندية بالمرجعية الصوفية ، والتآخي مع الشعر تكويناً وتركيباً ولغة وإيقاعاً وصورة وخيالاً ، مما يؤكد ثنائية الشعر والتصوف في حديقة الأدب العربي بما فيها من أطياف وأزاهير ..

وإذا تأملنا الذات في أعماق الشاعر المغربي فريد الأنصاري لوجدناها متحولة إلى لهيب وجمار إذ ان تجربته الشعرية ثمة احتراق يلتهم الجوانح والشاعر هو زيتها ووقودها :

أوقدْ مصابيح القصيدة واحترق        فالنور من لهب الجوانح يولد

زيتونة القرآن أشرق طلعـها       من زيتها حرف الهداية يوقد
وهذا اللون المضيء .. هو قلادة للشعر الصوفي في جيد الأدب الروحي يدفعنا إلى نبعه ليرد من صفاء عيونه ، ويشتد أوار العطش فلا نجد له رواء إلا في عيون الشعر الصوفي الخالد على مدى التاريخ مروراً بعمر الخيام في رباعياته وجلال الدين الرومي في المثنوي والشيرازي من أدباء فارس ، وكذلك قصائد الابتهال والأذكار والتوجيه وأشعار المديح النبوي .. مما تمثله المعاني الرؤيوية التي انتقلت من التصوف إلى الشعر ، إذ الشاعر كالصوفي ، كل منهما يرى في لحظات انفصاله عن عالم الحس وانتقاله إلى الواردات والخواطر النورانية ، مما يمثل مرحلة تسبق الوجود اللغوي للقصيدة ..

ولسان حال المبدع المتصوف يردد ، وعيونه تصافح الغيوم :

إن قلبي يراك في كل شيء         فهـو يهفو للطير في نغماته

وقول الشاعر محمد الحلوي يترجم قصة آدم بخياله وهو يسبح في العالم العُلوي الفردوسي :

في جـنان لو رآها آدمٌ         ما عصى خالقه أو أذنبا

لو رأى إبليس في أحلامه         بــابها أقبل يعدو تائبا

وفي قصيدة مشاهدات ذوقية لعبد الكريم ثابت ـ من المغرب أيضاً ـ تنطلق روح الشاعر هائمة مخترقة مظاهر الوجود ، باحثة عن سر الحياة ومعاني الفناء والخلود ، منطلقة تحوم إلى ما وراء الحجب محاولة الكشف عن غوامض الاستتار:

وبات خيالي وراء الوهاد            يطوف ليكشف هذا الوجود

وسر الحياة ومعنى الجماد           ومعنى الفناء وسر الخلود

وهكذا فإن المهوم الصوفي للشعر ينقل ـ كما رأيت ـ علاقة الشاعر بقصيدته من مجرد صناعة شعرية بمقتضياتها الوصفية والبيانية إلى البحث عن الحقيقة الشعرية التي تصير هدف الذات الشاعرة المدركة لكل مكابداتها ، ومعاناتها ، وكنه تجلياتها ، وهي تنشد بصورة ما ، إذكاء التوتر الوجداني في أثناء وثبة المفهوم وانتقال المقصود إلى حيّ. العبارة الشعرية والمشاهدات القلبية " مهما اتسعت الرؤية وضاقت العبارة " وتفتحت آفاق التحليق والخيال وتنوعت ملامج الإشارة وإيحاءات الرموز ، وانبجست من الحالة الذوقية روعة الوصف ودقة البيان ، ولو أنهما عن تصوير تلك المواجيد والأحوال والتجليات لايغنيا

مُصطَلحَات الصّوفية
إن للصوفية مصطلحات تعبّر عنها ألفاظ وكلمات وتراكب , ولها معان خاصة ومطالب مخصوصة غير ما يدّل عليه ظاهر الألفاظ والكلمات أو تتضمّن هذه الكلمات والألفاظ على مدلولاتها الأصلية ولكن لها معان أعمق وأكثر من مفهومها ومدلولها الظاهر بداهة ولأول وهلة فإنها لم توضع إلا لنوع معيّن وقسم خاص من المفاهيم والمقاصد الغير المتبادر إليها الذهن , ولكل قوم ما اصطلحوا عليه , فلا يدرك أبعادها , ولا يفهم مطالبها إلا من كان له معرفة وإلمام , وعلم وإدراك بمصطلحات القوم وبما اختاروا لها من الكلمات والألفاظ هي كالألفاظ , والكلمات كالكلمات ولكن لا يفهم منها شيئاً مع معرفته باللغة التي استعملت فيها تلك الألفاظ والكلمات , وإتقانه إياها , ويستغرب ويتعجب ويضل في متاهاتها , ويتحيّر في مسالكها وصحاريها وبراريها , وما أصدق ما قاله السمعاني في هذا الخصوص نفسه كما ينقل عنه الإمام الذهبي أنه قال:
" كان عبد القادر من أهل جيلان إمام الحنابلة وشيخهم في عصره , فقيه صالح ديّن خيّر , كثير الذكر , دائم الفكر , سريع الدمعة , تفقّه على المخرّمي , وصحب الشيخ حماداً الدباس , وكان يسكن بباب الأزج في مدرسة بنيت له , مضيناً لزيارته , فخرج وقعد بين أصحابه , وختموا القرآن , فألقى درساً ما فهمت منه شيئاً , وأعجب من ذا أن أصحابه قاموا وأعادوا الدرس , فلعلهم فهموا لإلفهم كلامه وعبارته " (1).

فلم يفهم منه شيئاً لأنه لم يكن له علم بمصطلحات القوم ومدلولات كلماتهم , وفي مثل ذلك قال من قال:

أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء القوم غير نسائها

وقد أقرّ بذلك صوفي قديم نقلا عن الشبلي أنه أنشد:
_________
(1) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 441.

علم التصوف علم لا نفاد له ... علم سنيّ سماوي ربوبيّ
فيه الفوائد لأرباب يعرفها ... أهل الجزالة والصنع الخصوصي (1).
وكثيراً ما يمر على القارئ ألفاظ لها معناها الظاهر والعادي , لكن القوم يستعملونها كاصطلاح خاص تعبيراً عن فلسفة مخصوصة وعقيدة مميّزة يؤمنون بها ويعتقدون فيها فهو لعدم معرفته لا يدرك حقيقتها فلا يصل إلى الفهم الصحيح والمعنى الحقيقي الذي يجعله مطلعاً على مذهب القوم ومشربهم , فأردنا في هذا الباب أن نذكر بعض المصطلحات التي عليها تدور رحى التصوف , وقد كثر استعمالها في كتابنا ولا بدّ لمن أراد التعرف لمذهب أهل التصوف من أن يعرفها والمفاهيم التي وضعت لأجلها , وآنذاك يصل إلى الكنه والمغذي والمقصود والمطلوب.

ولقد كثر استعمال مصطلحات " الحقيقة المحمدية " و " القطب " و " الأبدال " و " الأوتاد " وغيرها فهذه قد مرّ بيانها في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " تحت عناوين مختلفة , فلا فائدة لتكرار ما ذكر هناك , ونذكر الأشياء التي بقى توضيحها وكشف مفاهيمها ومدلولاتها , وقد كثر ورودها في كتابنا وكتب الصوفية , فمنها:

" الغيبة " , وهي عندهم: " أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها " (2).
ويقول القشيري والكمشخانوي:
" هي غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق بما يرد عليه , ثم قد يغيب عن غيره فقط , وقد يغيب عن غيره وعن نفسه أيضاً إذا عظم الوارد " (3).

وينشد الكمشخانوي:
_________
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر محمد الكلاباذي ص 106 ط مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1980م.
(2) التعرف لمذهب أهل التصوف ص 140.
(3) الرسالة القشيرية ج 1 ص 232 , أيضاً جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 254.
أيا من يرى الأسباب أعلى وجوده ... ويفرح بالتيه الدنيّ وبالأنس
فلو كنت من أهل الوجود حقيقة ... لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي
وكنت بلا حال مع الله واقفاً ... خليّاً عن التذكار للجن والأنس (1).

ويقول الهجويري:

" المراد من الغيبة غيبة القلب عما دون الحق إلى حدّ أن يغيب عن نفسه , حتى أنه بغيبته عن نفسه لا يرى نفسه " (2).

وبمثل ذلك قال الطوسي (3).

وينقل الدكتور عبد الحليم محمود عن سيده أحمد الدردير أنه قال مبيناً حالة غيبته عن نفسه:

" حتى لو تكلّم الناس وأنا معهم بكلام وخاطبوني به لا أدري ما قالوا , وهم لا يعلمون مني هذا الحال , لأني صورتي الظاهرية صورة العاقل الصاحي , وهذا أمر عجيب لا يعرفه إلاّ من ذاقه " (4).

فمعنى الغيبة عند الصوفية هو أن يغيب الإنسان عن فكرة وذهنه ووجوده لا يدري ما يقع في الكون ولا يفهم كلام الناس , فظاهره معهم , وباطنه غائب عنهم , وهذا مقام سنيّ عندهم يحوزه كبار أوليائهم ومشايخهم , فيحكون عن ذي النون المصري أنه:

" بعث إنساناً من أصحابه إلى أبي يزيد , لينقل إليه صفة أبي يزيد. فلما جاء الرجل إلى بسطام سأل عن دار أبي يزيد: ماذا تريد؟ فقال: أريد أبا يزيد.
فقال: من أبو يزيد؟ وأين أبو يزيد؟ أنا في طلب أبي يزيد.

فخرج الرجل , وقال: هذا مجنون.

ورجع الرجل إلى ذي النون فأخبره بما شاهد , فبكى ذو النون وقال , أخي أبو يزيد
_________
(1) جامع الأصول في الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 125.
(2) كشف المحجوب للهجويري ص 489.
(3) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 416.
(4) سيدي أحمد الدردير للدكتور عبد الحليم محمود ص 77 ط دار الكتب الحديثة القاهرة.
ذهب في الذاهبين إلى الله (1).

ومثل ذلك حكى ابن عجيبة عن الشبلي أنه قال له رجل: أين الشبلي؟

قال: مات , لا رحمه الله (2).

فهذه هي الغيبة الصوفية , يقولون: أن الإنسان ليستغرق في ذكر الله تعالى ومحبته حتى أنه ينسى نفسه , والمعلوم شرعاً وعقلاً أن ذكر الله عز وجل لا يستجلب هذا النوع من الجنون والهذيان , بل يثمر الراحة والاطئنان والسكينة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (3).

فنسيان الكون والنفس وذهاب العقل والفهم أمر مذموم , وليس شيئاً محموداً حتى يكون من ثمرات ذكر الله تعالى ومحبته , بل أنها أذواق شيطانية لا تقرها الشريعة الإسلامية.

هذا ويذكر القشيري صوفياً غاب فكره وذهنه وعقله وفهمه , وهو أبو علي الدقاق , فيحكي عن أبي نصر المؤذن بنيسابور أنه قال:
" كنت أقرأ القرآن في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق بنيسابور , وقت كونه هناك وكان يتكلم في الحج كثيراً , فأثر في قلبي كلامه , فخرجت إلى الحج تلك السنة , وتركت الحانوت والحرفة , وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله خرج إلى الحج أيضاً في تلك السنة , وكنت مدة كونه بنيسابور أخدمه وأواظب على القراءة في مجلسه , فرأيته يوماً في البادية: تطهر ونسي قمقمة كانت بيده , فحملتها , فلما عاد إلى رحلة وضعتها عنده , فقال: جزاك الله خيراً. حيث حملت هذا.
ثم نظر إليَ طويلاً كأنه لم يرني قطَ , وقال:
رأيتك مرة. فمن أنت؟

فقلت: المستغاث بالله , صحبتك مدة , وخرجت من مسكني ومالي بسببك ,
_________
(1) الرسالة القشيرية ج 1 ص 234 , 235 , كشف المحجوب للهجويري ص 490 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 308 , مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 103 , ترصيع الجواهر المكية ص 42.
(2) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 308 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة.
(3) سورة الرعد الآية 28.
وتقطعت في المفازة بك , والساعة تقول: رأيتك مرة " (1).

وذلك لأنه كان غائباً عن نفسه:

وحكى عن أبي عقال أنه " دخل عليه بعض الفقراء فقال له: سلام عليكم.
فقال له أبو عقال: وعليكم السلام , فقال الرجل: أنا فلان فقال أبو عقال:
أنت فلان , كيف أنت؟ وكيف حالك؟ وغاب عن حالته.

قال هذا الرجل , فقلت له: سلام عليكم.

فقال: وعليكم السلام , وكأنه لم يرني قط.

ففعلت مثل هذا غير مرة , فعلمت أن الرجل غائب فتركته , وخرجت من عنده (2).

وحكاية أخرى حكاها كل من القشيري وابن الملقن وعماد الدين الأموي , وتبيَن حقيقة هذا المصطلح , فينقلون عن الجنيد أنه:

" كان قاعداً , وعنده أمرأته , فدخل عليه الشبلي , فأرادت أمرأته أن تستتر , فقال لها الجنيد: لا خبر للشبلي عنك , فاقعدي.

فلم يزل يكلَمه الجنيد , حتى بكى الشبلي , فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الجنيد لامرأته: أستتري , فقد أفاق الشبلي من غيبته (3).

هذا بالنسبة لغيبة الصوفي عن ذهنه وفكره ووجوده , وأما غيبته هو عن الخلق ووصوله إلى الله كما يدَعون , فيروي الأموي " أن الحسن رحمه الله أختفى عند حبيب العجمي من الحجاج , فسعى به , فدخل عليه الشرط , فقالوا: أين الحسن؟ قيل لنا إن الحسن عندك فقال: هل ترون شيئاً؟

ففتشوا الدار كلها وخرجوا وهم لا يرونه , لأنه كان عند الله فلم يروه " (4).

فهذه هي أقاويل المتصوفة في " الغيبة " إحدى مصطلحاتهم.
_________
(1) الرسالة القشيرية ج 1 ص 234.
(2) أيضاً ص 221.
(3) أنظر الرسالة القشيرية ج 1 ص 233 , أيضاً طبقات الأولياء لابن الملقن 211 , أيضاً حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 273 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي ط دار صادر بيروت.
(4) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 69 بهامش قوت القلوب.
ومثلها " السكر " كما يقولون: " السكر هو أن يغيب الإنسان عن تمييز الأشياء " (1).

ويقول شهاب الدين يحيى السهروردي المقتول: " السكر سانح قدسي للنفس يؤدي إلى إبطال النظام عن الحركات " (2).

ويذكره المنوفي الحسيني بقوله:
" السكر غيبة بوارد شهود الخلق " (3).

ويقول: روزبهان:

" السكر هو كثرة شرب أقداح حسن التجلََي " (4).
ويقول الطوسي: " السكر معناها قريب من معنى الغيبة غير أن السكر أقوى من الغيبة " (5).

وقريباً من معنى اصطلاح الغيبة والسكر " المحو " كما يقول الكمشخانوي:

" إذا غلب عليه (الصوفي) المحو فلا علم ولا عقل فهم ولا حسّ كما روى مسنداً أن أبا عقال المغربي أقام بمكة أربع سنين ولم يأكل ولم يشرب إلى أن مات , وكان يسلَم عليه خاص أصحابه فلم يعرَفه نفسه , ثم يغيب عنه الشيخ حتى لو عاوده بالكلام لم يعرفه الشيخ , ومنهم من يعود إلى حال أداء الفرض فقط " (6).
ومثل ذلك ذكروا عن أبي عبد الله التروغندي أنه " ما كان يفيق إلا في أوقات الصلاة , يصلي الفريضة ثم يعود إلى حالته , فلم كذلك إلى أن مات " (7).

ومنها " الصولة ": وهي أن لا يرى أحد إلا الله (8).
_________
(1) التعرف إلأى مذهب اهل التصوف للكلاباذي ص 138.
(2) كلمة التصوف للسهروردي ضمن رسالة أز شيخ إشراق فصل في شرح بعض مصطلحات الصوفية ص 125 ط مؤسسة انتشارات إسلامي لاهور باكستان.
(3) جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 1 ص 304.
(4) شرح الحجب والأستار لروزبهان ص 19.
(5) كتاب اللمع للطوسي ص 416.
(6) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 126.
(7) الرسالة القشيرية ج 1 ص 321.
(8) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 274.
وأما " الحضور " و " الصحو " فهما: " رجوع الصوفي إلى الإحساس بعد غيبة عقله وإحساسه " (1).

ويذكر الهجويري أن داود عليه السلام رأى أمرأة أوريا في حالة السكر فيقول:

" وقع نظر داود عليه السلام على ما لم يكن ينبغي له أن ينظر إليه أي على أمرأة أوريا وكان ذلك في حالة السكر , أما نظر المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أمرأة زيد فكانت تلك النظرة في محل الصحوة " (2).

ومن المصطلحات الصوفية " الجمع " وهو: " شهود الحق بلا خلق , وجمع الجمع شهود الخلق قائماً بالحق , ويسمى الفرق بعد الجمع " (3).
ويصرح القشيري " جمع الجمع: الإستهلاك بالكلية , وفناء الإحساس بما سوى الله عز وجل عند غلبات الحقيقة. . . فالعبد يطالع نفسه في هذه الحالة في تصريف الحق سبحانه , يشهد مبدئ ذاته وعينه بقدرته , ومجري أفعاله وأحواله عليه بعلمه ومشيئته " (4).

ويقول روزبهان: " الجمع هو ظهور التجلي في الروح " (5).

وقد جمع هذه المصطلحات الصوفية كلها عطاء الله الأسكندري في حمه حيث قال:

" وصاحب حقيقة غاب عن الخلق بشهود الملك الحق , وفني عن الأسباب بشهود مسبَب الأسباب , فهو عبد مواجه بالحقيقة , ظاهر عليه سناها , سالك للطريقة , قد استولى على مداها , غير أنه غريق الأنوار , مطموس الآثار , قد غاب سكره على صحوه ,
_________
(1) أنظر اللمع للطوسي ص 416 , كشف المحجوب ص 490 , جامع الأصول ص 229 , كلمة التصوف للسهروردي ص 125 , جمهرة ص 305.
(2) كشف المحجوب للهجويري ص 414 ط دار النهضة العربية بيروت.
(3) اصطلاحات الصوفية لعبد الرزاق القاشاني من صوفية القرن الثامن الهجري ص 41 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981م , أيضاً متممات جامع الأصول في الأولياء ص 80 , أيضاً جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ص 302.
(4) الرسالة القشيرية ج 1 ص 225 , 226.
(5) شرح الحجب والأستار لروزبهان.
وجمعه على فرقه , وفناؤه على بقائه , وغيبته على حضوره " (1).

ويشرح النفزي الرندي هذه العبارة بقوله:
" هذا هو حال الخاصة من أرباب الحقائق , وهم الذين غابوا عن (شهود) الخلق بشهود الملك الحق , فلم يقع لهم شعور بهم , ولا التفات إليهم , وفنوا عن الأسباب برؤية مسبب الأسباب , فلم يروا لها فعلاً ولا جَعْلاً , فهم مُواجهون بحقيقة الحق ظاهر عليهم سناها , أي: نورها وضياؤها , سالكون طريقة الحق , قد استولوا على مداها , أي: وصلوا إلى غايتها ومنتهاها , إلاّ أنهم غرقوا في بحار أنوار التوحيد , مطموس عليهم آثار الوسايط والعبيد , أي: مغلق عليهم رؤية ذلك والشعور به قد غلب سكرهم , وهو: عدم إحساسهم بالأغيار , على صحوحهم , وهو: وجود إحساسهم بها , وجمعُهم , وهو ثبوتُ وجود الحق فرداً , على فرقهم وهو ثبوت وجود الخلق , وفنائهم , وهو: استهلاكهم في شهود الحق على بقائهم وهو شعورهم بالخلق , وغيبتهم وهو ذهاب أحوال الخلق عن نظرهم على حضورهم مع الخلق.
ومعاني هذه الألفاظ , كما تراها , متقاربة , وهي ألفاظ تداولها الصوفية المحققون بينهم وعبّروها بها في كتبهم , ووضعوها على معان اختصوا بفهمها , ليتعرّف بعضهم من بعض ما يتخاطبون به , ولهم ألفاظ كثيرة غيرها " (2).

ولعلّ معنى اصطلاح " الجمع " يتضح أكثر بنصّ الهجويري حيث يقول:

" الجمع هو أن يصير كل المحبّ كل المحبوب. . . وهو أن يكون العبد في الحكم والهاً ومدهوشاً ويكون حكمه حكم المجانين. . .

ويقول واحد من المشايخ رحمه الله: جاء درويش إلى مكة وأقام سنة في مشاهدة الكعبة , فلم يطعم ولم يشرب ولم ينم ولم يذهب للطهارة , لا جتماع همّته برؤية البيت , لأن الله تعالى قد أضافه إلى نفسه فصار غذاء جسده ومشرب روحه. . .
_________
(1) الحكم العطائية لتاج الدين بن عطاء الأسكندري ص 208 ضمن غيث المواهب العلية.
(2) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 208 , 209 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط مطبعة السعادة القاهرة 1380هـ.

ومثل جمع همه المجنون في ليلى لأنه حينما لم يكن يراها كان كل العالم وكل الموجودات عنده صورة ليلى " (1).
وكثيراً ما يذكر الصوفية عند بيان مصطلحاتهم العشق الغزلي والحب الطبيعي , ويشبهون الله عز وجل بمعشوق مجازي ويحملون وصفه سبحانه وتعالى على ليلى وغيرها , ثم يحاولون ربط العلاقة بين الحبين , سنذكر هذا المبدأ مفصلاً في هذا الباب إن شاء الله.

وعلى كلّ فإن الصوفية تكلّموا وراء ستار هذه المصطلحات والكلمات في موضوعات لا تمتّ إلأى الإسلام بصلة , وأعتقدوا بالحلول والاتحاد , والوصول والاتصال. وقد استغرب المسلمون عقائدهم وأفكارهم هذه.

فما يدّل على اعتقاد الصوفية بحلول ذات الله تعالى في العبد اصطلاحهم " الفناء " , وهو من أهمّ المصطلحات التي يقوم عليها مذهبهم وتتأسس عليها ديانتهم. والفناء عند المتصوفة: فناء ذات العبد في ذات الرب , فتزول الصفات البشرية في هذا المقام , وتبقى الصفات الإلهية , وتفنى جهة العبد البشرية في الجهة الربانية فيكون العبد والرب شيئاً واحداً - والعياذ بالله -.
فيصرح داود بن محمود القيصري:
" المراد من الفناء فناء جهة العبد البشرية في الجهة الربانية إذ لكل عبد جهة من الحضرة الإلهية. . . وهذا الفناء موجب لأن يتعين العبد بتعينات حقانية وصفات ربانية " (2).

ويقول النفزي الرندي:

" فناء الذات: أي لا موجود على الإطلاق إلا لله تعالى , وأنشدوا في ذلك:

فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... فكان فناؤه عين البقاء " (3).
_________
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 498 , 499.
(2) مقدمة شرح الفصوص للقيصري مخطوط نقلاً عن ملحقات ختم الأولياء للحكيم الترمذي ص 491 ط بيروت.
(3) غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية للنفزي الرندي ج 1 ص 99.
ويعتبر فريد الدين العطار فناء السالك في الله كفناء القطرة في البحر (1).

ويقول ابن الدباغ:

" وأعلم أن المحب ما لم يصل إلى مقام الاتحاد لا تنقطع الحجب التي بينه وبين محبوبه , فإنها كثيرة لكن بعضها ألطف وأشدّ نورانية من بعض , وكلّما كشف له منها حجاب تاقت النفس إلى كشف ما بعده حتى تزول جميعها عند الاتحاد " (2).

ويصرح أيضاً عقيدة اتصال الصوفي بالله تعالى , بقوله:
" وأعلم أن كل من أحب ذاتاً ما محبة كاملة خالصة , وأراد الاتصال بتلك الذات لا يمكنه ذلك إلا بخلع ما سواها وترك الإحساس به , فإذا صحّ له هذا مع صحة التوجه فقد وصل إلى مطلوب من الاتصال , ولا مانع من الاتصال بالحق مع حصول معرفته إلا بالشعور بما سواه , ومن تجرّد عن بدنه واطّرحه ناحية وفني عن شعوره بذلك فقد اتصل بالحق , لأن بدن الإنسان أقرب العالم المحسوس إليه , فإذا فني عنه فقد فني عن العالم كله , وهذا هو الوصول , ومن صار له هذا الانسلاخ ملكة بحيث يفعله متى شاء فهو الواصل على الحقيقة لتمكنه من مقام شهود الحق " (3).

ويقولون: أن الله يتجلّى على العبد في هذا المقام , كما يذكر ذلك السهروردي في عوارفه بقوله:

" أما الفناء الباطن فهو محو آثار الوجود عند لمعان نور الشهود , يكون في تجلّي الذات , وهو أكمل أقسام اليقين في الدنيا " (4).

وقال: " قد يكون التجلّي بطريق الأفعال , وقد يكون بطريق الصفات , وقد يكون بطريق الذات " (5).

ويكتب ظهير الدين القادري: " الفناء هو أن يطالع الحق سرّ وليه بأدنى تجلّ ,
_________
(1) أنظر منطق الطير لفريد الدين العطار المقالة الرابعة والأربعون ص 404 ط دار الأندلس بيروت.
(2) مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب ص 68 تحقيق المستشرق هـ. ريتر ط دار صادر بيروت 1379هـ.
(3) مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 94.
(4) عوارف المعارف للسهروردي ص 154.
(5) أيضاً 526.
فيتلاشى الكون ويفنى الولي تحت تلك الإشارة " (1).

ويقول ابن عجيبة:

" إن القلوب إذا صفت الأكدار والأغيار , وملئت بالأنوار والأسرار لا يتجلّى فيها إلا الحق " (2).

وينقل الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه كان يقول:

" إذا ما تجلّى الحق من غيب ذاته ... تلاشى وجود الغير حقاً بلا شكّ " (3).
ويقول المنوفي الحسيني شارحاً " الصدق ":

" هو الفناء في الحق بالتجلّي الذاتي " (4).
ويبين القاشاني معنى التجلّي الشهودي بقوله:

" هو ظهور الوجود المسمى بإسم النور وهو ظهور الحق بصور أسمائه في الأكوان التي هي صورها , وذلك الظهور هو النفس الرحماني الذي يوجد به الكل ّ " (5).

ويقول مصطفى ابن الحسين الصادقي بأن العارف يذكر الله تعالى ويصقل قلبه " حتى صار بحيث إذا تجلّى له المحبوب لم ير في تلك المرآة إلا وجهه الكريم وهو قد اضمحلّ بجنب ذاك الجمال , وانمحق تحت أنوار الجلال , ولم يبق منه أثر ولا خبر بل استولى عليه الربّ سبحانه , فصار سمعه الذي به يسمع , وبصره الذي به يبصر ويده التي بها يبطش , فتجلّى الحق سبحانه حينئذ بذاته لذاته , وكان محباً لذاته بذاته جاز إطلاق إسم المحبوب على ذلك العبد " (6).

ويقول الوزير لسان الدين بن لخطيب: (أي النفس)
" فإذا جازت هذا المقام وهو فناء , وعدم منها الخلق بالكلية , وتجلّى لها الحق
_________
(1) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 38 ط ... المطبعة الخيرية مصر 1306 هـ.
(2) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 27.
(3) الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 71.
(4) جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج 1 ص 305.
(5) اصطلاحات الصوفية للقاشاني ص 156.
(6) المنهج الموصول إلى الطريقة الأنهج لمصطفى بن الحسين الصادقي مخطوط ص 8 , 9.
فشهدته موصوفاً بالصفة التي تليق به , فحينئذ يصح الوصول " (1).

وإليكم الآن ما قاله الجيلي عبد الكريم موضحاً معنى التجلي:

" التجلي الصوري ظهوره في مخلوقاته على اقتضاه القانون الخلقي التشبيهي " (2).

وأصرح من ذلك ماقاله في مقام آخر:

" إن االعبد إذا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يتجلّى عليه بإسم أو صفة , فإنه يفنى العبد فناء يعدمه عن نفسه , ويسلبه عن وجوده , فإذا طمس النور العبدي وفني الروح الخلقي أقام الحق سبحانه وتعالى في الهيكل العبدي " (3).

رقصات صوفية

تحت وطأة الشوق تشد نفسي رحالها
وتجد السير نحو أعماقها وغياهيبها السرية
لا مجال للفرار من قوة جاذبيتك
تجرفني أمواج سحرك الى لججي العميقة
فحبك أقوى من أن يُقاوم...
و هناك في مركز الكيان
أسمع صوتاً يهمس بإلحاح أن:
"اخلع نعليك، فالمكان الذي أنت فيه مقدس"
أخلع نعليّ،
أتجرد من كل تلك القشور التي لا فائدة منها، ولاخير فيها...
باتضاع أنحني...،
وبخشية مقدسة ألج عتبة مركز الكيان،
تتلاشى حدود الزمان والمكان بنشوة أبدية...
المغارة تنقلب سماء
دفء وحب ونور يملأ المكان...
ضجيج الصمت يوقظ حواس الحب العميقة...
نبض حب يخفق بشدة في قلب طفل ضعيف
ألمس حباً متجسداً بجسد غض
أستنشق عبير أبدية حق من أنفاسه
تبصر عيناي وجه الحب الحقيقي في ملامحه البريئة
أصوات ملائكية، ومكاغاة تغسل أذني بتناغمها
أفغر فمي اندهاشاً فتتلذذ نفسي وأذوق ما أطيب الرب
أستسلم بلا مقاومة لأمواج حبه الغامرة
كأطياف سرابية تتبدد الأفكار في محضره
ولا يبقى في مركز الكيان سواه...
كالبخور تنتشر عذوبة حبه
فتعبق أجوائي سحراً وعطراً
ويقول: " الإنسان الكامل هو مظهره الأكمل وجلاه ألأفضل " (4).

فليشاهد القارئ كيف أبدل الصوفية الحلول بكلمة " التجلي " , والحق أن التجلي الصوفي ليس إلا الحلول المسيحي.

ويستغرب الباحث حينما يجد الصوفية يبّرؤن أنفسهم عن الاعتقاد بالحلول , ومع هذه التصريحات والتوضيحات التي لا تترك مجالاً للريب والشك في هذا الخصوص.

ومقام الفناء - على حد تعبيرهم - هو الذي ادعى فيه كثير من مشايخ الصوفية الحلول والاتحاد حسب روايات المتصوفية كما نقلوا عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يقول:

" سبحاني ما أعظم شأني " (5).

فيقولون: أن قائل هذه الكلمة ليس أبا يزيد بل الله سبحانه وتعالى هو الذي قال بها كما صرح بذلك القشيري في رسالته حيث قال:

" قال أبو يزيد: سبحاني , ما قال إلا الحق " (6).
_________
(1) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 464 ط دار الفكر العربي.
(2) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 49 ط مصطفى البابي الطبعة الرابعة 1402 هـ.
(3) أيضاً ص 67.
(4) أيضاً ج 2 ص 17.
(5) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 75 , رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 73 , فوائح الجمال لنجم الدين الكبري ص 36 , درر الغواص للشعراني ص 85 , إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 204 , جمهرة الأولياء ج 1 ص 234.
(6) ترتيب السلوك للقشيري ص 73 من مجموعة الرسائل القشيرية ط إسلام آباد باكستان.
ويقول نجم الدين الكبري:

" تتجلّى سبحات وجهه الكريم ويجري على لسان السيار (الصوفي) بحكم الاضطرار: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني " (1).
لماذا هذا التستر وراء كلمة " التجلي " ولم يصرحون ويقولون " تحلّ " وما التجلّي غير الحلول باختلاف لفظي والمعنى واحد.

ونقل عن البسطامي أيضاً الهجويري يرى أنه كان يوماً في الصومعة , فجاءه رجل وقال:

هل أبو يزيد في البيت؟
فقال: هل في البيت إلا الله (2).

ونقلوا عنه أنه قال:

" ما في الجبة غير الله " (3).
وذكر الوزير لسان الدين عنه أيضاً أنه قال:

" قال لي الحق: يا أبا يزيد , كل هؤلاء خلقي إلا أنت , أنت أنا , وأنا أنت " (4).

وقال أيضاً: " رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد , إن خلقي يحبون أن يروك.

فقلت: زيّني بوحدانيتك , وألبسني أنانيتك , وأرفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك , فتكون أنت ذاك , ولا أكون أنا هنا " (5).

فهذا النص صريح في معناه , جليّ في محتواه , يدلّ على اتحاد اللاهوت بالناسوت , فالعجب ممن يؤولون مثل هذه النصوص يتأويلات سخيفة لتبرئة ساحة المتصوفة ويسمونها شطحات ويقولون: " لاعبرة بها لأن حكم أصحابها المغميّ عليهم " (6).
مع أن هذه العبارات ومثلها تقضي خروج أصحابها عن الدين , وأنها ضلال عن قصد السبيل , ونتيجة للاشتغال بالفلسفات الاشراقية وغيرها وإلاّ فلم لم تصدر
_________
(1) فوائح الجمال لنجم الدين الكبري ص 55.
(2) كشف المحجوب للهجويري ص 499.
(3) أنظر جمهرة الأولياء ع للمنوفي الحسيني ص 234.
(4) روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 353.
(5) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 461.
(6) أنظر حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2ص 373 بهامش قوت القلوب.
هذه العبارات من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهم أعبد الناس وأخشاهم لله.

وإن الله يحفظ وليه من التفوه بهذه الكلمات الكفرية , والشيطان هو الذي يتكلّم على ألسنتهم ويستولي على أذهانهم وقلوبهم. أعاذ الله جميع المسلمين من ذلك.

هذا وقد نقل الفيتوري عن أبي راوي الفحل أنه كان يقول:

" لا إله غيري , ولا معبود سواي إلى أن سمع به علماء أفريقية فأنكروا عليه , وأفتوا بتكفيره ففرّ منهم " (1).
ومن المعلوم أن أقوال الصوفية هذه ناتجة عن فكرة الفناء , فالصوفية يدّعون الألوهية لاعتقادهم بالحلول والاتحاد عند وصولهم إلى الله وفنائهم فيه حسب ما يزعمون.

فيقول الوزير لسان الدين بن الخطيب:

" ثم يفنى بعد ذلك الفناء الثاني. . . وكثير من الطوائف تدعي الحلول والاتحاد والكل متفقون على أنه لا يبقى في ذلك المقام إلا الله " (2).

وينقل الشعراني عن أبي مدين المغربي أنه كان يقول:

" إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره " (3).
ويقول محمد القونوي:

" الإنسان الكامل مجلى تام للحق , يظهر الحق به من حيث ذاته " (4).
وينسبون إلى الجيلاني أنه قال:

" قال لي الله: يا غوث الأعظم , ما ظهرت في شيء كظهوري في الإنسان " (5).
وأما أمر الحلاج وأقواله وأشعاره في هذا الخصوص فهي معروفة مشهورة نذكر بعضاً منها ونعرض عن الباقي لأننا نريد أن نفرد له ولأمثاله من ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والرومي وغيرهم كتاباً مستقلاً إن شاء الله , فمنها
_________
(1) الوصية الكبرى لعبد السلام الفيتوري ص 81.
(2) روضة التعريف للوزير لسان الدين ص 511.
(3) طبقات الشعراني ج 1 ص 154.
(4) رسالة النصوص لمحمد القونوي ص 42.
(5) مقدمة مقصود المؤمنون لبايزيد الأنصاري تقديم الصوفي الدكتور مير ولي خان ص 106 ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكسنان 1396هـ.

أنه سئل:

من أنت؟
قال: أنا الحق (1).

ومن أشعاره المشهورة:

" سبحان من أظهر ناسوته ... سرّ سنا لاهوته ... الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهراَ ... في صورة الأكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب " (2).

وأيضاً:

" رأيت ربي بعين قلبي ... فقلت: من أنت؟ قال: أنت
ففي بقائي ولا بقائي ... وفي فنائي وجدت أنت
أشار سري إليك حتى ... فنيت عني ودمت أنت " (3).

ومما يدلّ على جرأة المتصوفة على الكذب ونسبه القول إلى غير قائله أن ابن عجيبه الحسني نسب في إيقاظه نفس هذه الأبيات التي قالها الحلاج , نسبها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال:

" ومما ينسب لسيدنا علي كرم الله وجهه:

رأيت ربي بعين قلبي. . . إلخ " (4).
ويقول الحلاج أيضاً:

فأنا الحق حق للحق حق ... لا بس ذاته فما ثمّ فرق (5).

ومن أبياته المشهورة كذلك:

" أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
روحه روحي وروحي روحه ... من رأى روحين حلّت بدنا " (6).
_________
(1) أنظر مكاشفة القلوب للغزالي ص 26 ط الشعب القاهرة , أيضاً عوارف المعارف للسهروردي 79.
(2) ديوان الحلاج الطبعة الثانية بغداد 1404 هـ.
(3) ديوان الحلاج ص 37.
(4) أنظر إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 58 , 59.
(5) أيضاً ص 67.
(6) أيضاً ص 77 , 78.
هذا بالنسبة للحلول والاتحاد , والوصول والاتصال , الذي يسمونه بوحدة الشهود أيضاً.

وأما " وحدة الوجود " فسنذكر عقيدة الصوفية هذه بالتفصيل إن شاء الله عند ذكر ابن عربي وأفكاره في الكتاب المستقبل إن شاء الله , ولكننا نذكر هنا ملخصاً وإجمالاً.

فيعتقد كثير من الصوفية بأنه ليس هناك فرق بين الله وخلقه إلا أن الله تعالى كلّ , والخلق جزؤه , وأن الله متجلّ في كل شيء من الكون حتى الكلاب والخنازير , فالكل مظاهره , وما في الوجود إلا الله , فهو الظاهر في الكون , والكون مظهره.

فيقول ابن عربي:

" فلا مظهر له إلا نحن , ولا ظهور لنا إلا به , فبه عرفنا أنفسنا وعرفناه , وبنا تحقق عين ما يستحق الإله:

فلولاه لما كنا ... ولولا نحن ما كانا
فإن قلنا بأنا " هو" يكون الحق إيانا
فبدانا ... وأخفاه ... وأبداه ... وأخفانا
فكان الحق أكوانا وكنا نحن ... أعيانا
فيظهرنا ... لنظهر سراراً ثم أعلانا
ويقول أيضاً:

" فالكل أسماء الله , أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته , فما في الوجود إلا الله , والأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها " (1).

ويقول:

" فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده ةمن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات , فكما لا يزول عنه باختلاف الصور إسم الظل كذلك لا يزول باختلاف الصور إسم العالم أو إسم سوى الحق " (2).
_________
(1) أيضاً ص 53.
(2) فصوص الحكم لابن عربي ص 103 ط دار الكتاب العربي بيروت.
وأيضاً " أسماؤنا أسماء الله تعالى إذ إليه الافتقار بلا شك , وأعياننا في نفس الأمر ظله لا غيره " (1).

ويقول:
" يا محجوب لم لم تروجه الحق في كل شيء , في ظلمة ونور , مركب بسيط وولطيف وكثيف " (2).

ونصوص أخرى كثيرة له لم نذكرها تجنباً عن الإطالة ز

هذا ويقول حيدر الآملي:

" ليس في الوجود سوى الله " (3).

ونقل روزبهان بقلي شيرازي عن الشبلي أنه قال:

" ليس هناك غير الله " (4).

ونقل ابن عجيبة الحسني عن ابن وفا أنه قال:

" جميع العالمين له ظلال " (5).

ويقول: " ولا شيء في الكون سواه " (6).

وأيضاً: " فهل في الوجود أحد سوى الملك الحق " (7).

ويقول ابن عطاء الأسكندري:

" كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر في كل شيء إذ هو المتجلي فيها بمحاسن صفاته وأسمائه " (8).

ويقول النفزي الرندي:

" لا موجود سوى الله تعالى على التحقيق , وإن وجود ما سواه إنما هو وهم مجرّد " (9).
_________
(1) أيضاً ص 106.
(2) ذخائر الأعلاق لابن عجيبة ص 78 ط مطبعة السعادة القاهرة.
(3) كتاب نص النصوص لحدير الآملي مخطوط نقلا عن ملحقات ختم الأولياء ع ص 506 ط بيروت.
(4) شرح شطحيات ص 278 ط طهران 1360 هـ.
(5) إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 254.
(6) أيضاً ص 272.
(7) إيقاظ الهمم ص 56.
(8) الحكم العطائية لابن عطاء الله الأسكندري متن غيث المواهب العلية ج 1 ص 100.
(9) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 323.
والوزير لسان الدين بن الخطيب يذكر وحدة الوجود بقوله:

" قال بعض كبارنا: أن الحق عين ما ظهر , وعين ما بطن , ويرون (أي الصوفية) أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة , ووجود الإثنينية وهم , باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الظلال , والصدا , وصور المرائي (جمع مرآة) , وأن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم , كان الله ولا شيء معه " (1).

وأيضاً " فإذا سقطت الأوهام صار مجموع العالم بأسره وما فيه واحداً , وذلك الواحد هو الحق , وإنما العبد مؤلف من طرفي حق وباطل , فإذا سقط الباطل وهو اللازم بالأوهام لم يبق إلا الحق. . . فالكل واحد , وإن كان متفرقاً , فسبحان من هو الكل ولا شيء سواه " (2).
ويشرح فلسفة وحدة الوجود بايزيد الأنصاري قائلاً:

" إن الموجودات واحدة مع ذات المعبود. . . قال الشاعر:

ها أنا أم أنت هذان الإلهان
حاشاك حاشاك عن إثبات الاثنين
لإاين ذاتك حيث كنت أرى
قد بان ذاتي حيث لا أنا

كما قيل: من أثبت الله نفى النفس , ومن أثبت النفس نفى الله. . . والموحّد لا يشرك وجود مع ذات المعبود حتى لا يصير مشركاً (3).

فالشرك عندهم إثبات الأثنين إذ لا إثنينية عندهم.

وبذلك قال فخر الدين العراقي المتوفى 688 هـ:

" أأنت أم أنا هذا العين في العين ... حاشاي حاشاي من إثبات إثنين " (4).
ويقول أيضاً:
_________
(1) روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 499.
(2) أيضاً ص 603.
(3) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 235 وما بعد ط مجمع البحوث الإسلامية إسلام آباد باكستان.
(4) لمعات ص 56 الطبعة الأولى انتشارات مولى إيران.

" وما الوجه إلا واحد غير أنه ... إذا أنت أعددت المرايا تعدداً " (1).

يعني لا وجود سوى وجه الله والعالم كله عكس لذات الله ووجهه.
ويقول النسفي:
" إن الله هو الموجود حقيقة , والعالم كله خيال ووهم " (2).

ويقول الصوفي الشيعي محمد كاظم عصار: " أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله , وأن الحق تعالى أوجد العبادة في العباد , فهو في الحقيقة يعتبر معبوداً وعابداً وموجداً للعبادة , وحامداً وخالقاً للحمد ومحموداً " (3).

ويقول محمد القونوي:

" إن الوسائط السببية ليست غير تعيّنات الحق في المراتب الإلهية والكونية على إختلاف ضروبها. . . من حيث أن ظاهر الحق مجلي لباطنه " (4).
ويقول: " إن الله هو عين الظاهر وعين المظهر " (5).

وأما ابن الفارض فيقول:

" لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلّت
كلانا مصلّ ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أداء كل ركعتي " (6).

وأيضاَ:
" فبي موقفي لا , بل إليّ توجهي ... كذلك صلاتي لي , ومني كعبتي " (7).
_________
(1) أيضا ص 50.
(2) زبدة الحقائق للنسفي ص 82 ط كتابخانه طهوري إيران 1405هـ هجري قمري.
(3) رسالة وحدة الوجود لمحمد كاظم عصار ضمن ثلاث رسائل في الحكمة الإسلامية ترجمة صلاح الصادي ص 16 ط المطبعة المرتضوية إيران.
(4) رسالة النصوص لمحمد القونوي ص 37 ط نشردانشكا هي إيران 1362 هجري قمري.
(5) أيضاً ً ص 57.
(6) نقلاً عن مصرع التصوف للبقاعي المتوفى 885 هـ. تحقيق عبد الرحمن الوكيل ص 64 ط دار الكتب العلمية بيروت.
(7) أنزر مصرع التصوف للعلامة البقاعي ص 73.
وأيضاً:

" إليّ رسولاً كنت مني مرسلاً ... وذاتي بآياتي عليّ أستدلّت " (1).

يعني أنه هو المرسل , والرسول , والمرسل إليه.

فالحاصل أن الصوفية يعتقدون أن العالم كله ظل وعكس لذات الله تعالى , فهل في الوجود إلا الله , والإنس والجن , والشجر والحجر , والدود والدواب , والطيور والسباع , والكلاب والخنازير صور مختلفة للتجلي الإلهي , فكل شيء من العالمين إله عند الصوفية , وعلى ذلك نقل الطوسي عن أبي حمزة الصوفي أنه كان إذا سمع صوتاً مثل هبوب الرياح وخرير الماء وصياح الطيور فكان يصيح ويقول: لبيك (2).

ونقل عن أبي الحسين النوري أنه سمع نباح الكلاب فقال: لبيك وسعديك (3).

وأما تجلّيه سبحانه وتعالى وظهوره في القرود والخنازير - عياذاً بالله من نقل الكفر الصوفي البواح - فهو كما ذكر ابن عجيبة الحسني حيث نقل عن الششتري أنه قال:

" محبوبي قد عمّ الوجود , وقد ظهر في بيض وسود , وفي النصارى مع اليهود , وفي الخنازير مع القرود , وفي الحروف مع النقط , أفهمني قط , أفهمني قط " (4).
ونقل البقاعي عن بعض أهل العلم أنه " رأى شخصاً ممن ينتحل هذه المقالة القبيحة بثغر الأسكندرية , وأن ذلك الشخص قال له: أن الله تعالى هو عين كل شيء , فمرّ بهما حمار , فقال: وهذا الحمار؟

فقال: (أي الصوفي): وهذا الحمار.

فقال: وروث الحمار؟

فقال: وروث الحمار. نسأل الله السلامة والتوفيق " (5).

ويقول عبد الرحمن الوكيل محقق " مصرع التصوف ":
_________
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 495.
(2) أيضاً ص 492.
(3) إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 55.
(4) مصرع التصوف لبرهان الدين البقاعي ص 123.
(5) هامش مصرع التصوف للوكيل ص 123.
" ذكر الإمام ابن تيمية الصدوق مثل هذه القصة , فقال: مرّ شيخان منهم التلمساني والشيرازي على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم , فقال الشيرازي للتلمساني: هذا (وأشار إلأى جثة الكلب الأجرب) أيضاً هو ذات الله؟

فقال: وهل ثمّ شيء خارج عنها؟ نعم: الجميع ذاته.

وليس هذا بمستغرب ممن يدينون بأن الله سبحانه وتعالى عين كل شيء , فالروث شيء , وحسب الصوفية أن تكون هذه بعض أربابهم وآلهتهم " (1).

وقال في مقدمة كتاب " مصرع التصوف ":

" إن الصوفية ينشدون " وما الكلب والخنزير إلا إلهنا " (2).

هذا وإن الصوفية يعتقدون أن الشيطان أيضاً صورة لذات الله , تجلّت الذات الإلهية فيه , كما ذكر ذلك بايزيد الأنصاري:

" فالشيطان صورة تجلّى فيها بصفة الإضلال والإغواء " (3).

وبناء على هذه المعتقدات الكفرية الضالة وهذه الأباطيل الشركية الزائغة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كفر القائلين بالاتحاد أعظم من كفر النصارى ".
وقبل أن نتكلم عن الفكرة الباطلة الأخرى , فكرة وحدة الأديان نريد أن نبحث فكرة خبيثة نتجت عن " وحدة الوجود " , وهي: أن الصوفية قد عشقوا الصور الجميلة لاعتقادهم أنها مظاهر الحق , فتصوف وحدة الوجود دعوة إلى خلاعة ماجنة وإلى حبّ الشهوات الرذيلة , حيث جعلوا العشق الطبيعي سلّماً للحب الإلهي , وحاكوا في كتبهم الحكايات الغزلية والأساطير العشقية , وجعلوا مجنون ليلى قدوة لهم في حبّهم لله تعالى.

فيقول ابن عربي: ... " الجمال محبوب لذاته , فالعالم كله محب لله وجمال صنعه , سار في خلقه ,
_________
(1) مقدمة كتاب مصرع التصوف ص 5.
(2) المصدر السابق.
(3) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 244.
والعالم مظاهره , فحبّ العالم بعضه بعضاً من حب الله نفسه , فإن الحب صفة الموجود وما في الوجود إلا الله , والجلال والجمال لله. . . فلا محب ولا محبوب إلا الله عز وجل , فما في الوجود إلا الحضرة الإلهية , وهي ذاته وصفاته , وأفعاله " (1).

ويصرح في فصوصه: " فمن أحب النساء على هذا الحد فهو حب إلهي " (2).

فحب الصور الجميلة من النساء وغيرهن هو حب لله , لأن الله الظاهر فيهما.

ويقول: " فما أحب الله إلا الله , والعبد لا يتصف بالحب , إذ لا حكم له فيه , فإنه ما أحبه منه سواه , الظاهر فيه , وهو الظاهر " (3).

وأيضاً: " إن الحسن معشوقٌ لذاته في كل شيء ظهر " (4).

وجعلوا الحب السفلي سلّماً للحب الإلهي كما صرّح بذلك الوزير لسان الدين بن الخطيب بقوله:

" عشق الحادث للحادث ربما كان سلّماً للحب الحقيقي الوصل للسعادة " (5).
وصرح أيضاً ابن الدباغ حيث ذكر:

" وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة ... أما هذه فوق الركائب حورها
يقول خليلي والظباء سوانح ... أهذا الذي تهوى فقلت نظيرها
لئن شابهت أجيادها وعيونها ... لقد خالفت أعجازها وصدورها
أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... توسلّت قبّلتك تغورها
فقد صحّ أن الجمال الظاهر هو المعنى اللائح على الهياكل الإنسانية التي في غاية كمال الشكل وتمام الهيئة.

وأما الجمال الباطن فهو ما تفيده الأنوار القدسية الإلهية إذا أشرقت على العقول الزكية من الإتصاف بأنواع العلوم الدينية وأسرار المعارف الربانية المؤدية إلى المحبة
_________
(1) الفتوحات المكية لابن عربي ج 2 ص 114.
(2) فصوص الحكم لابن عربي ص 218.
(3) الفتوحات المكية ج 2 ص 111.
(4) ذخائر الأعلاق لابن عربي ص 38.
(5) روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين ص 292.
الحقيقية , ولا يدرك هذا الجمال إلا المعقول التي هي غاية الصفاء المستنيرة من أنوار الله التي تكون سبباً لحصول محبة الحق " (1).

ويقول:

" النظر إلى الجمال عبادة إذا قصد بالتعليق به الوصول إلى خالقه إذ لا يستدلّ على علم الصانع وقدرته إلا بإتقان صنعته وأحكامها. . . وكيف لا يكون النظر إلأى الجمال بهذا الاعتبار عبادة والناظر إليه مطالع لفاطره وواهبه , ومستدلّ به على جماله الذي لا ينبغي إلا له , إذ لا يعطي الجمال إلا من هو أجمل منه , ولا نسبة بين الجمالين كما لا نسبة بين المجاز والحقيقة والفعل والفاعل , بل لا يسمى الجمال المبدع جمالاً إلا من حيث النظر إلى موجده , وأما بالنظر إلى ذاته فهو مجاز محض.

والنظر إلى الواهب هو المقصود , وهذا موصل إليه ودالّ عليه (2).
فانظر إلى القوم كيف يدعون إلى معصية الله ورسوله بالحث على النظر إلى النساء الجميلة , بدليل أن النظر إلأى جمالهن يوصل إلى محبة الله ودال على حبّه إذ أنه هو خالق ذاك الجمال , وأن خالقه أجمل منه.

فأين قول الله عز وجل , الذي أمر فيه المؤمنين {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (3).

ولكن حب الشهوات قد استعبد الصوفية وذهب بهم إلى أنهم كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" النظر إلى الوجه الحسن عبادة " (4).

وفي ذلك يقول عبد الرحمن الوكيل:

" النساء عند الصوفية هنّ أجمل تعينات الذات الإلهية. . . ودائماً ترى الصوفية
_________
(1) مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ ص 47 , 48 ط ... دار صادر بيروت 1379 هـ.
(2) أيضاً ص 120.
(3) سورة النور الآية 30.
(4) مشارق أنوار القلوب ص 116.
يلهجون بذكر النساء , ويرونهن أكمل وأجمل وأتم تعينات الذات الإلهية ومجاليها , وهذا يجعلك تؤمن بأن هناك في أعماق التصوف حيواناً ضارياً يستعبده الشبق والغلمة الداعرة , ويستعلن دائماً بالصريخ الملتهب عما يزلزله من رجفات الشهوات العارمة , وينزو بعربدته على كل مقدسات الدين ومحارم الفضيلة , وتؤمن كذلك أن من مقومات التصوف عبادة المرأة , وتعرف عن يقين لماذا يبحث الصوفية عن درويشات يسلكن معهم طريق القوم " (1).

وأما الاستدلال من أبيات مجنون وأقواله وحكاياته فكما ذكر الوزير لسان الدين في مسألة عبادة الله لا خوفاً ولا رجاءً , يستدل على كون المحبة هي الأصل , لا الخوف والرجاء , من أشعار مجنون يذكرها في روضته:

لو قيل لمجنون ليلى أوصلها
تريد أم الدنيا وما في طواياها
لقال: غبار من تراب نعالها
أحبّ إلى نفسي وأشفى لبلواها (2).
يذكر لسان الدين هذه الأبيات الغزلية ثم يبني عليها قاعدته في الحب بذات الله مستدلاً منها ومن الفلسفة التي ذكرت فيها.

هذا ونقل الشعراني عن الشبلي أنه كان يقول:

" قيل لمجنون بني عامر: أتحبّ ليلى؟
قال: لا.
قيل: ولم؟
قال: لأن المحبة ذريعة للوصلة , وقد سقطت الذريعة , فليلى أن , وأنا ليلى " (3).

فذكر هذه الحكاية واستدل منها على اتصال الصوفي بذات الله سبحانه وتعالى.

ويدعم الطوسي قول من قال: " أنا أنت وأنت أنا " بحب مجنون ليلى , فيقول:

" أما قول القائل " أنا أنت وأنت أنا " فمعناه الإشارة إلى ما أشار إلأيه الشبلي , رحمه الله حيث قال في مجلسه: يا قوم , هذا مجنون بني عامر كان إذا سئل عن ليلى , فكان يقول: أنا
_________
(1) هامش مصرع التصوف ص 141 , 142.
(2) روضة التعريف بالحب الشريف ص 428.
(3) طبقات الشعراني ج 1 ص 104.

ليلى , فكان يغيب بليلى عن ليلى حتى يبقى بمشهد ليلى , ويغيبه عن كل معنى سوى ليلى , ويشهد الأشياء كلها بليلى " (1).
وابن عربي يذكر أنواع الحب وكيفياته , فيقول:

" كان قيس ليلى في هذا المقام , حيث كان يصيح: ليلى , ليلى , في كل ما يكلّم به فإنه كان يتخيّل أنه فقيد لها , ولم يكن. وإنما قرب الصورة المتخيّلة أفرطت في القرب فلم يشاهدها , فكان يطلبها طلب الفائدة , ألا تراه حين جاءته من خارج فلم تطابق صورتها الظاهرة الصورة الباطنة المتخيّلة , التي مسكها في خياله منها , فرآها كأنها مزاحمة لتلك الصورة فخاف فقدها , فقال لها: إليك عني , فأنا حبّك شغلني عنك , يريد أ، تلك الصورة هي عين الحب , فبقي يطلبها: ليلى , ليلى " (2).

يذكر هذا النص ثم يقارن بين الحب الطبيعي والحب الإلهي ويربط العلاقة بينهما.

وروى الشعراني عن أبي الحسين الشيراوي أنه كان يقول:
" رؤى مجنون بني عامر في المنام بعد موته , فقيل له: ما فعل الله بك؟
فقال: غفر لي وجعلني حجة على المحبين " (3).

وإليكم الآن ما قاله الجيلي شارحاً " العشق " ومستدلاً منه على الفناء الإصطلاح الصوفي , فيقول:

" إذا طفح الودّ حتى أفنى المحب والمحبوب سمي عشقاً , وفي هذا المقام يرى العاشق معشوقة فلا يعرفه ولا يصيح إليه , كما روي عن مجنون ليلى أنها مرّت به ذات يوم فدعته إليها لتحدثه , فقال لها: دعيني فإني مشغولٌ بليلى عنك , وهذا آخر مقامات الوصول والقرب فيه ينكر العارف معروفه , فلا يبقى عارف ولا معروف , ولا عاشق ولا معشوق , ولا يبقى إلا العشق وحده , والعشق هو الذات المحض الصرف الذي لا يدخل تحت رسم ولا نعت ولا وصف , فهو أغنى العشق في إبتداء ظهوره يفنى العاشق حتى لا يبقى له إسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف , فإذا امتحن العاشق وانطمس أخذ العشق في
_________
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 437.
(2) الفتوحات المكية لابن عربي ج 2 ص 111.
(3) طبقات الشعراني ج 1 ص 120.
فناء المعشوق والعاشق , فلا يزال يفنى منه الإسم ثم الوصف ثم الذات فلا يبقى عاشق ولا معشوق , فحينئذ يظهر العاشق بالصورتين ويتصف بالصفتين , فيسمى بالعاشق ويسمى بالمعشوق " (1).

هذا ويستدل الطوسي وابن الدباغ على فناء العبد في محبة الله من حكاية عاشق ومعشوق أنهما:
" ركبا سفينة فزلّت قدم أحدهما من أعلى السفينة فسقط في البحر , فلما رآه صاحبه لم يتمالك أن سقط معه , فلما إلى السفينة قال الأول منهما لصاحبه: أنا سقطت دون قصد وأنت لماذا سقطت؟

فقال له: ظننت أنني أنت , وغبت عن نفسي فسقطت.

كلّما مسك شيء مسنّي ... فإذا أنت أنا في كل حال " (2).
وذكروا هذه الحكاية كدليل على الحلول الصوفي والفناء في الذات الإلهي , وكبرهان على القاعدة الصوفية " تقوى المحبة بحسب قوتها حتى لا يفهم المحبّ أن بينه وبين محبوبه فرقاً أصلاً كما قيل:

أفنيتني بك عني ... يا غاية المتني
أدينيتني منك حتى ... ظننت أنك أني " (3).

ويقيس ابن الدباغ محبة الله على محبة الأشخاص , ويحمل وصفة على وصف العباد حيث يقول:

" إن المحب إذا تحقق في مقام وجد الموجود , وظهرت عليه آثار الشهود , يشهد محبوبة في سائر الذوات , وصفاته مع سائر الصفات , فلا يرى الوجود سواها ولا يراها سواه:
_________
(1) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 80 , 81 ط ... مصطفى البابي الطبعة الرابعة.
(2) كتاب اللمع للطوسي ص 437 , أيضاً مشارق أنوار القلوب لابن الدباغ ص 9.
(3) مشارق أنوار القلوب للدباغ ص 8.
وطارحني غنج اللحاظ معانياً
أغار عليها أن تلمّ بمسمعي
فكرّرت طرفي في الوجود بأسره
فلم أر فيه غير معناك مقنعي
وطالعت في سرّ الهوى فإذا التي
أطوف عليها في معالمها معي " (1).

ويذكر في موضع آخر من كتابه قاعدة من قواعد الحب ثم يستدل عليها من حكايات غزلية عشقية , فيقول:

" سئل سري السقطي: هل يجد المحب طعم الألم؟
فقال: لا , قيل: وإن ضرب بالسيف؟
قال: وإن ضرب بالسيف سبعين ضربة على ضربه.
وحكى أن بعض الشطّار ضرب مائة سوطاً فما تألم بذلك , ثم ضرب بعد ذلك سوطاً واحداً فتألم وصاح , فسئل عن ذلك فقال: العين التي كنت أضرب من أجلها كانت معي ناظرة إليّ فلم أجد للضرب ألماً , فلما غابت عني رجعت إلى جسمي فوجد الألم.

وكذلك أيضاً حكي أن بشر بن الحارث قال: رأيت شخصاً ببغداد قد ضرب ألف سوط ولم يتكلم , فلما حمل إلى السجن تبعته فسألته عن سكوته , فقال: معشوقي الذي كنت أضرب من أجله كان حذائي ينظر إليّ , قلت: فلو نظرت إلى المعشوق الأكبر؟

قال: فزعق زعقة وخرّ ميتاً " (2).

وكذلك عماد الدين الأموي يبين أصلاً من أصول المحبة ثم يدعمها بحكاية غزلية , فيقول:

" وأصل حال المحب أن يقطع تشوقه عن كل شيء سوى محبوبه , فمن نظر إلى سواء فهو محجوب من مولاه.
يحكى أن بعض الناس رأى امرأة جميلة فاشتغل قلبه بها فقال لها: كلي بك مشغول , فقالت: إن كان كلّك بكلي مشغول , فكلي لك مبذول , لكن لي أخت لو رأيت حسنها وجمالها لم تذكرني , فقال: أين هي؟

فقالت: وراءك , فالتفت وراءه فلطمته لطمة وقالت: يا كذاب , لو كنت صادقاً فيما قلت لم يلتفت إلى غيري " (3).
_________
(1) مشارق ص 37.
(2) نفس المصدر ص 75.
(3) حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 119.
وأما نجم الدين الكبري فيذكر العشق نقلاً عن الجنيد أنه سئل عن العشق , فقال: " لا أدري ما هو , ولكن رأيت رجلاً أعمى عشق صبياً , وكان الصبي لا ينقاد له , فقال الأعمى: يا حبيبي , أيش تريد مني؟
قال الصبي: روحك , ففارق روحه في الحال " (1).

ثم يقول:

" وقد يفنى العاشق في العشق , فيكون العاشق هو العشق , ثم يفنى العشق في المعشوق , عشقت جارية بقرية على ساحل نيل مصر , فبقيت أياماً لا آكل ولا أشرب إلا ما شاء الله , حتى كثرت نار العشق فكنت أتنفّس نيراناً , فتتلقى الناران ما بيني وبين السماء , فما كنت أدري من ثمة أين تلتحقان. فعملت أن ذلك شاهدي في السماء " (2).
فهكذا أعتقد الصوفية أن الله يتجلّى في الصور الجميلة من النساء والصبيان , فالعشق بهنَّ هو العشق بذات الله تعالى , وعلى ذلك لا يستحيون من ذكر وقائعهم التي مضت بهم من العشق بالجواري والصبيان.

فهذا هو الحب الذي قالوا عنه:

" الحب حج ثان " (3).

ونقلوا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال:

" لو ولّيت حساب الخلق يوم القيامة لم أعذب أحداً من العشاق لأنهم لا اختيار لهم في عشقهم " (4).

وأخيراً نذكر من ابن الفارض أبياته الخليعة المشهورة حيث ينشد:

ففي النشأة الأولى تراءت (أي الذات الإلهية) لآدم
ففي مرة لبني وأخرى بثينة
بمظهر حواء قبل حكم الأمومة
وآوانه تدعي بعزة عزت
وتظهر للعشاق في كل مظهر
ولَلسْنَ سواها , لا وَلا كُّنَّ غيرها
من اللبس في أشكال بديعة
وما إن لها في حسنها من شريكة (5).
_________
(1) فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبرى ص 37 , 38 ط ألمانيا بتحقيق المستشرق فريتز مائر.
(2) أيضاً ص 39.
(3) أنظر روضة التعريف بالحب الشريف للوزير لسان الدين ط دار الفكر العربي.
(4) أيضاً ص 415.
(5) مصرع التصوف ص 101 ط دار الكتب العلمية بيروت.

ثم يعلّق عليها الوكيل بقوله:

يفتري سلطان الزنادقة أن الذات الإلهية - أتم وأجمل ما تتجلّى - في صورة النساء الجميلات , ويفتري أنها تجلّت في صورة ليلى وبثينة وعزة , وقد رمز بهنّ عن كل أمرأة جميلة عاشقة معشوقة , ولما كان من طبيعة هذا الرب الصوفي العشق , كان لا بد له من التجلّي في صور عشاق ليعشق , ويعشق , فتجلّى في صور قيس وجميل وكثير عشاق أولئك الغانيات.
وقد رمز بهم عن كل فتى اختبله الحب وتيمته الصبابة.

قم يفتري أيضاً الزعم بأن العاشق ليس غير العشيقة , بل هو هي , فالرب الصوفي عشق وعاشق وعشيقة (1).

وأما وحدة الأديان فيؤمن بها الصوفية نتيجة إيمانهم بوحدة الوجود , فيقولون: إن الله هو الظاهر في كل شيء , والشيء يطلق على الصنم أيضاً فكل من عبد شجراً أو حجراً , حيواناً أو إنساناً , كوكباّ أو ملكاً , فهو في الحقيقة يعبد الله , وهذا هو معنى " لا إله إلا الله " عندهم كما يقول عبد الكريم الجيلي:

" لا إله إلا أنا: يعني الإلهية المعبودة ليست إلا أنا , فأنا الظاهر في تلك الأوثان والأفلاك والطبائع , وفي كل ما يعبده أهل كل ملّة ونحلة , فما تلك الآلهة إلا أنا , ولهذا أثبت لهم لفظة الآلهة , وتسمية لهم بهذه اللفظة من جهة ما هم عليه في الحقيقة تسمية حقيقة لا مجازية , ولا كما يزعم أهل الظاهر أن الحق إنما أراد بذلك من حيث أنهم سموهم آلهة , لا من حيث أنهم في أنفسهم لهم هذه التسمية , وهذا غلط منهم وافتراء على الحق , لأن هذه الأشياء كلها بل جميع ما في الوجود له من جهة ذات الله تعالى في الحقيقة هذه التسمية تسمية حقيقة , لا كما يزعم المقلد من أهل الحجاب أنها تسمية مجازية , ولو كان كذلك لكان الكلام أن تلك الحجارة والكواكب والطبائع والأشياء التي تعبدونها ليست بآلهة , وأن لا إله إلا الله أنا فأعبدوني , لكنه إنما أراد الحق أن يبين لهم أن تلك
_________
(1) هامش المصرع ص 101.
الآلهة مظاهر , وأن حكم الألوهية فيهم حقيقة وأنهم ما عبدوا في جميع ذلك إلا هو , فقال (لا إله إلا أنا) أي ما ثم ما يطلق عليه إسم الإله إلا وهو أنا , فما في العالم ما يعبد غيري , وكيف يعبدون غيري وأنا خلقتهم ليعبدوني ولا يكون إلا ما خلقتهم له , قال عليه الصلاة والسلام في هذا المقام " كل ميسر لما خلق له " أي لعبادة الحق لأن الحق تعالى قال (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وقال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) فنبه الحق نبيه موسى عليه السلام على أن أهل تلك الإلهة إنما عبدوا الله تعالى , ولكن من جهة ذلك المظهر , فطلب من موسى أن يعبده من جهة جميع المظاهر فقال (لا إله إلا أنا) أي ما ثم إلا أنا , وكل ما أطلقتموه عليه إسم الإله فهو أنا " (1).

ويقول العطار:

" ليس في عين الإنسان إلا شيء واحد , حيث لا وجود هنا للكعبة والدير " (2).

ويقول الشعراني:

" إعلم أن الموحد سعيه بأي وجه كان توحيده (3) وإن لم يكن مؤمناً بكتاب ولا رسول ويدخل الجنة.

وأما ابن عربي فأمره مشهور , وقد ذكر في كتبه نصوصاً عديدة , وأنشد أبياتاً كثيرة تدلّ على أنه يؤمن بوحدة الأديان , فعبادة الأصنام والأوثان عنده هي عبادة الله تعالى , والدير لديه كالكعبة , الكنيسة كالمسجد , لتنوع التجليات الإلهية , فهو الظاهر المتجلي في كل شيء , فيقول:

" لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ... فمرعى الغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف ... وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ... ركائبه فالدين ديني وإيماني
لنا أسوة في بشر هند وأختها ... وقيس وليلى ثم ميّ وعيلان " (4).
_________
(1) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج 1 ص 99.
(2) منطق الطير لفريد الدين عطار ص 389 ط ... دار الأندلس بيروت.
(3) اليواقيت والجواهر للشعراني (2/ 58).
(4) ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق لابن عربي ص 49 وما بعد.
وأنشد أيضاً:

" فوقتا أسمى راعي الظبى بالفلا ... ووقتاً أسمى راهباً ومنجماً
تثلّث محبوبي وقد كان واحداً ... كما صيّروا الأقنام بالذات أقنما " (1).

وصرح قائلاً:
" العارف المكمّل من رأي كل معبود مجلي للحق يعبد فيه , ولذلك سمّوه كلهم إلهاً مع إسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك , هذا إسم الشخصية فيه , والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده , وهي على الحقيقة مجلي الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلي المختص " (2).

وعبادة العجل عنده هي عبادة الله كما يقول:

" وكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل , لعلمه بأن الله قد قضى ألاّ يُعبد إلاّ إياه , وما حكم الله بشيء إلا وقع. فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه. فإن العارف من يرى الحق في كل شيء , بل يراه عين كل شيء " (3).

ويؤمن كذلك بدخول جميع الناس في الجنة , مسلماً كان أم كافراً. حيث يقول:

" فقد بان لك عن الله تعالى أنه في أينية كل وجهة , وما ثمّ إلا الاعتقادات. فالكل مصيب , وكل مصيب مأجور , وكل مأجور سعيد , وكل سعيد مرضي عنه , وإن شقي زماناً ما في الدار الآخرة " (4).

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.